ـ[شرح تنقيح الفصول]ـ المؤلف: أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: ٦٨٤هـ) المحقق: طه عبد الرؤوف سعد الناشر: شركة الطباعة الفنية المتحدة الطبعة: الأولى، ١٣٩٣ هـ - ١٩٧٣ م عدد الأجزاء: ١ [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

Unknown page

الباب الأول في الاصطلاحات وفيه عشرون فصلًا الفصل الأول في الحد الحد: هو شرح ما دل عليه اللفظ بطريق الإجمال. إنما بدأت بالحد في هذا الكتاب؛ لأن العلم إما تصور أو تصديق، والتصديق مسبوق بالتصور، فكان التصور وضعه أن يكون قبل التصديق والتصور إنما يكتسب بالحد كما أن التصديق لا يكتسب إلا بالبرهان، فكان الحد متقدمًا على التصور المتقدم على التصديق، فالحد قبل الكل طبعًا، فوجب أن يقدم وضعًا: فلذلك تعين تقديم الحد أول الكل، وهذا السبب أيضًا في تقديم الباب الأول في الاصطلاحات؛ فإن الاصطلاحات هي الألفاظ الموضوعة للحقائق، واللفظ هو المفيد للمعنى عند التخاطب، والمفيد قبل المفاد، فاللفظ ومباحثه متقدمة طبعًا، فوجب أن تتقدم وضعًا. فإن الغزالي في مقدمة المستصفي (١): أخلف الناس في حد الحد فقيل: حد الشيء هو نفسه وذاته، وقيل: هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يجمع ويمنع. فقال ثالث. تصير حينئذ هذه المسألة مسألة خلاف، وليس الأمر كما قال هذا الثالث؛ فإن القائلين الأولين لم يتواردا على محل واحد، بل الأول اسم الحد _________ (١) أنظر المستصفي ص ٣١ - ٣٢ طبعة مكتبة الجندي، وإن كان المعنى واحدًا فإن التعبير مختلف.

1 / 4

عنده موضوع لمدلول لفظ الحد، والثاني: اسم الحد عنده موضوع للفظ نفسه، ومتى كان المعنى مختلفًا لم يتوارد فلا خلاف بينهما. . قال: والمختار عندي أن الشيء له في الوجود أربع رتب - حقيقة في نفسه وثبوت مثاله في الذهن ويعبر عنه بالعلم التصوري. الثالث: تأليف أصوات بحروف تدل عليه وهي العبارة الدالة على المثال الذي في النفس. الرابع: تأليف رقوم تدرك بحاسبة البصر دالة على اللفظ وهي الكتابة، والكتابة تبع اللفظ إذ تدل عليه، واللفظ تبع للعلم، والعلم تبع للمعلوم. فهذه الأربعة متطابقة متوازية، إلا أن الأولين وجوديان حقيقيان لا يختلفان في الأعصار والأمم، والآخرين وهما اللفظ والكتابة يختلفان في الأعصار والأمم لأنهما موضوعان بالاختيار. والحد مأخوذ من المنع، وإنما أستعبر لهذه المعاني لمشابهتها في معنى المنع. قلت ومنه سمي السجان حدادًا لأنه يمنع المعتقل من الخروج من السجن، وسميت الحدود حدودًا لأنها تمنع الجناة من العودة إلى الجنايات. قال: فانظر أين تجد المشابهة في هذه الأربعة، فإذا ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاضرة للشيء بخصوصه، لأنه حقيقة كل شيء ليست لغيره وثابتة له فهي جامعة مانعة، وإذا نظرت إلى الصورة الذهنية وجدتها أيضًا كذلك والعبارة أيضًا كذلك لأنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق، والكتابة مطابقة للفظ المطابق فهي مطابقة، فقد وجدنا المنع والجمع في الكل، غير أن العادة لم تجر بإطلاق اسم الحد على الكتابة ولا على العلم، بل اللفظ والحقيقة فقط؛ فاللفظ مشترك بينهما، وكل واحد منهما يسمى حدًا، واللفظ المشترك لا بد لكل مسمى من مسمياته من حد يخصه، فمن حد المعنى الأول قال القول الشارح: ومن حد الثاني قال حقيقة الشيء ونفسه. قلت: قال غيره لكل حقيقة أربع وجودات: وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في البيان ووجود في البنان. يريد الأربعة المتقدمة. مسألة: قال هل يجوز أن يكون للشيء الواحد حدان؟ قال أما اللفظي والرسمي فلا ينضبط عددهما لإمكان تعدد اللفظ الدال على الشيء وجواز تعدد

1 / 5

لوازم الشيء، فمن كل لازم رسم، ومن كل لفظ يؤلف دلالة. قلت: ومعنى قولنا في حد الحد: إنه شرح ما دل عليه اللفظ، نعني باللفظ لفظ السائل، فإنه إذا قال: ما حقيقة الإنسان؟ فقلنا له هو الحيوان الناطق، فهو إن كان عالمًا بالحيوان وبالناطق فهو عالم بالإنسان وإنما سمع لفظ الإنسان ولم يعلم مسماه وعلم أن له مسمى غير معنى؟ فبسطنا له نحن ذلك المسمى المجهول وقلنا له: هو الحيوان الناطق فصال مفصلًا ما كان عنده مجملًا بالنظر إلى اللفظ لا بالنسبة إلى مسمى اللفظ في نفسه، ولا بالنسبة إلى الحقيقة، وإن فرضناه جاهلًا بحقيقة الإنسان فقد حددنا له بما هو مجهول عنده، فوجب حينئذ أن يكون حدنا باطلًا، لأن التحديد بالمجهول لا يصح، لكنه صحيح فدل ذلك على أنه كان عالمًا بالحقيقة، فما أفاده حينئذ أن يكون حدنا باطلًا، لأن التحديد بالمجهول لا يصح، لكنه صحيح فدل ذلك على أنه كان عالمًا بالحقيقة، فما أفاده حينئذ لفظنا إلا بيان نسبة اللفظ إلى المعنى الذي يسأل عنه. . فإن قلت: هل يتصور أن يكتسب بالحد حقيقة مجهولة فإن ما ذكرته يمنع من ذلك؟ قلت: لا شك أن من لم يعرف الحبر قط إذا سأل عنه يمكننا أن نقول له: هل تعرف الزاج والعفص والسواد والماء؟ (١) فيقول: نعم، فنقول له: اعلم أنه عبارة عن ماء العفص والزاج يجمع بينهما فيحدث حينئذ السواد، فهذا هو الحبر؛ فيئول الحال إلى تعريف الهيئة الاجتماعية من هذه البسائط المعلومة له، أما تعرفه بما يجهله فلا سبيل إليه، والهيئة الاجتماعية وقعت في نفسه بعد أن كانت مجهولة، بخلاف المثال المتقدم في الإنسان، ومع هذا فلا تخرج من هذه الصورة عن الحد المتقدم، وإنما شرحنا ما كان مجملًا بألفاظ بسائط الزاج وغيره. وهو غير المحدود إن أريد به اللفظ وعينه إن أريد به المعنى. هذا هو إشارة على القولين المتقدمين اللذين حكاهما الغزالي، ولا شك أن لفظ الحيوان والناطق الذي وقع في التحديد هو غير الإنسان، ومدلول هذا اللفظ هو عين الإنسان. _________ (١) هي المواد المكونة للحبر

1 / 6

وشرطه أن يكون جامعًا لجملة أفراد المحدود مانعًا من دخول غيره معه. الحد أربعة أقسام: جامع مانع، ولا جامع ولا مانع، وجامع غير مانع، ومانع غير جامع. وأمثِّلها كلها بالإنسان. فقولنا الحيوان الناطق في حد الإنسان هو الجامع المانع. وقولنا في حده: هو الحيوان الأبيض ما جمع، لخروج الحبشة وغيرهم من السودان، وغير مانع لدخول الإبل والغنم والخيل والطير البيض. وقولنا في حده: هو الحيوان جامع غير مانع، فجمع جميع أفراد الإنسان لم يبق إنسان حتى دخل في لفظ الحيوان، وما منع الدخول الفرس وغيره في حده. وقولنا في حده هو الحيوان، الرجل ما منع لأنه لا يتناول هذا اللفظ إلا الإنسان، وغير جامع لخروج النساء والصبيان وغيرهم منه، فهذه الأربعة ليس فيها صحيح غلا الأول وهو الجامع المانع، والثلاثة الأخر باطلة لعدم الجمع أو عدم المنع أو عدمهما، والحد إنما أريد للبيان، وليس بيان الحقيقة بأن يترك بعضها لم يتناوله الحد، فيعتقد السائل أنه ليس منها أو يدخل معها غيرها فيعتقد أنه منها فيقع في الجهل، وإنما قصد الخروج منه بسؤالنا، وهذا الشرط يشمل الحدود والرسوم وتبديل اللفظ باللفظ على ما سيأتي. وقولنا جامع هو معنى قولنا مطرد، وقولنا مانع هو معنى قولنا منعكس، فالجامع المانع هو: المطرد المنعكس. قاعدة: أربعة لا يقام عليها برهان، ولا يطلب عليها دليل ولا يقال فيها لِمَ؟ فإن ذلك كله نمط واحد، وهي: الحدود والعوائد والإجماع والاعتقادات الكائنة في النفوس، فلا يطلب دليل على كونها في النفوس، فلا يطلب دليل على كونها في النفوس بل على صحة وقوعها في نفس الأمر. فإن قلت: فإذا لم يطالب على صحة الحد بالدليل ونحن قد نعتقد بطلانه، فكيف الحيلة في ذلك؟. قلت: الطريق في ذلك أمران. أحدهما: النقص كما لو قال: الإنسان عبارة عن الحيوان، فيقال له: ينتقض عليك بالفرس فإنه حيوان مع أنه ليس بإنسان. وثانيهما: المعارضة كما لو قال: الغاصب من الغاصب يضمن لأنه غاصب، أو ولد

1 / 7