شرح شواهد المغني
تأليف
الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة ٩١١ هـ
[الجزء الأول]
Unknown page
بين يدي الكتاب
عني علماء العربية برواية الشعر وحفظه، واستشهدوا به في كلامهم، واستدلوا على صحة قواعد اللغة وشواذها بالبيت يستشهدون به، كما مثلوا بالمثل يضربونه، وعلى صحة اللفظ بالآية يتلونها، وهم أيضا كما عنوا بحفظ الشعر وروايته عنوا بمعرفة اسم الشاعر، وحددوا عصره، ولذلك فقد قسموا الشعر الى عصور، والشعراء الى طبقات، فكان (١):
١ - الطبقة الأولى: الشعراء الجاهليون، وهم قبل الاسلام، كامرئ القيس والأعشى ..
٢ - الطبقة الثانية: الشعراء المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والاسلام، كلبيد وحسان ...
٣ - الطبقة الثالثة: الشعراء المتقدمون - ويقال لهم الاسلاميون - وهم الذين كانوا في صدر الاسلام كجرير والفرزدق ...
٤ - الطبقة الرابعة: المولدون - ويقال لهم المحدثون - وهم من بعدهم كبشار وأبي نواس ...
وعلى أساس هذا التقسيم اتفقوا على أن الطبقتين الاوليتين يستشهد بشعرهما إجماعا، وأن الطبقة الثالثة، فالصحيح صحة الاستشهاد بكلامها، وأما الطبقة الرابعة فانه لا يستشهد بكلامها مطلقا.
ثم فيما بعد قسمت الطبقة الاخيرة - أي الرابعة - الى طبقات: طبقة المولدين، وطبقة المحدثين، وطبقة المتأخرين. واختلف فيمن يستشهد من الشعراء بشعرهم من هذه الطبقات. وكان الجلال السيوطي ممن يؤيد الرأي القائل بعدم الاحتجاج بشعر هذه الطبقات الاخيرة، فقد ذكر في الاقتراح: أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين
_________
(١) انظر مقدمة كتاب خزانة الادب للبغدادي.
1 / 3
والمحدثين في اللغة والعربية، وذلك بخلاف الزمخشري صاحب الكشاف، وليس استشهاد سيبويه بشعر بشار مما يؤخذ فيه أو يعتبر حجة على الاستشهاد بأقوال المولدين، لأن أستشهاده كان خوفا من هجاء بشار.
وهم لهذا كله عنوا أيضا بمعرفة قائل الشعر، وصحة نسبة الشعر اليه. فقد تبين من تقسيم الشعراء الى طبقات من يصح الاستشهاد بشعرهم، ومن لا يصح.
وأنه لا يجوز الاحتجاج بشعر وكذا بنثر لا يعرف قائلة (وعلة ذلك مخافة أن ذلك الكلام مصنوعا أو لمولد، أو لمن لا يوثق بكلامه) (١). وما ذلك الا حفظا للغة القرآن الكريم، وليتضح حديث النبي المرسل ومعرفة الدخيل في اللغة من الأصيل، كما وضعت قواعد اللغة وأصل الاعراب لتجنب اللحن كما هو معروف ...
سقنا هذه المقدمة القصيرة لتبيان الغاية التي توخاها الامام الجليل السيوطي في كتابه (شرح شواهد المغني) والذي نقوم على نشره الآن. وقد ألفت في النحو كتب كثيرة وقام على خدمتها رجال أفاضل علماء، كان أبعدهم صيتا واكثرهم ذكرا جمال الدين بن هشام الانصاري المتوفي سنة ٧٦١ هـ فقد ألف في هذا الباب عدة كتب أشهرها وأعظمها (مغني اللبيب عن كتب الاعاريب) والذي أصبح أهم مرجع في نحو اللغة العربية لا زال يتدارسه أهل العربية حتى زماننا، لذلك وضعت عليه عشرات الحواشي والشروح ليسهل حفظه، وابن هشام من أكثر النحويين استثمار للشواهد وايرادا لها سواء كان من القرآن أو الحديث أو المثل السائر، أو بالشعر والنثر. وقد لاحظ الجلال السيوطي أن اتمام الفائدة وتحقيقا لصحة الاستشهاد ان ينسب كل قول لقائله ويحل ما يشكل من لفظ أو معنى لفظ، وان يعرّف بصاحب الشاهد فكان كتابه هذا (شرح شواهد المغني).
والكتاب على ضخامته ليس للسيوطي فيه الا الجمع والترتيب، وان كان لا يخلو من بدوات أو فقرات يعبر السيوطي عن رأيه فيها. وهو مع هذا كله كلف نفسه جهدا وصبرا ومشقة، اذ لم يكتف بذكر الشاهد واسم قائله، وانما يدرج القصيدة كاملة التي منها الشاهد، وان لم يكن فقسما كبيرا منها، أو اشهر أبيات القصيدة مع تفسير ما أشكل من كلماتها وصعب. وان كان يوجد اختلاف في الرواية فانه يدرج كافة الاختلافات والروايات مع اسناد كل قول الى قائله، وقد أودع كتابه كثيرا مما حوته كتب اللغة والشعر، وبذل مجهودا مشكورا في ترتيب ما نقله ووضعه في محله، وهو مما يدل على سعة اطلاعه واحاطته الشاملة، الى امانة في النقل وذكر المرجع الذي نقل عنه، ولربما نجد احيانا انه يتصرف في العبارة أو يبتر قسما منها، وأنا بذلك لا أتهم السيوطي وانما ارجع السبب الى اختلاف نسخ كتب الأدب أو اللغة التي ينقل عنها السيوطي مما نلاحظه الآن في مخطوطاتنا وان الاصل بذلك تخليط الذي يخط الكتاب أو صعوبة قراءة الخط ...
_________
(١) الانصاف في مسائل الخلاف للانباري.
1 / 4
وهذا الكتاب قد طبع للمرة الاولى بالمطبعة البهية بالقاهرة سنة ١٣٢٢ هـ
وقام على نشره المرحوم أمين افندي الخانجي بتصحيحات العالم العلامة الشيخ محمد أمين الشنقيطي بن التلاميد التركزي وقد حافظنا على هذه التصحيحات مع تعليقاته لما فيها من بعد نظر وفائدة كبيرة تدل على ما
لهذا الرجل الكبير من علم وذكاء وعبقرية كما هو واضح من الاطلاع عليها، وللشيخ تعليقات كثيرة على أكثر كتب الأدب والشعر واللغة كانت منارا لمن أتى من بعده.
وأما عملنا نحن في هذا الكتاب فلم يعد الترتيب والتبويب واصلاح اخطاء الطبعة السابقة مع تقويم اعوجاجها ان أمكن، كما أحلنا إلى المراجع التي استند اليها السيوطي كدواوين الشعراء وكتب الأدب والمعجمات اللغوية، مع تكملة مالا بد من تكملته من عبارة أو قول أو شعر وتحقيق ما يمكن تحقيقه. وقد رأينا ان هناك كثيرا من الالفاظ في حاجة الى شرح لغرابتها أو ندرتها فأثبتنا ذلك تعليقا بحواشي الكتاب مستفيدين في ذلك من امهات كتب اللغة والادب والتي أشار الى أكثرها السيوطي في نقوله.
راجين بهذا العمل ان نكون قد أدينا بعض الواجب تجاه لغتنا الشريفة فان نكن أحسنا فحسب والا فاننا نتمثل بقول الشاعر:
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
* * *
الإمام السيوطي:
هو الامام جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال بن محمد بن سابق الدين بن الفخر عثمان بن ناظر الدين محمد بن سيف الدين خضر بن نجم الدين أبي الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد بن الشيخ همام الدين الخضيري الاسيوطي.
هذا نسبه كما ذكره هو عن نفسه في كتابه حسن المحاضرة ٢/ ١٤٠، ولد مستهل رجب سنة تسع واربعين وثمانماية بأسيوط، فنشأ يتيما وحفظ القرآن وهو دون ثمان سنين، وتتلمذ على الشيخ شهاب الدين الشارمساجي ثم من بعده ولده، وعلى شيخ الاسلام شرف الدين المناوي وتقي الدين الشبلي الحنفي ومحي الدين الكافيجي والشيخ سيف الدين الحنفي وغيرهم.
ظل السيوطي طوال عمره مشتغلا بالتدريس والفتيا، متفرغا للعلم والتأليف، وبلغت كتبه ثلاثماية كتاب في التفسير والقراءات والحديث والفقه والاجزاء المفردة والعربية والأداب، كما ذكر في حسن المحاضرة، وعد له بروكلمان ٤١٥ مصنفا بين كتب كثيرة ورسائل ومقامات، وقد طبع منها اكثرها وهو مما يدل على علمه الغزير، وسعة اطلاعه وصبره وجلده على التأليف مع عفة نفسه وعلو قدره.
1 / 5
وقد توفي ﵀ تاسع عشر جمادي الأولى سنة احدى عشرة وتسعماية بعد ان عاش اثنين وستين عاما.
أما صاحب كتاب المغني ابن هشام الأنصاري فاننا نكتفي هنا عن ترجمة حياته بكلمة ابن خلدون: (ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام، انحى من سيبويه) وهى شهادة حق من إمام عدل.
وكلمة اخيرة لا بد منها:
وهي كلمة تقدير واعجاب لشيخنا الجليل محمد محمود ابن التلاميد التركزي الشنقيطي لما له من فضل على المكتبة العربية وتقيدات كانت منارا للعارفين وهداية للمؤمنين بهذه اللغة الشريفة.
ولا يسعنا أيضا في هذه العجالة الا ان نشيد بذكر صاحب الفضل الاول الاستاذ امين الخانجي الذي كان من الرواد الاوائل الذين عنوا بنشر وطبع التراث العربي، وكان أن حفظ له قدره الغرب، بعد ان نسيه ابناء جلدته في الشرق، فأطلق اسمه على احدى قاعات جامعة برلين.
كما اشكر القائمين على لجنة التراث العربي لبذلهم الجهد والمال لاخراج هذا الكتاب الى ابناء العربية، وأخص منهم بالشكر السيد رفيق حمدان لملاحظاته القيمة وعلى ثقته الغالية بتكليفي للاشراف على تصحيحه واخراجه بهذا الشكل الجميل.
أحمد ظافر كوجان.
1 / 6