ـ[شرح مختصر الروضة]ـ
المؤلف: سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (المتوفى: ٧١٦هـ)
المحقق: عبد الله بن عبد المحسن التركي
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، ١٤٠٧ هـ / ١٩٨٧ م
عدد الأجزاء: ٣
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Unknown page
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللَّهُمَّ يَا وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَيَا مُوجِدَ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَيَا مُفِيضَ الْخَيْرِ وَالْجُودِ، عَلَى كُلِّ قَاصٍ مِنْ خَلْقِهِ وَدَانٍ.
ــ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ نَجْمُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الطُّوفِيُّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ: قَوْلُهُ: " اللَّهُمَّ يَا وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَيَا مُوجِدَ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَيَا مُفِيضَ الْخَيْرِ وَالْجُودِ، عَلَى كُلِّ قَاصٍ مِنْ خَلْقِهِ وَدَانٍ ".
الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَنَظَائِرَهَا مِنْ خُطْبَةِ الْكِتَابِ مُرَبَّعَةٌ نُونِيَّةٌ. أَعْنِي أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْبَعِ فِقَرٍ: ثَلَاثٌ مِنْهَا عَلَى فَاصِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالرَّابِعَةُ فَاصِلَتُهَا نُونٌ، غَيْرَ أَنَّ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ تَخْتَلِفُ حُرُوفُ فَوَاصِلِ فِقَرِهَا فِي الْخُطْبَةِ، كَالدَّالِ فِي هَذِهِ، وَالْهَاءِ وَالْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَهَا، كَقَوْلِهِ: " الْبَاهِرَةِ " وَ" النَّدَمِ " وَ" الْآلَاءِ " و" أَسْلَمَ " وَ" أَصْفِيَائِكَ " إِلَى آخَرِ الْخُطْبَةِ، وَالرَّابِعَةُ لَازِمَةٌ لِلنُّونِ لَا تَخْتَلِفُ، وَنَظِيرُ هَذِهِ
1 / 53
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْخُطْبَةِ فِي التَّرْبِيعِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فَاطِرٍ: ١٤] . فَالْفِقَرُ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ عَلَى الْكَافِ وَالْمِيمِ بِخِطَابِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَالرَّابِعَةُ عَلَى الرَّاءِ، وَالنَّظِيرُ هَاهُنَا فِي مُطْلَقِ التَّرْبِيعِ لَا فِي عَيْنِ حُرُوفِ الْفَوَاصِلِ.
وَالْفِقَرُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ جَمْعُ فِقْرَةٍ - بِسُكُونِ الْقَافِ - وَهِيَ أَجْوَدُ بَيْتٍ فِي الْقَصِيدَةِ، شُبِّهَ بِفَقَارَةِ الظَّهْرِ، ثُمَّ سُمِّيَتِ الْقِطْعَةُ مِنَ السَّجْعِ فِقْرَةً تَشْبِيهًا بِهِ، وَالْفَاصِلَةُ فِي النَّثْرِ كَالْقَافِيَّةِ فِي الشِّعْرِ، وَقَدْ حَقَّقْتُ الْقَوْلَ فِيهَا فِي كِتَابِ " بُغْيَةِ الْوَاصِلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْفَوَاصِلِ ".
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ ﷾ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النِّسَاءِ: ٢٨] وَ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾ [الرُّومِ: ٥٤] لَا يَسْتَقِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ مُرَادَاتِهِ بِدُونِ إِعَانَةٍ مِنَ اللَّهِ ﷾، وَتَوْفِيقٍ، وَعِصْمَةٍ، وَتَسْدِيدٍ. وَكَانَ دُعَاءُ اللَّهِ ﷾ وَنِدَاؤُهُ فِي الْمُهِمَّاتِ وَغَيْرِهَا مَشْرُوعًا، وَافْتِتَاحُ الْأُمُورِ الَّتِي يُرَامُ الشُّرُوعُ فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَالتَّبَرُّكِ بِذِكْرِ اسْمِهِ مَنْدُوبًا، كَمَا قَالَ ﷾: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٥] ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النَّمْلِ: ٦٢] ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٣] فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ وَعَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ مِنْ أَعْيَانِ الْبَشَرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَكَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ. وَفِي رِوَايَةِ
1 / 54
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَبِي دَاوُدَ: كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ، فَهُوَ أَجْذَمُ رَوَاهُ مِنْ وُجُوهٍ، وَفِي بَعْضِهَا: لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ أَوْ حَمْدِهِ فَهُوَ أَقْطَعُ.
ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِإِسْنَادِهِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ فِي " الْإِفْصَاحِ " وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ
قَدَّمْتُ نِدَاءَ اللَّهِ ﷾ وَدُعَاءَهُ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَجَعَلْتُ ذَلِكَ تَوْطِئَةً إِلَى حَمْدِهِ وَاسْتِجْلَابِ مَا عِنْدَهُ مِنْ فَوَاضِلِ رِفْدِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْكَلَامِ عَلَى أَلْفَاظِ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَعَانِيهَا، فَأَقُولُ: اللَّهُمَّ: أَصْلُهُ يَا اللَّهُ، فَحُذِفَتْ " يَا " مِنْ أَوَّلِهِ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْمِيمُ فِي آخِرِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا ... أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
1 / 55
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، وَكَانَ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْحَذْفِ وَالتَّعْوِيضِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِلَفْظِ اسْمِ اللَّهِ تَبَرُّكًا وَتَعْظِيمًا.
وَالثَّانِي: طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِتَصْيِيرِ اللَّفْظَيْنِ لَفْظًا وَاحِدًا، كَمَا قَالُوا: أَيْشٍ هَذَا، وَأَصْلُهُ أَيُّ شَيْءٍ هَذَا فِي نَظَائِرَ لَهُ كَثِيرَةٍ.
أَمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ: فَالْوَاجِبُ هُوَ الْمُسْتَقِرُّ الثَّابِتُ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ﷾ لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ عِنْدَ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ.
وَالْوُجُودُ: هُوَ الْإِثْبَاتُ الصِّرْفُ، كَمَا أَنَّ نَقِيضَهُ - وَهُوَ الْعَدَمُ - النَّفْيُ الصِّرْفُ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ الْوُجُودَ فِي الْمَعْلُومَاتِ بَدِيهَةٌ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ التَّعْرِيفِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُمْ: وَاجِبُ الْوُجُودِ عِبَارَةٌ أَحْدَثَهَا الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَهِيَ لَا تُعْرَفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَا فِي كَلَامِ السَّلَفِ فِيمَا عَلِمْنَا، لَكِنَّ مَعْنَاهُ ثَابِتٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَعْنَى وَاجِبِ الْوُجُودِ عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ، وَوُجُودُهُ مِنْ ذَاتِهِ لِذَاتِهِ، لَا مِنْ سَبَبٍ خَارِجٍ، وَلَا لِعِلَّةِ خَارِجَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الْحَدِيدِ: ٣]، وَقَوْلِهِ ﵇: أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
1 / 56