Sharḥ ʿUmdat al-aḥkām li-Ibn Jibrīn
شرح عمدة الأحكام لابن جبرين
Genres
مشروعية عد الذكر بالأنامل
والمشروع أن يسبحه بعد كل صلاة، ويشرع أيضًا أن يعد التسبيحات والتكبيرات بأصابع يديه اليمين واليسار، وقد ثبت أنه ﷺ قال لبعض أمهات المؤمنين: (اعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات ومستنطقات) والأنامل: هي أصابع اليدين معًا، فيدل على أنه يشرع أن يعد بالأصابع كلها، لا يقتصر على اليد اليمنى كما اشتهر عن بعض المتأخرين أنهم اختاروا عدّ التسبيح باليد اليمنى، ولم يعهد هذا عن المتقدمين الذين قرأنا لهم، فالمتقدمون لم يخصوا اليد اليمنى بالعدّ فقط، بل يذكرون أنه يعد التسبيح بأصابعه أو بأنامله ويستدلون بهذا الحديث: (اعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات ومستنطقات) يعني أن جميع هذه الأصابع تشهد وتنطق بما عدته من هذه الأذكار ونحوها.
وقد ورد أن النبي ﵊ حث على أن تعد هذه الأذكار فقال ﷺ: (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) ومعلوم أن مائة مرة تحتاج إلى العد بالأصابع كلها لا بيد واحدة، فإن العد بيد واحدة قد يسبب الغلط والخطأ، وكذلك التهليل الذي ورد مائة مرة أيضًا.
وأما الحديث الذي يستدل به في سنن أبي داود فهو حديث صحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ﷺ كان يعلم أصحابه الذكر، ويقول لهم: (عليكم أن تسبحوا وتكبروا دبر الصلوات)، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (رأيت النبي ﷺ يعقد التسبيح بيده) هكذا الرواية، وكلمة (بيده) اسم جنس يدخل فيها اليد اليمنى واليد اليسرى، وكثيرًا ما تطلق اليد ويراد بها اليدان، أما رواية: (بيمينه) فقد انفرد بها راوٍ واحد تفرد عن عدد من الرواة فأبدل كلمة (بيده) بكلمة (يمينه)، ولا شك أن تطرق الخطأ إليه أولى من تطرق الخطأ إلى عشرين راويًا كلهم يقولون: (بيده) .
فيقال أولًا: إن هذا المقام مقام تعليم، وإنه ﵊ إنما كان يعد التسبيح بيده ليعلم أصحابه، فيمكن أن يكون اقتصر على يدٍ واحدة، يحتمل أنها اليد اليسرى ويحتمل أنها اليد اليمنى.
ويقال ثانيًا: قد يطلق اسم اليد على اليدين، (بيده) يعني بجنس اليد، فيدل على أنه عدّ التسبيح باليدين معًا، ولكن ذكر إحداهما كقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك:١] وكقوله: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ [آل عمران:٢٦] مع قول النبي ﷺ (الخير بيديك)، فاليد هنا اسم للجنس يعم اليدين، وعلى كل حال: لا شك أن عدها باليدين وعدّ التسبيح بالأصابع كلها أفضل لكونه عبادة استعمل فيها جوارحه، واستعمال الجوارح الكثيرة أفضل.
وأما استدلالهم بقول عائشة (كان النبي ﷺ يحب التيمن في ترجله وتنعله وطهوره وفي شأنه كله) فهو حديث صحيح، ولكن ليس معناه أنه يقتصر على اليد اليمنى، بل معناه أن يبدأ بها، فإذا توضأ غسل اليمنى قبل اليسرى، وإذا انتعل لبس اليمنى قبل اليسرى، وإذا ترجل بدأ بالشق الأيمن قبل الأيسر، فكذلك إذا سبح، يبدأ العد بأصابعه اليمنى ثم بأصابعه اليسرى، فليس فيه أنه يقتصر على واحدة، فعرف بذلك أن الأفضل والسنة أن يستعمل أصابع يديه كلها، ولا حرج في استعمال اليسرى في عدّ الأصابع لأنها إحدى يديه؛ ولأنها طاهرة، ولا يقال: كيف يعد بها التسبيح وهو يستنجي بها أو نحو ذلك؟! فإنها يد طاهرة، ويتكئ عليها في الركوع، ويسجد عليها في السجود، وتوضع على الفخذ في التشهد.
وهي إحدى يديه، فلا مانع من أن يعد بأصابعها التسبيح، والتسبيح ليس باليد ولا بالأصابع إنما هو باللسان، ولكنها مجرد ضبط عدد حتى لا يخطئ.
وعلى كل حال فهذا التسبيح الذي ورد في قوله ﷺ: (تسبحون وتكبرون وتحمدون ثلاثًا وثلاثين) يدل على فضيلة ومزية الذكر، وأن على الإنسان أن يحرص على الإتيان بهذه الأذكار بعد الصلوات الخمس، فإذا انصرف من الصلاة يقول: اللهم أنت السلام إلى آخره، ثم يبدأ بقوله: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر حتى يكمل ثلاثًا وثلاثين.
20 / 6