بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تكون للنجاة وسيلة، ولرفع الدرجات كفيلة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بعثه وطرق الإيمان قد عفت آثارها، وخبت أنوارها، ووهنت أركانها، وجهل مكانها، فشيد صلوات الله وسلامه عليه من معالمها ما عفا، وشفى من الغليل في تأييد كلمة التوحيد من كان على شفى، وأوضح سبيل الهداية لمن أراد أن يسلكها، وأظهر كنوز السعادة لمن قصد أن يملكها.
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في شرح الخطبة
قوله: (الحمد) هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة وغيرها، تقول: حمدت زيدا على علمه وإحسانه، فقوله: (الحمد لله) ههنا مطلق، يتناول حمد الله تعالى نفسه، وأرفع حمد ما كان من أرفع حامد، وأعرفهم بالمحمود، وأقدرهم على إيفاء حقه قال: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). وقيل: ما أثى الله على نفسه هو بث آلائه، وإظهار نعمائه بمحكمات أفعاله، ويتناوله حمد الحامدين من ابتداء الخلق إلى انتهاء قولهم: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
وقوله: (نحمد الله) استئناف وإظهار لتخصيص حمده، لكن باستعانته، ونفى الحول والقوة دفع الرياء والسمعة من نفسه، ومن ثم أتبعه بقوله: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)، ولما أضيفت الشرور والأعمال إلى الأنفس، وأوهم أن لها الاختيار والاستقلال بالأعمال، أتبعه بقوله: (من يهدي الله فلا مضل له)؛ ليؤذن بأن كل ذلك منه، وليس للعبد إلا الكسب. والضمير المستكن في (نحمده ونستعينه ونستغفره) للمتكلم ومن معه من أصحابه الحاضرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وفي (أشهد) لنفسه ﵇ خاصة أفرده للتوحيد، وهو إسقاط الحدوث وإثبات القدم، فأشار أولا إلى التفرقة، وثانيا إلى الجمع.
وقوله: (قد عفت) اندرست، (خبت) خفيت، (وهنت) ضعفت.
قوله: (من كان على شفا) جانس بين شفا وشفا من حيث اللفظ، وطابق بينهما من حيث المعنى، يقال: مرضت مرضا أشفيت على الموت، أي أشرفت عليه، ويجوز أن يكون من شفا الذي هو طرف كل شيء، فيكون مقتبسا من قوله تعالى: ﴿وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها﴾.
2 / 413
أما بعد؛ فإن التمسك بهديه لا يستتب إلا بالاقتفاء لما صدر من مشكاته، والاعتصام بحبل الله لا يتم إلا ببيان كشفه، وكان (كتاب المصابيح) الذي صنفه الإمام محيي السنة، قامع البدعة، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، رفع الله درجته- أجمع كتاب صنف في بابه، وأضبط لشوارد الأحاديث وأوابدها ولما سلك ﵁ طريق الاختصار، وحذف الأسانيد، تكلم فيه بعض النقاد، وإن كان نقله -وإنه من الثقات- كالإسناد، لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال، فاستخرت الله تعالى، وناستوفقت منه، فأعلمت ما أغفله، فأودعت كل حديث منه في مقره كما رواه الأئمة المتقنون، والثقات الراسخون؛ مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، وأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، وابي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبي
ــ
قوله: (لا يستتب) أي لا يستقيم ولا يستمر، من التب والتباب، وهو الاستمرار في الخسران، و(الاقتفاء) الاتباع، و(المشكاة) الكوة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح، وهي ههنا مستعارة لصدر الرسول ﷺ شبه صدره بها لأنه كالكوة ذو وجهين، فمن وجه يقتبس النور من القلب المستنير، ومن آخر يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق، وذلك لاستعداده بإشراحه مرتين، وشبه قلبه ﷺ بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري؛ لصفائه وإشراقه، وخلوصه من كدورة الهوى، ولوث النفس الأمارة، وهذا هو المعني في خطبة المصابيح بقوله: (خرجت من مشكوة التقوى) وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب.
قوله: (لشوارد الأحاديث) هو من شرد شرودا وشرادا إذا انفرد، فهو شارد، والأوابد: الوحوش، وهو من تأبَدت البهيمة تأبدًا، أى توحشت، وأعلام الشيء آثاره التي يستدل بها (عليه) والأغفال الأرض المجهولة، ليس فيها أثر تعرف به.
قوله: (المتقنون) هو من إتقان الأمر وإحكامه، ورجل تقن (بكسر التاء) حاذق، وتقن أيضًا (الراسخون) من رسوخ الشيء، وهو ثباته ثباتا متمكنا، والراسخ في العلم المتحقق به الذي لا
2 / 414
الحسنِ على بن عمرَ الدارقُطنىّ، وأبى بكر أحمدَ بن الحسين البَيهَقىّ، وأبى الحسنِ رزَينِ بن معاويةَ العبدرِىّ، وغيرهم، وقليلٌ ما هو.
وإِنى إِذا نسبتُ الحديثَ إِليهم كأنِى أسندتُ إلى النبىّ صل الله عليه وسلم؛ لأنهم قد فَرغوا منه، وأغنوْنا عنه. وسردُت الكتب والابوابَ كما سردها، واقتفيتُ أثره فيها، وقسمتُ كلَّ بابِ غالبًا على فصولٍ ثلاثة:
أوّلها: ما أخرجَه الشيخان أو أحدهُما، واكتفيتُ بهما وإِن اشترك فيه الغيرُ؛ لعلوّ درجتهما في الروّاية.
وثانيهما: ما أورده غيرهُما من الأئمة المذكورين.
وثالثُهما: ما اشتملَ على معنى الباب من مُلحقاتٍ مناسبةٍ مع محافظةٍ على الشريطة، وإِن كان مأثورًا عن السلفِ والخلف.
ثم إنك إنْ فقدتَ حديثًا في بابٍ؛ فذلك عن تكرير أُسقطُه. وإِن وجدت آخر بعضه متروكًا على اختصاره، أو مضمومًا إليه تمامه؛ فعن داعى اهتمام أتركهُ وألحقه.
وإن عثرت على اختلاف في الفصلين من ذكر غير الشيخين في الأول، وذكرهما في الثاني، فاعلم أنى بعد تتبعى كتابَىْ (الجمع بين الصحيحين) للحُميدي، و(جامع الأصول)؛ اعتمدتُ على صحيحى الشيخين ومتنيهما.
ــ
يعرضه شبهة، و(ما) فى (قليل ما) إيهامية، يريد الشيوع في القلة، ولفظة: (هو) راجعة إلى غيرهم، والضمير فى (منه) و(عنه) للإسناد.
قوله: (على الشريطة) المراد منها إضافة الحديث إلى الراوى من الصحابة والتابعين، ونسبته إلى مخرجه من الأئمة المذكورين.
قوله: (بعضه) هو بدل البعض من آخر ومتروكًا حاله.
قوله: (على اختصاره) أى اختصار محيي السنة.
قوله: (فعن داعى اهتمام أتركه) وذلك لأن تلك الرواية كانت مختصرة عن حديث طويل جدًا، فأتركه اختصارًا، أو كان حديثًا يشتمل على معان جمة، يقتضى كل باب معنى من معناه، وأورد الشيخ كلا في بابه- فاقتفينا أثره فى الإيراد، وما لم
يكن على هذين الوصفين
2 / 415
وإِن رأيت اختلافُا فى نفس الحديث؛ فذلك من تشُّبِ طرق الأحاديث، ولعلى ما اطلعتُ على تلك الرواية التي سلكها الشيخُ رضى الله عنه. وقليلًا ما تجد أقول:
ماوجدتُ هذه الرواية في كتب الأصول، أو وجدتُ خلافها. فإذا وقفت عليه فانسُبِ القصورَ إلىَّ لقلة الدراية، لا إلى جناب الشيخ رفع الله قدره في الدارين، حاشاَ الله منْ ذلك، رَحِمَ الله من إذا وقف على ذلك نبهنا عليه، وأرشدنا طريق الصواب. ولم آلُ جهدًا في التنقير (١) والتفتيشِِ بقدر الوسع والطاقة، ونقلتُ ذلك الاختلافَ كما وجدتُ.
وما أشار إليه- ﵁ من غريب أو ضعيف أو غيرهما؛ بينت وجهَهُ غالبًا. وما لم يشير إليه مما في الأصول؛ فقد قِّفَّيتُه في تزكّه، إلا في مواضع لغرض.
وربما تجدُ مواضعَ مُهملةَ، وذلك حيثُ لم أطلع على راويه فتركَتُ البياض. فإن عثرتَ عليه فألحقهُ به، أحسن الله جزاءك. وسميت الكتاب ب (مشكاة المصابيح)، وأسال الله التوفيق والإعانة والهداية والصيانة، وتيسير ما أقصده، وأن ينفعني في الحياة وبعد الممات، وجميع المسلمين والمسلمات حسبي الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلابالله العزيز الحكيم.
ــ
أتممناه غالبا. (وإن عثرت) أي اطلعت. (ولم آل جهدًا) أى ولم أقصر من: ألا يألو: قصَّر، لا يألوك نصحاَ فهو آل. وحكى الكسائى عن العرب: أقبل يضربه لا يأل، يريد لا يألو فحذف، والجهد (بالضم والفتح) الطاقة والمشقة. والتنقير عن الأمر: البحث عنه.
قوله: (مما في الأصول) يعنى جامع الترمذى، وسنن أبى داود، والبيهقى، وهو كثير،
فتبعه وتركته تأسياَ به.
قوله: (لغرض) وذلك أن بعض الطاعنين أفرزوا أحادث من المصابيح، ونسبوها إلى الوضع، ووجدت الترمذي صححها أو حسنها وغير الترمذي أيضا، فبينته لرفع التهم، كحديث أبي هريرة):المرء على دين خليله) فإنهم صرحوا بأنه موضوع، وقال الترمذى في الجامعة: أنه حسن، والنواوى في الرياض: إنه صحيح الإسناد. ومن الغرض الذي شرط الشيخ في خطبته أنه أعرض عن ذكر المنكر، وقد أتى منه في كتابه كثيرا منه، وبين في بعضها كونه منكرًا وترك البعض، فبينت أنه منكر.
قوله: (بمشكاة المصابيح) روعى المناسبة بين الاسم مقتبسًا من كلام الله المجيد، وذلك أن المشكاة إنما قصد بها ليجتمع ضوء المصباح، فيكون أشد تقويًا، بخلاف المكان الواسع؛ فإن الضوء ينبت فيه وينتشر، و(كذلك) الأحاديث إذا كانت غفلا عن سمة الرواة انتشرت، وإذا قيدت بالراوى انضبطت واستقرت في أمكنتها.
2 / 416
١ - وعن عمر بن الخطاب ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: (إنما الأعمالُ بالنيات، وإنِما لامرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إِلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه). متفق عليه.
ــ
قوله: (إنما الأعمال بالنيات) قال الشيخ الإمام المتقن الثقة محيي الدين النووى (رحمة الله عليه) في شرح مسلم: أجمع المسلمون على عظم موقع هذا الحديث، وكثرة فوائده، وصحة روايته، قال الشافعى ﵁: هو ثلث الإسلام. وقال ابن مهدى وغيره: ينبغى لمن صنف كتابًا أن يبدأ فيه بهذا الحديث، تنبيهًا للطالب على تصحيح النية. واتفق أهل العربية والأصول على أن (إنما) موضوعة للحصر، يثبت المذكور، وينفى ما سواه، فالتقدير: إن الأعمال تحسب إذا كانت بنية، ولا تحسب إذا كانت بلا نية. وفيه دليل على أن الطهارة (وهي الوضوء والغسل والتيمم) وعلى أن الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف- لا يصح إلا بالنية، وأما إزالة النجاسة فالمشهور عندنا أنها لا تفتقر إلى النية، وقد نقلوا الإجماع فيها؛ لأنها من باب التروك. وتدخل النية في الطلاق، والعتاق، والقذف، ومعنى دخولها أنها إذا قارنت كناية صارت كالصريح، وإذا أتى بصريح الطلاق ونوى تطليقتين أو ثلاثًا وقع مانوى، وإن نوى بالصريح غير مقتضاه دِين فيما بينه وبين الله تعالى، ولا تقبل منه في الظاهر.
قوله: (وإنما لامرئ ما نوى) إشارة إلى تعيين المنوى شرط، ولو كانت على إنسان صلاة مقضية لا يكفيه أن ينوى الصلاة الفائتة، بل يشترط أن ينوى كونها ظهرًا أو غيرها، لولا الفظ الثاني: (إنما لا مرئ ما نوى) لا قتضى الأول أى (إنما الأعمال بالنيات) صحة النية بلا تعين، أو أوهم ذلك.
قوله ﷺ: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله) معناه من قصد بهجرته وجه الله وقع أجره على الله، ومن قصد بها دنيا أو امرأة فهي حظه، ولانصيب له في الآخرة. وذكر المرأة مع الدنيا يحتمل وجهين: أحدهما أن سبب هذا الحديث ما روى أن رجلا هاجر ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، والثاني أنه للتنبيه على زيادة التحذير من ذلك، وهو من باب الخاص بعد
2 / 417
ــ
العام، تنبيها على مزيته. وقال الراغب: النية تكون مصدرًا واسمًا من نويت، وهي توجه القلب نحو العمل. وقال القاضى: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض، من جلب نفع، أو دفع مضرة، حالا أو مآلا. والشرع خصصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله تعالى وامتثالا لحكمه، والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوى؛ ليحسن تطبيقه لما بعده، وتقسيمه بقوله: (من كانت هجرته إلى الله) إلى آخره، فإنه تفصيل لما أجمله، واستنباط المقصود عما أصله.
أقول -والعلم عند الله تعالى-:كل واحد من (الأعمال) و(النيات) جمع محلى بلام الاستغراق، فإما أن يحمل على عرف اللغة فيكون الاستغراق حقيقًا، وإما أن يحمل على عرف الشرع، وحينئذ إما أن يراد بالأعمال الواجبات والمندوبات والمباحات، وبالنيات الإخلاص والرياء، أو أن يراد بالأعمال الواجبات ما لا يصح إلا بالنية، كالطهارة والصلاة والصيام. ولا سبيل إلى الأول أى اللغوى لأنه ﷺ ما بعث إلا لبيان الشرع، فكيف يتصدى لما جدوى له فيه؟ على أن (إنما) يستعمل فى رد من عنده حكم مشوب بخطأ وصواب، ومن كان عارفًا اللغات لا يخطئ في استعمال اللغة حتى يرد حكمه إلى الصواب بإنما، لاسيما تكراره في الحديث فإنه يدل على إثبات أمر خطير في الشرع، فحينئذ يحمل قوله: (إنما الأعمال بالنيات) على ما اتفقت عليه الفقهاء من أصحابنا، أى ما الأعمال محسوبة بشئ من الأشياء كالششروع فيها والتلبس بها إلا بالنيات، وما خلا عنها لم يعتد بها. فإن قيل: لم خصصت متعلق الخبر والظاهر العموم كمستقر أو حاصل؟ فالجواب أنه يكون بيانًا للغة، لا إثبات حكم في الشرع، وقد سبق بطلانه.
ويحمل قوله: (إنما لامرئ ما نوى) إلى آخره على ما تثمره النيات من القبول والرد، والثواب والعقاب، وغير ذلك. ففهم من الأول أن الأعمال لا تكون محسوبة ومسقطة للقضاء إلا إذا كانت مقرونة بالنيات، ومن الثانى أن النيات إنما تكون متعددة ومقبولة إذا كانت مقرونة بالإخلاص، مبعدة عن الرياء، فالأول قصر المسند إليه في المسند، والثاني عكسه. وتقرب منها الصلاة في الأرض المغصوبة، فإنها محسوبة ومسقطة للقضاء. لكن إيقاعها فيها حرام يستحق به العقاب.
وقال الشيخ محيي الدين النووى: قال أصحابنا: الفروض وغيرها من الواجبات إذا أتى بها على وجهها الكامل يترتب عليها شيئان: سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني. وتحريره أن قوله: (وإنما لا مرئ ما نوى) دل على أن الأعمال تحسب بحسب النية، إن كانت خالصة لله تعالى وإن كانت الدنيا فهى
2 / 418
ــ
لها، وإن كانت لنظر الخلق فكذلك، وقد نص به صريحا في قوله: ﷺ: (والخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل على وزر، قال: فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، وأما الذي هي ستر فرجل ربطها تغنيّا وتعففا، وأما الذي عليه وزر فرجل ربطها فخرَا ورياء». وعلي هذا المعنى ينبغي أن يحمل ما بعد الفاء التفصيلية؛ لأنه لن يكون المفصل خلاف المجمل، وكذلك عكسه، فإذا المعني بالهجرة الهجرة المعروفة في عهد النبي ﷺ لقوله: «لا هجرة بعد الفتح»، ومعلوم أن الهجرة لا تقتضي إلا الإخلاص؛ لأن الهجرة إلى الدنيا وإلى المرأة لا يقتضيان النية التي في الطهارة مثلا، وفي تكرير لفظة: «إلى الله ورسوله» في الشرط والجزاء تعظيم لمعنى تلك الهجرة، وتفخيم لشأنها، أي هي الهجرة الكاملة التي تستحق أن تسمى هجرة، وأن ما سواها ليست بهجرة، ولم تكن كذلك إلا أن تكون خالصة لوجه الله، كقوله تعالى: «يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته» أي وإن لم تبلغ فما بلغت رسالته، يعني ارتكبت أمرًا عظيما، وخطبا جسيما، ولهذا السر غير العبارة في متعلق الجزاء الثاني بلفظة: «ما» حظا من منزلتها، أي ليست هجرته من الله في شيء، فإنه ما طلب بها وجه الله، بل طلب الدنيا، فله ما طلب، كما هو حال الرجل الذي قصد نكاح تلك المرأة، وعطف قوله: «أو امرأة يتزوجها» على «دنيا يصيبها» وهي مشتملة على مالها وجمالها وما يتعلق بها من الشهوات، تخصيصًا بعد التعميم؛ لبدل على أن النساء أعظمها ضرّا وأكثرها تبعة، كقوله تعالى: «زين للناس حس الشهوات من النساء» الآية، جعلهن من الشهوات حيث بين الشهوات بها.
وقول لشيخ محيي الدين: «إنما موضوعة للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه» مستقيم، إذ لم يتعرض في قوله "إن" للإثبات و"ما" للنفي، كما صرح به الأكثرون وهو غير مستقيم؛ لأن "ما" ليست نافية، بل هي كافة مؤكدة. وروى صاحب المفتاح عن علي بن عيسى الربعي أن إفادة الحصر من "إنما" كانت من أن "إن" كانت لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه إليه، ثم اتصلت بها "ما" المؤكدة- لا النافية على ما يظنه من لا وقوف له بعلم النحو - ضاعف تأكيدها، فناسب أن يضمن معنى القصر.
وأصل الهجرة مفارقة الأوطان والأهل. ثيل: الهجرة أنواع: الأولى: الهجرة إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة، الثانية: الهجرة من مكة إلى المدينة، والثالثة: هجرة القبائل إلى
2 / 419
ــ
النبي ﷺ لتعلم الشرائع، ثم يرجعون إلى المواطن ويعلمون قومهم، والرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي إلى النبي ﷺ ثم يرجع إلى مكة، والخامسة: الهجرة عما نهى الله عنه. ومعنى الحديث وحكمة صابت متناول للجميع، غر أن حكاية أم قيس تقتضي أن المراد بالحديث الهجرة من مكة إلى المدينة، ولهذا حسن في الحديث ذكر المرأة، دون سائر ما ينوي بالهجرة من أعراض الدنيا.
أقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السب. ودنيا مقصورة غير منونة، لأنه فعلي، وسميت الدنيا لدنوها، والجمع دُنى، مثل الكبرى والكُبَر. قال المالكي في كتاب شواهد التوضيح في مشكلات الجامع الصحيح: في استعمال دنيا مع كونه منكرًا إشكال؛ لأنها تأنيث أدنى، وهو أفعل تفضيل، فكان حقه الدنيا، كالكبرى والحسنى، إلا أن دنيا خلعت عنها الوصفية رأسًا، وأجريت مجرى ما لم يكن وصفا، كرجعى وبهمى، ونحوه قول الشاعر:
وإن دعوت إلى جُلّى ومكرمة ... يومًا سراة كرام الناس فادعينا
فإن الجُلّى كؤنث الأجل، فخلعت عنه الوصفية، وجعلت اسما للحادثة العظيمة.
وإنما أورد إمام أئمة الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، ومحيي السنة في كتابيه: شرح السنة، والمصابيح هذا الحديث قبل الشروع في أبواب الكتاب – إيذانًا بأن هذا المصنف منويٌّ فيه الإخلاص لله تعالى ومجتنب عن الرياء والسمعة، فلذلك تقبل الله منهما، وجعل الكتب إعلاما من أعلام الدين، ونحن اقتفينا أثرها، فاهتدينا بهديهما، نرجو من فضل الله وكرمه أن يتقبل منا، ويجعل تعبنا سببًا لنجاتنا ونفعًا للطالبين.
فائدة على لسان أهل الإشارة: قال بعضهم: العمل سعي الأركان إلى الله، والنية سعي القلوب إلى الله، والقلب ملك، والأركان جنوده، ولا يحارب الملك إلا بجنوده، ولا الجنود إلا بالملك. وقال بعضهم: النية جمع الهم في تنفيذ العمل للمعمول له، وأن لا يسبح في السر ذكر غيره. وقال بعضهم: نية العوام في طلب الأغراض مع نسيان الفضل، ونية الجهال التحصن عن سوء القضاء ونزول البلاء، ونية أهل النفاق التزين عند الله وعند الناس، ونية العلماء إقامة الطاعة لحرمة ناصبها لا لحرمتها، ونية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من الطاعات، ونية أهل الحقيقة ربوبية تولد عبودية.
2 / 420
كتاب الإيمان
الفصل الأول
٢ - عن عمر بن الخطاب ﵁، قال: بينا نحن عند رسول الله ﷺ
ــ
كتاب الإيمان
الفصل الأول
الحديث الأول - قوله: «بينا» قال صاحب النهاية: بينا: بين، فأشبعت الفتحة فصارت ألفًا، يقال: بينا وبينما، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ومضافان إلى الجملة: من فعل وفاعل، أول مبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، كما يستدعى (إذا) والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ وإذا، وقد جاء في الجواب كثيرًا، وفي اللباب: قال الأصمعي: لا يستفصح إلا طرحمها في جواب بينا وبينما، وأنشد:
وبينا نحن نرقبه أتانا
لأن الظهر أن العامل في «بينا» هو الجواب، كما في (إذا) الزمانية على الصحيح، ويلزم تقدم ما في صلة الكضافة إليه على المضاف. قال شارحه: بينا وبينما ظرفان متضمنان لمعنى الشرط،
فلذلك اقتضيا جوابًا، والقياس أن لا يكون (إذا) في جوابه، فعلى هذا يكون (أتانا) عاملا في
(بينا) مع أنَّه مضاف إليه لا يتقدم على المضاف وفيه نظر. انتهى كلامه. فيقال لا ريب أن
عمر وأبا هريرة ﵄ كأنا أفصح من الشاعر، وقد أتيا ب (إذا) في الحديث، فحينئذ
يكون العامل معنى المفاجأة في (إذا) كما قرره صاحب الكشاف في قوله تعالى: (وإذا ذكر الذين
من دونه إذا هم يستبشرون) العامل في (إذا) المفاجأة، تقديره، وقت ذكر الذين من دونه فاجئوا
وقت الاستبشار، فمعنى الحديث وقت حضورنا في مجلس رسول الله ﷺ فاجأنا وقت طلوع
ذلك الرجال، فحينئذ (بينا) ظرف لهذا المقدر، و(إذا) مفعول به بمعنى الوقت، فلا يلزم إذا تقدم
معمول المضاف إليه على المضاف. وقد ساعد هذا القول صاحب اللباب بعد ذلك بقولة:
والعامل فيهما الجواب إذا كان مجردًا من كلمتي المفاجأة المتضمنة هما
إياه. قوله: (هما) أي إذ وإذا، و(إياه) أي ذلك المعنى، ويدل على تضمنهما معنى الشرط
تصريح الفاء في الجواب قوله ﷺ: (بينا يضحكهم النبي (ﷺ) الحديث، رواه
أبو داود عن أسيد بن حضير.
2 / 421
ذات يوم، إِذ طلع علينا رجل شديدُ بياض الثياب، شديدُ سواد الشعر، لا يُرى عليه
أثرُ السفر، ولا يعرفُه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ، فأسند ركبتبه إلى ركبتيه،
ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يامحمد! أخبرني عن الإِسلام. قال: (الإِسلام: أن
ــ
قوله: (ذات يوم) ظرف لمعنى الاستقرار في الخبر. و(ذات) يجوز أن يكون صله، قال
صاحب النهاية: في الحديث (يطلع عليكم رجل من ذي يمن على وجهه مسحة من ذي ملك)
كذا أورده عمرو الزاهد، وقال: (ذي) هنا صلة؛ وأن يكون غير صلة، في المغرب: ذو بمعنى
الصاحب، تقول للمرأة: امرأة ذات مال، ثم أجروها مجرى الأسماء التامة المستقلة بأنفسها،
فقالوا: ذات قديمة أو محدثة، ثم استعملوها استعمال النفس والشيء، فعلى هذا قوله: (ذات
يوم) يفيد من التوكيد مالا يفيده لو لم يذكر، لئلا يتوهم التجوز إلى مطلق الزمان، نحو
قولك: رأيت نفس زيد، وقولك: رأيت زيدًا.
وقوله: (لا يرى عليه أثر السفر) (مح): يعنى تعجبنا من كيفية إتيانه، ووقع في خاطرنا أنه
ملك، أو من الجن؛ لأنه لو بشرًا إما أن يكون من المدينة، أو غريبًا، ولم يكن من
المدينة؛ لأنا لا نعرفه، ولم يكن إتيانه من بعد؛ لأنه لم يكن عليه أثر السفر من الغبار وغيره.
وقوله: (حتى جلس) متعلق بمحذوف، تقديره: استأذن وأتى حتى جلس عند النبي (عليه
الصلاة والسلام).
وقوله: (فأسند ركبتيه إلى لركبتيه) يقال: أسند، إذا اتكأ على شيء وأوصل. وأنما جلس هكذا
ليتعلم الحاضرون جلوس السائل عند المسئول؛ لأن الجلوس على الركبة أقرب إلى التواضع
والأدب، واتصال ركبة السائل بركبة المسئول يكون أبلغ في استماع كل واحد من السائل
والمسئول كلام صاحبه، وأبلغ في حضور القلب، وألزم للجواب؛ لأن الجلوس على هذه الهيئة
دليل على شدة حاجة السائل إلى السؤال، وتعلق قلبه واهتمامه إلى استماع الجواب، فإذا عرف
المسئول هذا الحرص والاحتياج من السائل إلى يلزم على نفسه جوابه، ويبالغ في الجواب
أكثر وأتم مما سأل السائل. تم كلامه.
قوله: (وضع يديه على فخذيه) قال الشيخ: التوربشتى: الضمير في الكلمتين راجع إلى
جبرئيل ﵇ فلو ذهب مؤول إلى أن الثاني يعود إلى رسول الله ﷺ لم ينكر عليه،
لما يدل عليه نسق الكلام من قوله: (وأسند ركبتيه إلى ركبتيه) غير أنا نذهب إلى الوجه الأول،
لأنه أقرب إلى التوقير، وأشبه بسمت ذوى الأدب. وذهب محيي السنة إلى الوجه الثاني فى
كتابه المسمى ب (الكفاية). وكذا إسماعيل بن الفضل التيمى في كتابه المسمى ب (الترغيب
والترهيب).
2 / 422
ــ
وأقول: لعل هذا الوجه أرجح؛ لأن الأصل في إسناد الركبة إلى الركبة أن يكون الاعتماد
والاتكاء عليه، فإذا لا يبعد وضع جبريل ﵇ يديه على فخذى رسول الله ﷺ على تلك
الحالة، فأشعرت تلك الهيئة بأنها ليست كهيئة التلميذ، وكذا نداؤه لرسول الله ﷺ باسمه، بل
هما من هيئة الشيخ إذا اهتم بشأن التعليم، واراد مزيد إصغاء المتعلم وإفهامه، فكيف لا؟ وقد
شهد الله تعالى به في قوله: (علمه شديد القوى) وكفى به شاهدًا. وينصره أيضا أمران:
أحدهما قوله: (جلس إلى النبي ﷺ)، فلو كان جلوسه جلوس المتعلم لقيل: بين يديه، فضلا
أن يقال: عنده، فكيف بقوله: (جلس إليه)؟ لأنه متضمن معنى الميل والإسناد، كأنه قيل:
مال إليه حالة جلوسه وأسند إليه، فيكون عطف قوله: (وأسند ركبتيه) على قوله: (جلس إاليه)
للبيان والتفسير، كعطف قوله تعالى: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار_ إلى قوله_ من
خشية الله) على قوله: (فهى كالحجارة أو أشد قسوة) لما يعلم من المعطوف كون قلوبهم
أقسى من الحجارة، وثانيهما قوله: (صدقت) وإنما يقال هذا إذا طابق قول المسئول عنه قول
السائل؛ لأنه إذا عرف أن المسئول عنه أصاب المخبر وطبق المفضل صوبه، ولهذا السر
قالوا: (تعجبنا من قوله: (صدقت) وأيضًا في إيثار (إذ طلع علينا) على (إذ دخل) إشارة ألى
عظمته وعلوه. (غيب): طلع علينا فلان، مستعار من: طلعت الشمس. (الكشاف): في
قوله: (أطَّلع الغيب): ولا ختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى
إلى علم الغيب، فحينئذ يتعلق (حتى) بمحذوف يدل عليه (طلع) أى دنا منه حتى جلس إليه.
وإذا تقرر هذا فصورة هذه الحالة كصورة المعيد إذا امتحه عند حضور الطلبة
والمستفيدين منه، ليزيدوا طمأنينة وثقة في أنه يعيد الدرس ويلقى إليهم المسألة كما سمعه من
الشيخ بلا زيادة ولا نقصان، وفيه مسحة من قوله: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى
علمه شديد القوى) وهذا معنى قوله ﵇ في آخر الحديث: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم
دينكم).
وأما سر إسناد ركبتيه إلى ركبتيه ففيه إشارة إلى سابقة بينهما، وشدة إخلاص واتحاد، كما
بين المتحابين، ولله در القاتل:
أخ طاهر (الأخلاق) حلو كأنه ... جنا النحل ممزوج بماء غمام
يزيد على الأيام صفو مودة ... وشدة إخلاص ورعى ذمام
ــ
2 / 423
تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا». قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه؛ قال فأخبرني عن الإيمان. قال «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ــ
ــ
وأما طلوع جبريل ﵇ على تلك الهيئة والشأن فإشارة إلى معنى قوله: «حسن الأدب في الباطن» ولذلك أدب الله رسوله ﵇ بقوله: (وثيابك فطهر والرجز فاهجر)؛ على هذا ينزل نزوله ﵇ أحيانا في صورة دحية ﵁؛ لأنه كان من اجمل الناس، ومن ثمة كان الإمام مالك ﵁ إذغ أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته وتطيب، وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة، ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث (ﷺ).
قوله: «أخبرني عن الإسلام» الإسلام الانقياد والطاعة عن الطوع والرغبة من غير اعتراض، يقال: سلم وأسلمو (استسلم) إذا خضع وأذعن، ولذلك أجاب عنه بالأركان الخمسة، و«أن» في قوله: (أن لا إله إلا الله» هي المخففة عن المثقلة، يدل عليه عطف: «وأن محمدًا».
قوله: «وأن تقيم الصلاة» إقامة الصلاة تعديل أركانها وإدامتها، والصلاة فعلة من: صلى بمعنى دعا أو حرك الصلوين؛ لأن المصلى يحركها في ركوعه وسجوده، كالزكاة من: زكى بمعنى نما او طهر، غفإن المال يزيد بأداء الزكاة ويطهر به، وكالصوم من، صام إذا امسك، والحج من: حج إذا قصد، و«البيت» اسم جنس غلب على الكعبة وصار علما له.
فإن قلت: كيف خص الأخير بقيد الإستطاعة دون سائرها؛ فإن الاستطاعة التي يتمكن بها المكلف من فعل الطاعة مشروطة في الكل؟ قلت: المعني بهذه الاستطاعة الزاد والراحلة. وكانت طائفة لا يعدونها منها، ويثقلون على الحاج، فنهوا عن ذلك، أو علم الله تعالى: (لاتأكلوا الربا أضعافا مضاعفة» ولتلك العناية أنزل الله تعلى: (من استطاع» ومع ذلك نرى كثيرًا من الناس لا يرفعون بهذا النص الجلي رأسا، ويلقون أنفسهم بأيديهم إلى التهلكة.
قوله: «أخبرني عن الإيمان» إفعال من الأمن، وهو طمأنينة النفس عن إزالة خوف وشك، يقال: أمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنة التكذيب والمخالفة. وإن قيل: قوله: «أن تؤمن بالله» في جواب الإيمان يوهم التكرار. فالجواب أن الإيمان الذي هو بمعنى التصديق تعدى بنفسه، كما تقول: آمنته وأمنته، والذي يعدى بالباء يتضمن معنى اعترف به أو وثق به، كانه قيل: الإيمان الاعتراف بالله، ووثوق به.
ــ
2 / 424
ــ
ــ
واعلم أن السؤال عن الإيمان وجوابه مقدم على السؤال عن الإسلام وجوابه في المصابيح،
وتكلم عليه الشيخ التوربشتى، وهو حق؛ لأنه مؤخر في صحيح مسلم، وفي كتاب الحميدي.
وجامع الأصول، ورياض الصالحين، وشرح السنة برواية عمر ﵁. ثم إن
التصديق وأن كان مقدمًا في الاعتبار لقوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وعليه
سؤسس قاعدة الإسلام، لكن المقام يقتضي تقديم الإسلام؛ لأنه رأس الأمر وعموده، وشعائر
الدين به تظهر، وهو دليل على التصديق وأمارة عليه، وما جاء جبريل ﵇ إلا ليعلم
الشريعة؛ فينبغى أن يبدأ بما هو الأهم فالأهم، ويترقى من الأدنى إلى الأعلى، فإن الإسلام
مقدم على الإيمان، وهو على الإخلاص، وفي هذا الكتاب مسطور بعد قوله: (إن استطعت إليه
سبيلا، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه).
قوله: (بالله) الله أصله إله، فحذف همزته معوضًا عنها حرف التعريف، ولذلك قطع الألف،
وأدخل عليه حرف النداء، والإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من: أله إلهة
أي عبد عبادة، أو أله ألها إذا تحير؛ لأن الفطن يدهش في معرفة المعبود، والعقول متحيرة
في كبريائه. والملائكة جمع ملاك على الأصل، كالشمائل جمع شمال، والتاء لتأنيث الجمع،
مشتق من الألوكة بمعنى الرسالة. والكتب ما أنزلت على أنبيائه (صلوات الله وسلامه عليهم) إما
مكتوبًا على نحو ألواح، أو مسموعا من الله تعالى من وراء حجاب، أو من ملك مشاهد
مشافهة، أو مصوت هاتف. وإنما قدم ذكر الملك على الكتاب والرسل اتباعا للترتيب الواقع،
فإنه ﷾ أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول لا تفضيلا للملائكة على الرسل، فإن
فيه خلافا، ولا على الكتب، فإنه لم يقل به أحد.
قوله: (رسله) يقال: أرسلت فلانا في رسالة، فهو مرسل ورسول، والجمع رُسُل ورُسل،
(قال) الكشاف: الفرق بين النبي والرسول أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب
المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه، وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله.
وعن الإمام أحمد بن حنبل عن أبى أمامة، قال أبو ذر: يارسول الله، كم وفاء عدة
الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر جما
غفيرًا).
[قلت: قيل المنزَّلة مائة وأربعة كتب: على آدم عشر صحائف، وعلى شيث ﵇
خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ﵇ ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عليه
السلام عشر صحائف. والتوارة، والإنجيل، والفرقان، والزبور. فعلى هذا القول الذى ذكره جار
ــ
2 / 425
واليوم الآخر، وتُومن بالقدر خيرِه وشَره) قال: صدقت. قال: فأخبرني عن .....
ــ
الله بين الرسول والنبي لا يساعد الحديث المذكور؛ بل الفرق من وجه آخر؛ وهو أن يقال:
الرسول من نزل عليه جبريل، والنبي مع سمع صوتا أو رأى في المنام أنه نبي وبلغ
الرسالة]
قوله: (واليوم الآخر) هو يوم القيامة؛ لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد
الإيمان به وبما فيه من البعث والحساب، ودخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، إلى غير
ذلك مما ورد النص القاطع عليه.
قوله: (تؤمن بالقدر) (قال القاضي عياض): القضاء هو الإرادة الأزلية والعناية الإلهية المقتضية
لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر تعلق تلك الإدارة بالأشياء في أوقاتها. والقدرية
قالوا: القضاء علمه تعالى بنظام الموجودات، وأنكروا تأثير قدرة الله تعالى بنظام الموجودات،
وأنكروا تأثير قدرة الله تعالى في أعمالنا، وتعلق إرادته بأفعالنا، وزعموا أنها واقعة بقدرنا،
ودواع منا، فأثبتوا لنا قدرة مستقلة بالإيجاد والتأثير في أفعالنا_ تم كلامه. وسيجئ الكلام في
القضاء والقدر على عكس ما ذكره القاضي. فإن قيل: لم أعاد ذكر (تؤمن) عند القدر؟ فالجواب
أنه عرف أن الأمة يخوضون فيه، وبعضهم ينفونه، ويقولون: إن الأمر أُنُف ولا قدر، مثل
المعتزلة، فلذلك اهتم بذلك بإعادة (تؤمن) ثم قرره بالإبدال بقوله: (شره وخيره) فإن البدل
توضيح مع التأكيد لتكرير العامل.
قال الشيخ محيي الدين النواوى في شرح صحيح مسلم: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص،
وهو قول ابن مسعود، وحذيفة، ومالك، والثورى، والأوزاعى، والنخعى، والحسن، وعطاء،
وطاوس، ومجاهد، وابن المبارك، وسفيان بن عبينه، ومعمر بن راشد وابن جريج، وجماعة
أهل السنة من سلف الأمة وخلفها. والحجة على زيادته ونقصانه الآيات، وقوله تعالى: (فاخشوهم فزادهم
إيمانا مع إيمانهم) وقوله تعالى: (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) وقوله تعالى: (فاخشوهم فزادهم
إيمانا).
2 / 426
ــ
قال الشيخ: أنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة والنقصان كان شكّا وكفرًا. قال المحققون من المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته- وهي الأعمال- ونقصانها، وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف، وبين وصفه في اللغة وما عليه المتكلمون. وقال صاحب التحرير في شرح صحيح مسلم: الإيمان في اللغة هو التصديق، فإن عني بذلك فلا يزيد ولا ينقص لأن التصديق ليس بشيء يتجزأ، حتى يتصور زيادته مرة ونقصانه أخرى، وفي لسان الشرع هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمال بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان، وهو مذهب أهل السنة.
وأقول: على التفسير الأول أيضًا يمكن الزيادة والنقصان به (قال) الكشاف في قوله تعالى في سورة الأنفال):وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا):ازدادوا بها يقينًا وطمأنينة النفس؛ لأن تظاهر الأدلة أدل المدلول عليه، وأثبت لقدمه، ويؤيده ما نسب إلى علي (﵁) (لو كشف الغطاء ما ازددت يقياا» وقوله تعالى: (أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي».
(قال الخطابي): المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن المسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. أقول: ومصداقه قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) (قال الحسن) في شرح السنة في باب الإيمان من الاعمال: اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، وقال في تأويل حديث عمر وجبريل. جعل النبي ﷺ في هذا الحديث الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الإعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة، كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم). وأقول: يرد الشيخ بهذا زعم من يذهب إلى أن الأعمال خارجة من الإيمان، والإيمان عبارة عن مجرد التصديق، ويتمسك الزاعم بظاهر الحديث، ومعنى ما قال الشيخ أن رسول الله ﷺ لم يجعل الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، لأن يتمسك به المتمسك أن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل جعل ذلك تفصيلا للمجمل الذي هو الدين.
2 / 427
ــ
وتلخيص كلمه أن الإسلام في عرف الشرع يطلق تارة مجرد الانقياد وظاهر الأعمال، كما في قوله تعالى: (وقالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) وأخرى على الانقياد مع التصديق والقول المذكور في الحديث هو الأول، ليطابق المجمل والمفصل، لا الثاني، فلا يكون هذا دليل على نفي الثاني، وإنما اقتضى الحديث التفصيل في الإجمال؛ لأن المقام مقام تعليم للأمة وتفهيم لهم، فيجب حمل الإيمان والإسلام على ما يتعارفون بينهم، والقوم لما تواردت النصوص مثل قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) وقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) وقوله ﷺ: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على الزيادة في الإيمان- اصطلحوا على ترادف الإيمان والإسلام والدين، وأن الإعمال داخلة فيها، ولا مشاحة في الصطلاح.
(قال) الراغب: اختلفوا في الايمان أهو الاعتقاد المجرد أم الاعتقاد والعمل معًا؟ واختلافهم بسبب اختلاف نظرهم، فمن قال: هو الاعتقاد المجرد فنظره إلى اشتقاق اللفظ. وإلى أنه تعالى فصل بينهما في عامة التنزيل بالعطف، ولأن النبي ﷺ فرق بينهما في خبر جبريل ﵇ حين سأله عن الإسلام والإيمان، وفسر الأوال بالأعمال والثاني بالاعتقاد، ومن قال: هو الاعتقاد والعمال فلما ورد من قوله: (الإيمان معرفة في القلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان) ولأن الإيمان ليس بذي منزلة واحدة، قال النبي ﷺ (الإيمان بضع وسبعون شعبة) الحديث، ومن تأمله وعرف حقيقته على أن الإيمان الواجب هو اثنتان وسبعون درجة لا أقل ولا أكثر؛ لأنه ﷺ (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
وأقول: أما تأويل الحديث فقد كفى محيي السنة أهل السنة القتال، وأما تأويل العطف فبيانه من وجهين: أحدهما: أن العطف من باب قوله تعالى: (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) وذلك لأن الأعمال لما كانت مقررة مثبتة للإ] مان، وبها يستقيم ويتقوى، كقوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أو رفعا له وتشييدا لبنيانه، كقوله: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمال الصالح يرفعه) جعل شيئا آخر، وعطف عليه ولهذا السر جعل الله تعالى في قوله: (يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم) وقوله تعالى: (وما
ــ
2 / 428
الإحسان. قال: (أن تعبدالله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). قال: فأخبرني
ــ
خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) المطلوب من الخلق هو العبادة التي هي غاية الخضوع والاستكانة، وجعل المعرفة والتصديق كالمقدمة للواجب، ولعل الحكمة فيه إظهار الكبرياء والعظمة لله تعالى بإبداء غاية التضرع والاستطانة من المخلوقين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) وقوله تعالى: (والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) أي إن استكبرتم وأعرضتكم عن إظهار الافتقار يستبدل قوما غيركم.
وثانيهما- وهو الوجه-أن غالب هذا العطف في صلة الموصول، والصلة والموصول شيء واحد، والدليل عليه قوله تعالى: (الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات) مقالب لقوله: (الذين كفروا وكذبوا) وقوله تعالى: (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) في معنى هدى للمتقين المؤمنين، وهو عين المطلوب.
فإن قيل: إذا جعل الإيمان عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل، فمن أخل بواحد منها يلزم أن لا يكون مؤمنًا؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء. قلت: المراد بالإيمان ههنا هو الإيمان الكامل، وإذا كان المراد ذلك فإذا انتفى بعض منها ينتفي الإيمان الكامل، لا مطلق الإيمان.
قوله: «فأخبرني عن الإحسان» (قال الخاطبي): إنما أراد بالإحسان هاهنا الإخلاص، وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معًا، وذلك أن من تلفظ بالكلمة وجاء بالعمل من غير نية الإخلاص لم يكن محسنًا، ولا كان إيمانه صحيحًا، قال ﷺ (أن تعبد الله كأنك تراه) أي في إخلاص العبادة لوجه الله الكريم، ومجانبته الشرك الخفي، والعبادة لله الذي لا تنبغي العبادة إلا له على نعت الهيبة والتعظيم، حتى كأنه ينظر إلى الله خوفا منه وحياء وخضوعا له. (قال الراغب): الحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب فيه، وهو ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل، ومن جهة الهوى، ومن جهة الحس. والإحسان يقال على وجهين: أحدهما: الإنعما على الغير، يقال: أحسن إلى فلان. والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علما حسنا، أو عمل عملًا حسنا.
2 / 429
ــ
وأقول: يجوز أن يحمل الإحسان على الإنعام، وذلك أن العمال المرائي يبطل عمله ويحبطه، فيظلم على نفسه، فقيل له: أحسن إلى نفسك، ولا تشرك بالله، واعبد الله كأنك تراه، وإلا فتهلك، قال الله تعالى:) الذين يمكرون الشيئات لهم عذاب شديد) فإنها واردة في المرائي. ويجوز أن يحمل على المعنى الثاني، وعليه قوله تعالى: (أحسن كل شيء خلقه) وقوله تعالى: (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) أي المجيدين المتقنين في تعبير الرؤيا، كأنه سأل جبريل ﵇ بما ينبيء عنه الإخلاص، كما قال الله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن).
وأما تقدير الشرط والجزاء فهو أن يقال: إن لم تعبدالله كأنك تراه فاعبده كأنه يراك. وتحرير المعنى وإن لم تكن تراه كذلك أي مثل تلك الرؤية المعنوية فكن بحيث إنه يراك. وهو من جوامع الكلم، أي كن عالما متيقظا، لا ساهيا غافلا، كجدا في مواقف العبودية، مخلصا في نيتك، آخذا أهبة الحذر إلى ما لا يحصى؛ فإن من علم أن له حافظا رقيبا شاهدا بحركاته وسكناته- لا سيما ربه ومالك أمره- فلا يسىء الأدب طرفة عين، ولا فلتة خاطر، هذا هو معنى الإجادة في الإيمان والإسلام. وقيل: التقدير فإن لم تكن تراه فلا تغفل فإنه يراك.
والأولى أن نضرب عن هذا المجل صفحا، ونأخذ في منهل آخر، فنقول: (كأنك) إما مفعول مطلق، أو حال من الفاعل، والثاني أوجه؛ لأنه يحصل به للعابد ثلاث حالات، كما إذا قلت: كأن زيدا قائم، فتصور له حالات القعود والانتصاب، والقيام، فتشبه حالة الانتصاب بالقيام؛ لأنك فإدخال (كأن) توهم أن له حالة غير القيام، وهي المشبه بالقيام، كما إذا رأى الناظر شخصا من بعيد فتردد بين قيامه وقعوده، ثم خيل له أنه إلى القيام أقرب فقال: كأنه قائم، أي يشبه انتصابه بالقيام، كذلك في الحديث. للعبد بين يدي مولاه حالات ثلاث إحداها: حالة اشتغاله بالعبادة على سنن تسقط القضاء، من حفظ شرائطها وأركانها وهيآتها. وحالة تمكنه من الإخلاص في القصد، وأنه بمرأى من مولاه، وهو مراقب لحركاته وسكناته. وحالة مشاهدته، واستغراقه في بحار المكاشفة، وإليه لمح قوله ﷺ: (جعلت قرة عيني في الصلاة وأرحنا بها يا بلال) فشبه الحالة الثانية التي هي المراقبة بحالة المكاشفة التي هي من خواص النبي ﷺ في الدنيا. ووجه التشبيه حصول الاستلذاذ بالطاعة، والراحة بالعبادة، وانسداد مسالك الالتفات إلى الغير باستيلاء أنوار الكشف عليه، وهو ثمرة امتلاء زوايا القلب من المحبوب، واشتغال السر به، ونتيجته نسيان الأحوال من العلوم، واضمحلال الرسول. فلما
2 / 430
عن الساعة. قال: (ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل). قال: ........
ــ
استبان الصبح أدرج ضوءه بإسفاره أنوار ضوء الكواكب فقوله: فإن لم تكن تراه تنزل من مقام
المكاشفة إلى مقام المراقبة، فينبغى أن يقدر: فاعلم قولى: إنه يراك.
قال الشيخ العارف أبو إسماعيل الأنصاري: الإحسان اسم جامع لجميع أبواب الحقائق،
وبهو ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الإحسان في القصد بتهذيبه علما، وإبرامه عزما، وتصفيته
حالا. الدرجة الثانية: الإحسان في الأحوال: وهو أن يراعيها غيره، ويسترها تطرقا، ويصححها
تحقيقا، الدرجة الثالثة: الإحسان في المواقف، وهوأن لا تزايل المشاهدة أبدًا، ولا تلحظ بهمتك
أملا، وتجعل هجرتك إلى الحق سرمدًا. فإن قلت: قد جعل الشيخ درجات الإحسان ثلاثا،
وليس في الحالات التي قسمتها ما يدخل في معني الإحسان إلااثنين. قلت: تشبيه الثانية
بالثالثة يوجب حالة أخرى متوسطة بين الإخلاص في القصد الذي هو شريطة فيه، وبين
المشاهدة التي هي غايتها، وتلك المتوسطة هي الدرجة الثانية في قول الشيخ، لأنها نتيجة
الإخلاص في العمل، ومحصلة للحالة الثالثة، أعنى المشاهدة، والله أعلم.
قوله: (فأخبرني عن الساعة) الساعة القيامة. (قال) الكشاف: سميت ساعة لوقوعها بغتة، أو
لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند
الخلق. عني بالعكس أنها سميت بها بناء على عكس ما هي عليه من الطول تلميحًا، كما سمى
المهلكة مفازة والأسود كافورًا.
قوله: (ما المسئول عنها) (قال) المظهر: (ما) نافية، يعنى لست أنا أعلم منك ياجبريل
بعلم القيامة. أقول: أراد المظهر أن أصل الكلام هكذا، فعدل عنه إلى ما عليه، وذلك أن
الأجوبة الثلاثة على خطاب جبرئيل ﵇ كانت (تعريضا) للسامعين على طريقة
الخطاب العام، نحو قوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) ولو أجري على ذلك
الأسلوب لقيل: لست بأعلم منك. ولم يفد فائدة العموم؛ لأن المعني كل مسئول عنه
وسائل، أيا ما كان فهو داخل في هذا العموم. فإن قلت: من حق الظاهر أن يقال: ما
المسئول عنه ليرجع الضمير إلى اللام. قلت: كما يقال: سألت عن زيد المسئلة، يقال: سألته
عن المسئلة، فالضمير المرفوع راجع إلى اللام، والمجرور إلى الساعة.
ــ
2 / 431
فأخبرني عن أماراتها. قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاةَ العُراةَ العالةَ رعاء
الشاء ــ
ــ
واعلم أن الضمير في (عنها) راجع إلى الساعة، فلا بد من تقدير مضاف في السؤال
والجواب، نحو وقت وأيان؛ إذ وجود الساعة ومجيؤها مقطوع به، وإنما يسأل عن وقتها، كقوله
تعالى (يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها) أي في وقت أي شيء أنت
من أن تذكر وقتها لهم يعني ما أنت من ذكراها لهم وبتبيين وقتها في شيء. فإن قلت:
لفظة: (أعلم) مشعرة بوقوع الاشتراك في العلم، وأحدهما أزيد من الآخر، وهما يتساويان في
انتفاء العلم منهما. فالجواب أنه ﷺ نفى أن يكون صالحًا لأن يسأل عنه على سبيل الكناية، لما
عرف أن المسئول في الجملة ينبغي أن يكون أعلم من السائل، فهو من باب قوله تعالى: (ولا
شفيع يطاع) ويقال: إنه ﷺ نفى عن نفسه العلم بالمسئول عنه بوجه خاص، تلخيصه: أنا
متساويان في أنا نعلم أن للساعة مجيئا في وقت ما من الأوقات، وذلك هو العلم المشترك بيننا،
ولا مزيد للمسئول على هذا العلم حتى يتعين عنده المسئول عنه، وهو الوقت المتعين الذي يتحقق
فيه مجيء الساعة.
قوله: (الله ورسوله أعلم) فهو على بابه؛ لأن الأمارة السابقة وتعجبهم منها أوقعتهم في
التردد، أهو بشر أم ملك؟ وهذا القدر يكفى في الشركة.
قوله: (أن تلد الأمة ربتها) الرب مشترك بين المالك والمربى، قال صاحب الأساس: ربَّ
الدار وربَّ العبد وربَّ ولده تربيته. (قال) الجوهري: رب كل شيء مالكه، (قال) الكشاف
الرب المالك، ومنه قول صفوان لأبى سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن
يربني رجل من هوازن. هذا هو المعني في الحديث.
فإن قيل: كيف أطلق الرب علي غير الله تعالى وقد نهى ﷺ عن ذلك في قوله: (لا يقل
أحدكم أطعم ربك، وأرض ربك، ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي
ومولاي).،والجواب أن هذا من باب التشديدوالمبالغة، كما سنقرره.
(تو): فسر هذا القول كثير من العلماء على أن السبي يكثر بعد اتساع رقعة الإسلام،
فيستولد الناس إماءهم، فيكون الولد كالسيد لأمه؛ لأن ملك الأمة راجع في التقدير إلى الولد،
وذكر بلفظ التأنيث وأراد به النسمة؛ ليشتمل الذكور والإناث، أو كره أن يقول: ربها؛ تعظيما
لجلال رب العباد، أو أراد البنت، وإذا كانت هكذا فالابن أولى.
ــ
2 / 432