الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد
قال أبو الطيب يمدح الأمير الدولة أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان عند نزوله إنطاكية، (ومنصرفه) من الظفر بحصن برزويه، في جمادى الأخيرة من ستة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وهي أول ما أنشده. رحم الله الجميع بمنه.
وفاؤُكما كالرَّبعِ أشْجاهُ طاسِمُه ... بأن تُسْعِدا والدَّمعُ أشْفَاهُ ساجِمُهْ
يقول: وفاؤكما لي بالإسعاد على الحب كهذا الربع، الذي أشجاه
1 / 157
للنفس ما ذهب من آثاره، وعفا من رسومه، ووفاؤكما كذلك، وإذا عدمت إسعادكما جلست استشف بالدمع الذي هو جنة المحزون. وأشفاه ساجمه كما أن وفاؤكما أشجاه للنفس ذاهبه.
وما أنا إلاّ عاشقُ كُلُّ عاشقٍ ... أعقُّ خَلِيْلَيْهِ الصَّفَّيينِ لائِمُهُ
ثم قال، مبينًا لعذره، وطاعنًا على صاحبيه في لومه: وما أنا إلا عاشق يريد: أنه كمن تقدمه من العشاق، وكل عاشق خليليه المصافيين الذي يؤثر لومه، ويستجيد عذله، فلا شكر ما أكرهه من لومكما، وأرغبه من إسعادكما.
وقد يَتَزَيا بالهَوَى غَيْرُ أهْلِهِ ... وَيَسْتَصْحِبُ الإنْسَانُ من لا يُلائِمُهْ
ثم أكد ملامة صاحبيه، بأنهما منعاه ما يمكنهما من إسعاده، بظاهر يتكلفانه له وإن لم يعتقداه بالهوى أهله، ويستصحب الإنسان من لا يوافقه على رأيه.
بَلِيْتُ بِلَى الأطْلالِ إنْ لَمْ أقِفْ بها ... وُقوفَ شَحِيْحٍ ضَاعَ في التُّرْبِ خَاتِمُهْ
ثم دعا على نفسه، مستبصرًا في مذهبه، بأن يبلى بلى الأطلال
1 / 158
الدارسة، ويتغير تغير الرسوم العافية، إن لم يقف بديار أحبته، متتبعًا لها، ومعتنيًا بها، وقوف شحيح ضاع خاتمه في الترب. واعتمد خاتمه؛ لأنه صغير الجرم، مهم الأمر،
فلصغره يخفى موضعه، ولاهتمامه يحب تتبعه. واشترط ضياعه في الترب ليكون تطلبه فيه، وهو موضع آثار الديار، ورسوم الأطلال.
كَئِيْبًَا تَوَقَّاني العَوَاذِلُ في الهَوَى ... كَمَا يَتَوَقَّى رَيَّضَ الخَيْلِ حَازِمُهْ
ثم يقول: إنه يقف في هذه الأطلال كئيبًا محزونًا، يتوقاه عاذله، ويتخوفه لائمه، كما يتوقى الذي يحزم الفرس الريض صولته، ويحذر نفرته.
قِفي تَغْرَمِ الأولى مِنَ اللَّحْظِ مُهْجَتي ... بِثَانيةٍ وَالمُتْلِفُ الشَّيَء غَارِمُهْ
ثم خاطب محبوبته، فاستوقفها ليطلب لحظته الأولى لها، بمهجته التي أتلفتها؛ لأن المتلف غارم. واشترط اللحظة الأولى، يشير بذلك إلى تناهي
1 / 159
حسن محبوبته؛ لأن من أتلف في أول لحظة فهو من الحسن في أرفع مرتبة.
سَقَاكِ وَحَيانا بِكِ الله إنَّما ... عَلَى الْعِيسِ نَوْرُ والخُدُودُ كَمائِمُهْ
ثم دعا لمحبوبته بالسقيا، رعاية لها، وتمنى قربها، شغفًا بها، ثم مائل شيئين بشيئين أحسن مماثله؛ مثل الخدور المشتملة على أحببته بالأكمام المشتملة على النور، ومثل حسن أحببته بحسن النور، فماثل بين ساترين مستطرفين، ومستورين مستحسنين.
وما حَاجَةُ الأظْعَان حَوْلَكِ في الدُّجَى ... إلى قَمَرٍ ما واجدُ لَكِ عَادِمُهْ
ثم ذكر أن الأظعان حول محبوبته لا تحتاج إلى الاستنارة بقمر؛ لأنها تستغني بضيائها، وتستنير بحسنها، ولا يعدم القمر من وجدها.
إذا ظَفِرتْ مِنْكِ العُيُونُ بِنَظْرَةٍ ... أَثابَ بها مُعْي المَطِيِّ وَرَازِمُهْ
ثم قال: إن العيون إذا ظفرت بلحظة من محبوبته أوجبت من النشاط، وبعثت من الفرج، ما يثوب معه إلى المعي نشطته، وإلى الضعيف قوته.
حَبيبُ كأنَّ الحُسْنَ كان يُحِبُّهُ ... فَآثَرَهُ أوْ جَارَ في الحُسْنِ قاسِمُهْ
ثم وصف حبيبته بوفور الحظ من الحسن، حتى كأن الحسن أحبه، فخصه بجملته
وآثره في قسمته.
1 / 160
تَحُولُ رِمَاحُ الخَطَّ دُونَ سِبَائِهِ ... وَيُسْبَى لهُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ كَرائِمُهْ
ثم قال: إن محبوبته من قوم أعزة، لا يطرح عدو في أن يسبي فيهم، ولا تعتصم كرائم غيرهم منهم، وإنها تأمن السبي، ويسبى لها كرائم الأحياء.
وَيُضْحَى غُبارُ الخْيلِ أدْنَى سُتُورِهِ ... وآخِرُهَا نَشْرُ الكِبَاءِ المُلازِمُهْ
ثم ذكر: أن أدنى ستورها ممن أرادها غُبار خيول قومها، وأقربها منها دخان بخورها، فوصفها بأشد المنعة، وذكر أنها في غاية النعمة.
وَمَا اسْتَغْرَبَتْ عَيْني فِرَاقًَا رأيْتُهُ ... ولا عَلَّمَتْني غَيْرَ ما القَلْبُ عَالُمِه
ثم قال: إنه لم يستغرب ما طرقه به الدهر من فراق أحبته، لما تصرف فيه من حوادث الأيام وفجائعها، وإنما علم ما علم، وطرق بما عهد.
فلا يَتَّهِمْني الكَاشِحُونَ فَإنني ... رَعَيْتُ الرَّدَى حَتَّى حَلَتْ لي عَلاقِمُهْ
ثم قال: فلا يتهم الكاشحون قوله، ولا يستنكروا أمره، فقد تقلب في صروف الدهر وشدائده حتى استحلى مرة، واستسهل صعبه.
1 / 161