فماذا ترى في مثل هذا السياق؟ أتراه صادرا عن عقل منطقي، أم تراه تعبيرا عن شعور ووجدان؟ أتراه محكم الحلقات نتائج ومقدمات، أم تراه قفزا من قول إلى قول بغير صلة ولا رباط؟
هذه لمحات قصار سراع نستشهد بها على أن عقلية الشرق الأوسط لها من الطابع المنطقي ما للعقل الغربي سواء بسواء، يضاف إليها قلب المتدين ووجدان الفنان.
الفصل الرابع عشر
ذلك أنه إلى جانب الفلسفة الإسلامية القائمة على منطق العقل، ترى جماعة المتصوفة المسلمين يلجئون لمعرفة الحق إلى شيء غير العقل ومنطقه؛ إذ يلجئون إلى الحدس المباشر، أي إنهم يلجئون إلى دمج أنفسهم في الحق دمجا يتيح لهم أن يشهدوه شهودا مباشرا وأن يتذوقوه، وهذه - كما أسلفنا لك القول في مواضع كثيرة - هي نفسها وسيلة الفنان في الإدراك، فهذا هو «ذو النون» المصري المتصوف (توفي 859م) يقول في عبارة صريحة: «إن المعرفة الحقيقية بالله ... ليست من علوم البرهان والنظر، التي هي علوم الحكماء والمتكلمين والبلغاء، ولكنها معرفة صفات الوحدانية التي لأولياء الله خاصة؛ لأنهم هم الذين يشاهدون الله بقلوبهم، فيكشف لهم ما لا يكشفه لغيرهم من عباده.» وكذلك يقول: «المعرفة الحقيقية بالله هي أن ينير الله قلبك بنور المعرفة الخالص ...» «والعارفون بالله فانون عن أنفسهم، لا قوام لهم بذواتهم، وإنما قوامهم من حيث ذواتهم بالله، فهم يتحركون بحركة الله، وينطقون عن الله بما يجريه على ألسنتهم، وينظرون بنور الله في أبصارهم.» وهكذا ترى «ذا النون» - جريا على سنة المتصوفة جميعا - يجعل الإدراك دمجا للذات العارفة في الموضوع المعروف، فلا يكون هنالك إلا حق واحد، فيه اتحد الإنسان بالله؛ إذ تفنى ذاتية الإنسان بزوال صفاته البشرية جميعا، بحيث لا يكون له بعدئذ بقاء إلا بما قد أفنى نفسه فيه من صفات الله؛ وتلك حالة شديدة الشبه بحالة «النرفانا» التي حدثناك عنها حين حدثناك عن الشرق الأقصى، فقلنا إن الفرد الناظر بحدسه المباشر إلى محيطه الكوني، إنما ينمحي فيه انمحاء تاما، فينمحي تبعا لذلك وهمه بأن له وجودا حقيقيا خاصا به.
ولمن شاء كذلك أن يقرأ «تائية» عمر بن الفارض (ولد بالقاهرة 1182م، وتوفي بها 1235م)، التي ترقى إلى أن تكون آية من آيات الأدب الصوفي في العالم كله؛ فهو في هذه القصيدة العصماء يتكلم بلسان الصوفي الذي وصل إلى مقام «الاتحاد»، وفيها يصف فناء ذاته في محبوبه (الذات الإلهية) بأنها حالة تتجرد فيها النفس من رغباتها وميولها وبواعثها، بحيث تتعطل إرادتها وتموت، فإذا ماتت الإرادة أصبحت النفس طوع الإرادة الإلهية تحركها كيف تشاء، وهذا هو حب الله لها، ولكن المحب والمحبوب يكونان شيئا واحدا، فيتحد العابد والمعبود، والعاشق والمعشوق في شخصية واحدة:
كلانا مصل واحد ساجد إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أدا كل ركعة •••
فلا حي إلا من حياتي حياته
Unknown page