[شرح المقدمة] بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك يا مروج عقول العارفين بمظاهر كمالك ليلا ونهارا، ونشكرك يا مفرج قلوب السالكين بظواهر جلالك سرا وجهارا، ونشهد أن لا إله إلا أنت شهادة توجب لنا في مقام قربك مستقرا وقرارا. ونصلي على سيد أنبيائك وأشرف أوليائك صلاة دائمة ما دامت الأرض ساكنة والفلك دوارا (1).
وبعد فيقول المفتقر إلى رحمة ربه الغني حسام الدين محمد صالح بن أحمد المازندراني: إني قد رسمت على جميع أبواب الكافي تعليقات، ورقمت على جميع فنونه تحقيقات، مع قلة البضاعة في هذه الصناعة وتشتت البال وتفرق الحال فلما أردت جمعها وتدوينها خطر ببالي أن أشرح جميع أحاديث هذا الكتاب شرحا متوسطا بين الايجاز والاطناب; لأن الأحاديث وإن كان بعضها ظاهر الدلالة على المعنى المراد واضح الإشارة على المفهوم المستفاد، لكن قد يوجد فيه من الفرائد النفيسة والفوائد الشريفة ما لا يدركه بدء النظر، ولا يبلغه أول الفكر، كم من لئالي فريدة تؤخذ في الساحل لغفلة الواردين عنها، وعدم التفات الطالبين إليها، فها أنا أشرع في المقصود بعون الله الملك المعبود مبتدئا بشرح الخطبة لما فيها من منافع الحكمة.
* الأصل بسم الله الرحمن الرحيم «الحمد لله المحمود لنعمته، المعبود لقدرته، المطاع في سلطانه، المرهوب لجلاله، المرغوب إليه فيما عنده النافذ أمره في جميع خلقه، علا فاستعلى، ودنا فتعالى، وارتفع فوق كل منظر، الذي لا بدء لأوليته، ولا غاية لأزليته، القائم قبل الأشياء، والدائم الذي به قوامها، والقاهر الذي لا يؤوده حفظها، والقادر الذي بعظمته تفرد بالملكوت، وبقدرته توحد بالجبروت، وبحكمته أظهر حججه على خلقه، اخترع الأشياء إنشاء، وابتدعها ابتداء (2) بقدرته وحكمته لا من شئ فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداء، خلق ما شاء كيف شاء متوحدا بذلك لاظهار حكمته،
Page 17
وحقيقة ربوبيته، لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير روية، ووصف بغير صورة ، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال» * الشرح:
أبتدأ باسمه الحميد مقتديا بالسلف وبالقرآن المجيد ومعتمدا بما قاله سيد البشر «كل أمر ذي بال لم يبدء فيه باسم الله فهو أبتر» وفي ذكر الاسم إيماء إلى أن المراد بهذه الأسماء الشريفة المسميات وأن الاستعانة في الاستفاضة وقعت بأسمائها، لأن لتلك الأسماء من الشرف والكمال ما لا يعرف قدره الغواصون في بحار آثارها والوصافون بشرح منافعها وأسرارها، على أن الاستعانة بالاسم تدل على الاستعانة بالمسمى قطعا دون العكس، وإنما خص هذه الأسماء بالذكر لأنها أصل لأصول الفيض عاجلا وآجلا. ومبدئا بحصول الرجاء ظاهرا وباطنا.
(الحمد لله) اختلفوا في تحديد الحمد والأحسن ما ذهب إليه بعض المحققين من الصوفية ومال إليه المحقق الشريف العلامة الدواني، وهو أن الحمد إظهار صفات الكمال بالقول أو بالفعل، والثاني أقوى من الأول; لأن الأفعال التي هي آثار السخاوة مثلا تدل عليها دلالة عقلية قطعية لا يتصور فيها التخلف بخلاف الأقوال فان دلالتها عليها وضعية وقد يتخلف عنها مدلولها، وعلى هذا كان حمده تعالى على ذاته حمدا على سبيل الحقيقة، بل هو من أفضل أفراده لأنه تعالى كشف عن صفات كماله ببسط بساط الوجود على ممكنات لا تحصى، ووضع عليها موائد كرمه التي لا تتناهى، إذ كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في العبارات مثل هذه الدلالات. وما اشتهر من أن الحمد في اللغة الثناء باللسان على الجميل، وفي العرف أعم منه ومن عقد الجنان وفعل الأركان، فهو باعتبار أن هذه الأمور من الأفراد الشايعة لذلك المفهوم، لا أن الحمد مختص بها كما فهمه الأكثر وحكموا بأن حمده تعالى على ذاته مجاز، واللام في «الحمد» للجنس أو الاستغراق وفي «لله» للاختصاص يعني أن جنس الحمد أو جميع أفراده مختص به سبحانه وبينهما تلازم، وصح ذلك لأنه تعالى مبدء كل كمال ومرجع كل جلال.
(المحمود بنعمته) للحمد أركان أربعة: الحامد، والمحمود، والمحمود به والمحمود عليه. والأولان قد يتحدان بالذات كحمده تعالى على ذاته ، وقد يتغايران كحمدنا له تعالى، وكذا الأخيران كحمده تعالى بالنعمة لأجلها. وحمده بالعلم لأجل إنعامه. إذا عرفت هذا فنقول: النعمة في قوله: «بنعمته» إما محمود عليها إن كانت الباء سببا للحمد أو محمود بها إن كانت صلة له، ولا يلزم من
Page 18
الحمد بها أن يكون الحمد لأجلها; لجواز أن يكون لأجل غيرها، كما إذا حمدت زيدا بالشجاعة لأجل سخاوته. وفي بعض النسخ «لنعمته» باللام وهو يؤيد الأول كما يؤيده نظيره في القرينة الثالثة.
لا يقال: لا يصح جعل الحمد للنعمة علة للحمد على ما يقتضيه قاعدة التعليق بالوصف; لأنه من باب تعليل الشئ بنفسه.
لأنا نقول: على تقدير اطراد تلك القاعدة الحمد لأجل النعمة بمنزلة العلة الغائية لجنس الحمد فيصح أن يجعل علة له. وإنما ابتدأ بعد التسمية بالحمد لحفظ ما أدرك من آلائه، وجلب ما يترقب من نعمائه، مع أنه من أفضل الطاعات وأكمل العبادات إذ الحامد يلاحظ جماله وجلاله ويراعي إحسانه وإفضاله فيكون ذلك سببا لمزيد امتنانه حالا ورضوانه مآلا.
(المعبود لقدرته) قدم الحمد للنعمة على الحمد للقدرة مع أن القدرة من الصفات الذاتية التي هي أجدر بالثناء عليها; لأن النعمة قد وصلت إلى الحامد بخلاف القدرة فان الواصل إليه إنما هو أثره، فالنعمة أولى بالحمد لها بهذا الاعتبار ولقد أحسن في جعل النعمة سببا لمحموديته والقدرة سببا لمعبوديته، لأن نعمته الواصلة إلى الغير توجب الحمد من حيث هو وقدرته على جميع الممكنات توجب العبادة والتذلل لله تعالى.
(المطاع في سلطانه) السلطان التسلط والقهر أو الحجة والبرهان، وقد فسر بهما قوله تعالى:
(فقد جعلنا لوليه سلطانا) والله سبحانه مطاع بالمعنيين لكونه قاهرا على جميع الممكنات فيطيعه كل ما كان في عنقه ربقة الامكان، وينقاد له كل من احتجب عن الحس أو يشار إليه بالبنان، لا يقدر شئ أن يتجاوز عن حده المقدر وكماله المقرر بالأمر المبرم والقضاء المحكم، وغالبا على جميع المخلوقات بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة، فلا يتمكن أحد أن يرد حجته وبرهانه ويمنع دليله وفرقانه، ولفظ «في » إما للظرفية أو للسببية والثاني أولى بالنظر إلى السابق واللاحق، واستعمالها فيه شايع حتى قيل: إنها حقيقة فيه.
(المرهوب لجلاله) قال في المغرب رهبه: خافه رهبة، والله مرهوب، ومنه «لبيك مرهوب ومرغوب إليك» ويفهم منه أن مرهوبا متعد بنفسه، والذي يفهم من كلام ابن الأثير في النهاية أنه متعد بمن، وعلى هذا حذف «من» للاقتصار كما هو المتعارف، واللام لأن من عرف عظمته وجلاله ولاحظ غناه عن الخلق وكماله وعلم أن كل موجود بأسره مقهور تحت حكمه وأمره، وهو يتصرف فيه ما يشاء كيف يشاء، ويحكم ما يريد كيف يريد، ولا يسئل، حصلت له بذلك رهبة وخوف يتحير فيه العقول حيث رأى نفسه عارية عن الاختيار في الرد والقبول كما هو المعروف من أحوال الأنبياء والصلحاء وبه يظهر سر قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
Page 19
(المرغوب إليه فيما عنده) من النعم الدنيوية والاخروية جليها وخفيها يقال: رغب فيه وإليه إذا أراده وطمع فيه وحرص عليه. الرغبة السؤال والطلب، وإنما عقب بالرهبة الرغبة للتنبيه على وجوب مقارنتهما في التحقق، إذ لا خير في رهبة بلا رغبة، ولا رغبة بلا رهبة، بل وجب تقارنهما وتساويهما كما دل عليه بعض الأخبار ويرشد إليه قوله تعالى في وصف الأنبياء والأولياء (إنهم يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) وقوله تعالى: (وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين) وإنما ترك سبب الرغبة للإشارة إلى أن ذاته بذاته هو الجواد المطلق، فلا حاجة في بسط الرجاء إلى ملاحظة شئ آخر غير ذاته أو لاندراج سببها تحت سبب الرهبة لأن جلالته المطلقة كما يكون بالقهر والغلبة على ما عداه ممن اتصف بسمة الامكان كذلك يكون بالرحمة واللطف والاحسان; إذ لولا الثاني لكانت عظمته وجلالته مقيدة بوجه من الوجوه فحينئذ نقول من ملاحظة الأول تحصل الرهبة ومن ملاحظة الثاني تحصل الرغبة، ولا يجوز ملاحظة أحدهما وحده، لأنه يستلزم القنوط أو الجرأة وكلاهما مذموم، أو نقول في كل واحد من الأول والثاني تحصل الرهبة والرغبة جميعا، أما في الأول فلأن لطفه مستور في قهره فمن حيث القهر تحصل الرهبة ومن حيث اللطف تحصل الرغبة، واليه يشير قوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) وأما في الثاني فلان قهره مستور في لطفه وإحسانه لاحتمال أن يكون ذلك على سبيل الاستدراج، وإليه يشير قوله تعالى حكاية عن سليمان (عليه السلام) (ليبلوني ءأشكر أم أكفر) وقوله تعالى: (ولئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) وبالجملة هو مرهوب ومرغوب إليه دائما، والعبد راغب وراهب في جميع الأحوال واليه يشير قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «هو المأمول مع النقم والمرهوب مع النعم» (1).
(النافذ أمره في جميع خلقه) أي أمر التكوين، أو أمر الافناء والإعدام، أو حكم القضاء، أو أمر التشريع بإرادة لازمة من الثواب والعقاب دون ظاهره بأنه متعلق بالثقلين منهم من أطاعه ومنهم من عصاه.
(علا فاستعلى) الاستعلاء هنا لزيادة المبالغة أي علا في رتبته عن رتبة المخلوقين، فاستعلى عن التشبه بصفاتهم، والتفريع ظاهر لأن الأول مستلزم للثاني، وإن أردت زيادة توضيح فنقول: العلو يطلق بالاشتراك على معان ثلاثة:
الأول الحسي كالعلو بحسب المكان. الثاني التخيلي كعلو الملك على رعيته. والثالث العقلي
Page 20
كعلو السبب على المسبب، والأول محال في حقه تعالى لاستحالة كونه في المكان، وكذا الثاني لتنزهه عن الكمالات الخيالية إذ هي إضافية تتغير وتدرك بحسب الأشخاص والأوقات، ولا شئ من كماله كذلك فبقي أن يكون عقليا مطلقا بمعنى أنه لا رتبة تساوي رتبته.
بيان ذلك: أن أعلى مراتب الكمال العقلي هو مرتبة العلية ولما كان ذاته المقدسة هي مبدء كل موجود حسي وعقلي وعلته التي لا يتصور فيها النقصان بوجه من الوجوه لاجرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية على الاطلاق وله العلو في الوجود العاري عن الإضافة إلى شئ، وعن إمكان أن يكون في مرتبته أو فوق مرتبته شئ ومن كان كذلك فهو منزه عن التشبه بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(دنا فتعالى) أي قرب من كل شئ من كل وجه بحيث لا يكون شئ أقرب منه فتعالى أن يكون في مكان أو زمان أو مدركا بالبصر أو بغيره من الحواس، والتفريع أيضا ظاهر لأن الزماني والمكاني والمدرك بالحواس يمتنع أن يكون قريبا من كل شئ لظهور أن قربه من أحد مستلزم لبعده عن الآخر، ثم الدنو يطلق على معان ثلاثة ومقابلة لمعاني العلو ولا يجوز أن يراد هنا شئ منها، ويطلق على معنى رابع في مثل قولك فلان أدنى إلى فلان إذا كان مطلعا على أحواله أكثر من غيره، وهو المراد هنا، فدنوه في قربه إذن بحسب علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو أدنى من كل دان، وأقرب من كل قريب بهذا الاعتبار، كما قال سبحانه: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).
(وارتفع فوق كل منظر) الظرف حال من فاعل «ارتفع». ويجوز أن يراد بالمنظر العلة لأن نظر المعلول إليها، يعني أنه فوق كل علة لأن تاليه نظر جميع الكائنات وانتهاء سلسلة جميع الممكنات، وأن يراد به المدرك بالعقل يعني أنه فوق كل ما أدرك العقل لأن كل ما أدركه العقل فهو صورة ومثال يمتنع أن يقال: إنه هو، ويحتمل أن يكون هذا الكلام على سبيل التمثيل والله أعلم.
(لا بدأ لأوليته) لاستحالة الحدوث عليه. (ولا غاية لأزليته) لاستحالة العدم عليه. (القائم قبل الأشياء) أي قبل كل واحد منها، لأنه كان ولم يكن معه شئ ثم أحدثه بمجرد حكمته فهو متفرد بالقدم، وفيه رد على بعض الفلاسفة، وليس المراد بالقبلية القبلية الزمانية حتى يلزم أن يكون في زمان وأن لا يكون متقدما عليه، لأن القبلية الزمانية إنما يكون في الزمانيات كما بين في موضعه والله سبحانه ليس بزماني.
(والدائم الذي به قوامها) قوام الشئ - بالكسر -: نظامه، وتقديم الظرف للحصر; وفيه رد على من أسند نظام هذا العالم إلى غيره كالدهرية والمبتدعة من الفلاسفة وأضرابهم.
Page 21