Sharh Ma'ani Shi'r Al-Mutanabbi by Ibn Al-Ifleili - Second Volume
شرح معاني شعر المتنبي لابن الإفليلي - السفر الثاني
Investigator
الدكتور مُصْطفى عليَّان
Publisher
مؤسسة الرسالة
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
Publisher Location
بيروت - لبنان
Genres
الجزء الأول
ورد على سيف الدولة الخبر، آخر ساعة نهار يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الأولى، سنة أربع وأربعين وثلاث مئة، بأن الدمستق وجيوش النصرانية قد نزلت ثغر الحدث في يوم الأحد، ونصبت مكايد الحصون عليه، وقدرت نيل فرصة، لما تداخلها من القلق والانزعاج والوهم في تمام بنائه على يد سيف الدولة؛ لأن ملكهم لزمهم قصدها، وأنجدهم بأصناف الكفر من البلغار والروس والصقالبة وغيرهم، وأنفذ معهم العدد، فركب سيف الدولة لوقته نافرا، وانتقل إلى موضع غير الموضع الذي كان به، فنظر فيها يجب أن ينظر فيه في ليلته، وسار عن حلب غداة يوم الأربعاء، فنزل رعبان، وأخبار الحدث مستعجمة عليه؛ لضبطهم الطرق، فلما أسحر لبس سلاحه، وأمر أصحابه بمثل ذلك، وسار زحفا، فلما قرب من الحدث، عادت إليه الطلائع فأخبرته بأن عدو الله لما أشرفت عليه خيول سيف
1 / 1
الدولة على عقبة يقال لها العيراني، رحل ولم تستقر به دار، وامتنع أهل الحدث من البدار خوفا من كمين يعترض الرسل، فنزل سيف الدولة بظاهرها، وذكر خليفته بها أنهم نازلوه وحاصروه، فلم يمكن الله من نصره عليهم إلا في نقوب نقبوها، فأتتهم طلائع بخبر سيف الدولة في إشرافه على ثغر رعبان، فوقعت الصيحة فيهم وظهر الاضطراب، وولى كل فريق على ودهه، وخرج أهل الحدث فأوقعوا ببعضهم، وأخذوا آلة حربهم فأعدوها في حصنهم، فقال أبو الطيب في ذلك يمدحه:
ذي المَعَالي فَلْيَعْلُونَ مَنْ تَعَالَى ... هكَذا هكذا وإلاَّ فلا لا
شَرَفٌ يَنْطَحُ النُّجومَ بِرَوْقَيْ ... هِ وعِزٌّ يُقَلْقِلُ الأَجْبَالا
حَالُ أَعدائِنا عظيمٌ وسَيْفُ الدَّ ... ولَةِ ابنُ السُّيوفِ أَعْظَمُ حالا
كلَّما أَعْجَلوا النَّذيرَ مَسِيرًا ... أَعْجَلَتْهُمْ جِيادهُ الإِعْجَالا
فَأَتَتْهُم خَوارِقُ الأَرْضِ ماتَح ... مِلُ إِلاَّ الحَدِيْدَ والأَبْطالا
خافياتِ الأَلوانِ قد نَسَجَ ... النَّقعُ عليها بَرَاقِعًا وجِلالا
حالَفَتْهُ صُدُورها والعَوالي ... لَيَخُوضُنَّ دُونَهُ الأَهْوَالا
وَلَتَمْضِنَّ حيثُ لا يَجِدُ الرُّم ... حُ مَدارًا ولا الحِصانُ مَجَالا
لا أَلومُ ابنَ لاونٍ مَلِكَ الرُّوم ... مِ وإِن كانَ ما تَمنَّى مُحَالا
أَقْلَقَتْهُ بَنيَّةٌ بين أذُنَيْهِ ... وبانٍ بَغَى السَّماَء فَنَالا
كُلَّمَا رامَ حَطَّها اتَّسَعَ البَنْ ... يُ فَغَطَّى جَبِينَهُ والقَذالا
يَجْمَعُ الرُّومَ والصَّقَالِبَ والبُلْ ... - غَرَ فيها، وتَجْمَعُ الآجالا
وتُوافِيهُمُ بها في القَنا السُّمْ ... رِ كما وافَتِ العِطاشُ الصّلالا
قَصَدوا هَدْمَ سُورِها فَبَنَوْهُ ... وأَتَوْا كَيْ يُقَصَّروهُ فَطَالا
واستَجَرُّوا مكايدَ الحَرْبِ حَتَّى ... - تَرَكوها لَهَا عَلَيْهِمْ وَبالا
1 / 2
رُبَّ أَمْرٍ أَتَاكَ لا تَحْمَدُ الفُعْ ... عَالَ فيه وتَحْمَدُ الأفْعَالا
وقِسِيًّ رُمِيْتَ عَنْها فَرَدَّتْ ... في قُلُوبِ الرُّماةِ عَنْكَ النَّصَالا
أَخذوا الطُّرقَ يَقْطَعونَ بها الرُّسْ ... لَ فَكَانَ انْقِطاعُها إِرسالا
وهُمُ البَحْرُ ذُو الغَزَارِبِ إِلاَّ ... أَنَّهُ صَارَ عِنْدَ بَحْركَ آلا
ما مَضَوْا لَمْ يُقاتِلُوكَ وَلكِنْ ... - نَ القِتالَ الذي كَفَاكَ القِتَالا
الغوارب: الأمواج، والآل: السراب.
فيقول مخبرا عن الروم، ومخاطبا لسيف الدولة: أخذوا الطرق موكلين بها، وقاطعين عنك للرسل منها، فكان ذلك القطع إشعارا، وقام ذلك الضبط مقام الإرسال إليك، لأنك أنكرت فعلهم، واستربت أمرهم، فأسرعت نحوهم، وبادرت بنفسك وجيشك إليهم.
ثم قال: إنهم كالبحر ذي الغوارب؛ لتكاثف جمعهم، وتكاثر عددهم، إلا أنهم صاروا عند قوتك وعديدك، وبأسك وجنودك، كالآل الذي يتخيل ولا يصدق، ويتمثل ولا يتحقق، ففروا هاربين، وولوا عنك مدبرين.
ثم قال يخاطب سيف الدولة: ما مضى الروم عنك غير مقاتلين لجيشك، ولا ولو غير متيقنين لأمرك.
ثم قال: ولكن القتال عند التأمل، والنزال الشديد عند التبين، ما أسكنت قلوبهم وقائعك من الهيبة، وما أودعتها من مهابة، حتى صار اسمك يهزم عساكرهم، وذكرهم يثني عزائمهم.
والذي قَطَّعَ الرَّقابَ مِنَ الضَّرْ ... بِ بِكَفَّيْكَ قَطَّعَ الآمالا
والثَّبَاتُ الذي أجادوا قديما ... عَلَّمَ الثَّابِتِيْنَ ذا الإجْفالا
الإجفال: الإسراع.
فيقول مخاطبا لسيف الدولة: والضرب الذي قطعت به كفاك رقاب الروم في
1 / 3
وقائعك، وأفنيت به أبطالهم في ملاحمك، قطع ما أملوه في حصن الحدث من مكايدتك، وأكذب ما حاولوه فيه من مغالبتك.
ثم قال مخاطبا له: والثبات الذي أجاد الروم قديما في قتالك، فأفضى بهم إلى المهالك، وأعقبهم أشد الهزائم، علم الثابتين من رجالهم، وأهل البأس من حماتهم وأبطالهم، الهرب منك، والاجتهاد في الإجفال عنك.
نَزَلُوا في مَصَارِعٍ عَرَفوها ... يَنْدُبُونَ الأَعْمَامَ والأخوالا
تَحِملُ الرَّيحُ بَيْنَهُمْ شَعَرَ الها ... مِ وتُذْري عَلَيْهِمُ الأَوْصَالا
تُنْذِرُ الجِسْمَ أَنْ يُقِيمَ لَدَيْها ... وتُرِيْهِ لِكُلَّ عُضْوٍ مِثَالا
الندب: ذكر الميت بجميل أفعاله، وتذري: تثير وتفرق.
فيقول: نزل الروم على الحدث في مواضع تقدمت معرفتهم بها وبإيقاع سيف الدولة عليهم فيها، فجعلوا يندبون من قتل [أبطالك] من أعمامهم وأخوالهم وأبطالهم وفرسانهم، وامتثلوا تلك الحال في أنفسهم، وتوقعوا أن يحدث ما يشبهها عليهم.
قم قال: تحمل الريح بينهم شعر هام القتلى منهم، وتذري ما تدفق من عظامهم عليهم وأوصالهم، فيخيفهم ويذعرهم، ويقلقهم ويفزعهم.
ثم قال: تنذر تلك الأوصال جسمهم بأن يؤول إلى مآلها، ويقيم لديها في مثل حالها، وتريه لكل عضو من أعضائه مثالا شاهدا، ونظيرا حاضرا، وأشار بما ذكره إلى رفعة سيف الدولة على الروم عند بنيانه لحصن الحدث التي وصفها في قصيدته التي أولها:
على قَدْرِ أهْلِ العَزْمِ تَأْتي العَزائِمُ
ولم تَكُنْ بَعِيدة من هذه الغزوة، فقال: إن الروم لما اشرفوا على موضع تلك الوقعة، وتذكروا عظم تلك النكبة، أشفقوا من أن يعاودهم سيف الدولة بمثلها، فولوا هاربين، وفروا بين يديه منهزمين.
1 / 4
أَبْصروا الطَّهْنَ في القُلُوبِ دِراكًا ... قَبْلَ أَن يُبْصِروا الرَّماحَ خَيَالا
وإذا حاوَلَتْ طِعانَكَ خَيلٌ ... أَبْصَرَتْ أَذْرُعَ القَنَا أَمْيالا
الدراك: التتابع، والخيال: ما ترى على غير حقيقة.
فيقول لسيف الدولة: مثلت هيبتك للروم إيقاعك بهم، وأرتهم طعان رماحك دراكا في قلوبهم، قبل أن يتخيلوا ذلك ويتحققوه، ويتمثلوه ويشاهدوه، فعاذوا بالفرار منك، وولوا منهزمين عنك.
ثم قال: وإذا حاولت خيل طعانك، ومثلت لأنفسها قتالك، أراها الفزع أذرع رماحك أميالا متصلة؛ [لما تتوقعه من طعنها، وتحذره من مخوف فعلها].
بَسَطَ الرُّعْبُ في اليَمِيْنِ يَمِيْنًا ... فَتَوَبَّوا وفي الشَّمالِ شِمالا
يَنْفُضُ الرَّوْعُ أَيْدِيًا تَدْرِي ... أَسُيوفًا حَمَلْنَ أَم أَغْلالا
وَوجُوهًا أخافَهَا مِنْكَ وَجْهٌ ... تَرَكَتْ حُسْنَها لَهُ والجَمَالا
الروع: الفزع، والأغلال: رَوابط تشد بها الأيدي إلى الأعناق، واحدها غل.
فيقول: بسط الرعب في أيديهم أيديا مثلها، تمنعها من البطش، وتقصرها على الكف، فولوا وقد خذلتهم أعضاؤهم من الفزع، فاستولى على أنفسهم شدة الجزع.
ثم قال على نحو ما قدمه: ينفض الروع من أيديهم السلاح فيسقطه، ويسلبهم إياه الذعر فيذهبه، حتى كأن سيوفهم في أيديهم أغلال تملكها، وموانع تمنعهم من التصرف بها.
ثم قال على نحو ما تقدم، مخاطبا لسيف الدولة: وينفض الرعب عنهم وجوها قد امتقعها الخوف، وأذهب جمالها الذعر، فهي ترعد متغيرة، وتعبس متوقعة قد أخافها منك وجه أحرز غاية الحسن، وغلبها على الجمال والفضل.
والعِيَانُ الجَلِيُّ يُحْدِثُ لِلظَّنَّ ... زوالا ولِلْمُرادِ انْتِقالا
وإذا ما خلا الجَبَانُ بأَرضٍ ... طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ والنّزالا
1 / 5
أَقْسَمُوا لا رأَوْكَ إِلاَّ بِقَلْبٍ ... طال مَا غَرَّتِ العُيونُ الرَّجالا
الجلي: المكشوف.
فيقول مشيرا إلى الروم، وفرارهم عن أرض الحدث بين يدي سيف الدولة؛ بعدما تكلفوه من غزوه، وتعاطوا من حصاره: أن ما تيقنوه من قصد سيف الدولة لهم، وتسابق خيله نحوهم، أكذب ما ظنوه، واراهم الجلية فيما حاولوه، وعرفهم أن حظهم في الانتقال عما أضمروه من الإقدام إلى الفرار والانهزام.
ثم ضرب للروم مثلا في فعلهم فقال: وإذا ما خلا الجبان في أرضه، وبعد عن الأقران بنفسه، طلب الطعن والمنازلة، وتعاطى القتال للمبارزة، فإذا أحس بمن يقاتله، رجع إلى طبعه، واعتصم بالفرا عن قرنه، وكذلك شأن الروم وشأن سيف الدولة، اظهروا الإقدام عليه، فلما أحسوا به، فروا بين يديه.
ثم قال مخاطبا لسيف الدولة: أقسم الروم أنهم لا يرونك إلا بقلوبهم متباعدين عنك، ولا يلحظونك بعيونهم مقربين منك، فطالما اغتروا بموافقتك فأفنيت جيوشهم، وكثرا ما أقدموا في الحرب على معاينتك، فأتلفت نفوسهم. وهذه العبارة وإن كانت تزيد على لفظه، فهي مفهومة من حقيقة [قصده].
أَيُّ عَيْنٍ تَأَمَّلَتْكَ فَلا قَتْكَ ... وطَرْفٍ رَنَا إِليكَ فآلا
ما يَشُكُّ اللّعِينُ في أخْذِكَ الجَيْ ... شَ فهل تَبْعَثُ الجُيُوشَ نَوَالا
ما لِمَنْ يَنْصِبُ الحبائِلَ في الأر ... ضِ ومَرْجَاهُ أَنْ يَصِيْدَ الهِلالا
الرنو: النظر، وآل بمعنى: رَجَعَ، والنوال: العطاء، والحبائل: الأشراك، واحدتها حبالة، ومرجاة: مفعلة من الرجاء.
فيقول لسيف الدولة: أي عين بطل تأملتك فرقاك صاحبها، وأقدم على موافقتك الناظر بها، وأي شجاع مجرب، أو كمي مقدم دنا إليك طرفه، ولاحظتك عينه، فرجع قاصدا إليك، وتعرض للكر مقدما عليك؟!
1 / 6
ثم قال، وهو يريد ملك الروم: ما يشك اللعين في أنك تغلب جيشه وتأخذه، وتتحكم فيه وتتملكه، وتشمل أهله بالقتل والأسر، ويتكفل الله لك عليه بأبلغ النصر، أفتراه إنما يجهز الجيوش إليك عطاء لك تقصده، وإتحافا تعتمده.
ثم قال مؤكدا للإزراء على ملك الروم: ما لمن ينصب حبائله في الأرض، ويبث مكائده بين الناس، ورجا التأثير في سيف الدولة، وهو القمر في رفعته، وسبيه [به] في علو منزلته، فكيف لملك الروم أن يؤثر في القمر، ويعترض على سابق القدر؟!
إِنَّ دُونَ التي على الدَّرْبِ والأَح ... دَبِ، والنَّهْرِ مِخْلَطا مِزْيالا
غَضَبَ الدَّهرَ والمُلُوكَ عليها ... فَبَناها في وَجْنَةِ الدَّهْرِ خَالا
وحَمَاها بكلَّ مُطَّردِ الأكْ ... عُبِ جَوْرَ الزَّمانِ والأَوْجالا
الدرب: المدخل إلى أرض العدو من أرض الإسلام، والأحدب: جبل بقرب حصن الحدث، والاختلاط بالشيء: الالتباس به، والزوال عنه: المباعدة، والمخلط المزيال: الذي يلابس الشيء تارة، ويباعده تارة، والغضب: الأخذ بالقهر، والخال: شامة في الوجه، تخالف سائر لونه، والمطرد: المتصل الذي لا عوج غيه، والأكعب: العقد التي تكون بين أنابيب الرمح، واحدها كعب، والأوجال: المخاوف، واحدها وجل.
فيقول مشيرا إلى مدينة الحدث، وإلى سيف الدولة: إن دون المدينة المبنية على الدرب والأحدب والنهر من سيف الدولة، الذي يحمي حريمها، ويقاتل الأعداء دونها، ملكا متيقظا مقتدرا، مزيالا عن أطراف بلاده، واثقا بما يحميها من هيبته، مخلطا بالأعداء فيها عند مرامهم لها، سريعا لا يتأخر من سطوته، فهو وإن بعد، أدنته قوته، وإن انتزح، قربته مقدرته.
ثم قال: غضب الدهر والملوك على هذه المدينة، [وأدخل على كان في أول الكلام
1 / 7
غلب]، والعرب تفعل ذلك، وتحمل الكلام على المعنى إذا تقارب ولم يستحل، فبناها في وجنة الدهر كالخال الذي يزين الوجه مع مخالفته للونه، ويحسنه مع ما يثبت فيه من وسمه، فبين أن هذه المدينة امتنع أمرها، وجل قدرها، فكأن الدهر زين بها وجهه، ووسم برفعتها نفسه.
ثم قال يريد سيف الدولة: وحمى هذه المدينة بكل رمح مطرد الكعوب، جور الزمان وظلمته، ومخاوفه وصرفه، يشير إلى منعه لها من الروم بمسارعته دونها إليهم.
وهي تَمْشِي مَشْيَ العَرُوسِ اخْتِيالا ... وتَثَنَّى على الزّمانِ دَلالا
في خَمِيْسٍ مِنَ الأُسودِ بئِسٍ ... يَفْتَرسْنَ النُّفوسَ والأموالا
وظُبًا تَعْرِفُ الحَرامَ مِنَ الحِلَّ ... فَقَدْ أَفْنَتِ الدَّماَء حَلالا
الاختيال: الزهو والتكبر، الدلال: الشكل، والخميس: الجيش، [والبئيس]: الكثير الشجعان، والافتراس: شدة الأخذ، وأصله دق العنق، والظبا: السيوف، والحرام: الممنوع، والحل: الحلال.
فيقول، وهو يريد مدينة الحدث: فهي تمشي مشي العروس اختيالا بمنع سيف الدولة منها، وتثنى على الزمان دلالا بمدافعته عنها، وأتى بهذا القول على سبيل الاستعارة، وأشار إلى أن هذه المدينة من الاعتزاز بسيف الدولة في حال تتيه معها على الدهر، وتفرط في الخيلاء والكبر.
ثم قال: وهي في خميس من جيشه، وكثرة من جمعه، وهم كالأسود الضارية، والسباع العادية، يفترسون نفوس الأعداء، ويأخذون أموالهم، ويقربون حتوفهم وآجالهم.
ثم قال، يريد. . . من سيوف هذا الجيش مشكور فعلها، محمود أثرها، تعرف الحلال والحرام، والمباح والمحظر، فقد أفنت الدماء التي أحل الله سفكها، ومنعت
1 / 8
البلاد التي أوجب حمايتها ومنعتها.
إِنَّما أَنْفُسُ الأَنِيْس سِبَاعٌ ... يَتَفارَسْنَ جَهْرَةً واغْتِيالا
من أَطَاقَ التِماسَ شيءٍ غِلابَا ... واغْتِصابا لم يَلْتَمِسْهُ سُؤالا
كلُّ غادِ لِحَاجَةٍ يَتَمنَّى ... أَنْ يَكُونُ الغَضَنْفَرَ الرَّئْبالا
الأنيس: جماعة الناس، والتفارس: التقاتل، والجهرة: معروفة، والاغتيال: القتل بالخديعة، والغلاب: المغالبة، والاغتصاب: الأخذ بالقهر، والغضنفر والرئبال: اسمان من أسماء الأسد.
فيقول: إنما أنفس الناس كالسباع فيما تبتغيه وتطلبه، من الاستعلاء بالقدرة، فهي تتفارس سرا وجهرة، ومكاشفة وغيلة.
ثم قال: وكل غاد منهم لحاجة، ومعتمد لبغيته، يود أنه الأسد بأسا وشدة، واقتدارا وقوة؛ ليتناول ما يقصده بفضل قوته، ويستظهر عليه ببأسه وشدته. وأشار إلى أن الروم لم يفروا بين يدي سيف الدولة على الخديعة أنفا ومكارمة، وإنما كان فرارهم فرقا ومحاذرة؛ لأن في طبائع الإنس أن يستعملوا فيما يطلبونه غاية قوتهم، [وأن يتناولوا ذلك بأبلغ قدرتهم].
1 / 9
وفزع الناس لخيل لقيت سرية لسيف الدولة ببلد الروم، فركب وركب أبو الطيب معه، فوجد السرية قد قتلت بعض الخيل، وأراه بعض العرب سيفه، فنظر إلى الدم عليه، وإلى فلول أصابته في ذلك الوقت، فتمثل سيف الدولة بيتي النابغة:
ولا عَيْبَ فيهم غَيْرَ أَنّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلولٌ مِنْ قِراعِ الكَتَائِبِ
تُوُرَّثْنَ مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمَةٍ ... إِلى اليَوْمِ قَد جُرَّبْنَ كُلَّ التَّجارِبِ
فَأَنْشَدَ ارتجالا:
رَأَيْتُكَ تُوسِعُ الشُّعراَء نَيْلًا ... حَدِيْثَهُمُ المُوَلَّدَ والقَدِيْمَا
فَتُعْطِي مَنْ بَقَى مالًا جَسِيْمًا ... وتُعْطي مَنْ مَضَى شَرَفًا عَظِيْمًا
المولد: المتأخر من الشعراء، وبقى: بمعنى بقي، وهي لغة لطيء، يبدلون الكسرة فتحة، إذا كانت بعدها ياء مفتوحة، ويقلبون الياء ألفا، فيقولون في رضي: رضى، وفي ناصية ناصاة.
فيقول لسيف الدولة (. . . . . . .) وتعمهم بنيلك؛ حديثهم المولد في عصرك، وسالفهم المتقدم من قبلك.
ثم بين ذلك فقال: فتعطي (. . . . . . . .) يقنعهم، وتعطي ماضيهم شرفا عظيما يدفعهم.
سَمِعْتُكَ مُنْشِدًا بَيْتي زيادٍ ... نَشِيْدًا مِثْل مُنشِدِهِ كريما
فما أَنْكَرْتُ مَوْضِعَهُ ولكن ... غَبَطْتُ بِذاكَ أَعْظُمَه الرَّميما
زياد: نابغة بني ذبيان، وغبطت الرجل بحاله: إذا أيدت بصيرته (. . . . . . . .)، والرميم: العظم إذا بلي وتقطع.
فيقول لسيف الدولة: سمعتك تنشد بيتي النابغة نشيدا يشبه كرمه كرمك، [ويماثل صوابك شعره]، فما أنكرت موضع النابغة من (. . . . . .) لما رفعت من قدره، ولكنني غبطت عظامه البالية بتشريفك (. . . . . . . . .).
كمل السفر والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خاتم النبيين، وعلى آله
1 / 10
أجمعين، وكان الفراغ منه يوم السبت الموفي ثلاثين من شهر ربيع الآخر عام أربع. . . وكتبه بخطه لنفسه عفا الله عنه علي بن محمد بن جعفر.
1 / 11
اجتاز أبو الطيب برأس عين سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وقد أوقع سيف الدولة بعمرو بن حابس من بني أسد، وبني ضبة وبني رياح من بني تميم، يمدح سيف الدولة بهذه القصيدة، ولم ينشده إياها، فلما أنشده هذه القصيدة اللامية، أنشده إياها، وألحقت في هذا الموضع، وهي من قوله في صباه:
ذِكْرُ الصَّبا ومَرَابِعُ الآرامِ ... جَلَبَتْ حِمَامِي قَبْلَ وَقْتِ حَمامي
دِمَنٌ تَكاثَرَتِ الهُمومُ عَلَيَّ في ... عَرَصَاتِها كَتَكاثُرِ اللُّوَّامِ
فَكَانَّ كُلَّ سَحَابَةٍ وَقَفَتْ بِها ... تَبْكِي يِعَيْنَيْ عُرْوَةَ بنِ حِزَامِ
الذكر: جمع ذكرى. والآرام: الظباء، ومرابعها: المواضع التي تقيم فيها مدة الربيع، والحمام: الموت، والدمن: المواضع التي ينزل بها القوم فتبقى فيها أبعار إبلهم، وآثار نارهم، (وعرصات) الدمن: أوساطها، وعروة بن حزام العذري: أحد العشاق المتقدمين وهو ممن قتله العشق.
فيقول: ذكر الصبا وما فرط من طيبه، والشباب وما سلف من السرور به (. . .) زمن إلمامي على ربع الآرام من الأحبة، جلبت إلي الحمام قبل وقته (. . .).
ثم قال: دمن تكاثرت الهموم علي (. . .) في عرصاتها من دروس رسومها (. . .) كتكاثر اللوام على ما لحقني من الحزن، وأحاط بي من البث والشجن، وكأن سحاب (. . .) الأمطار المغيرة لها تبكي عليها رثاية لتغيرها، وأسفا على دروسها وتبدلها بعيني عروة بن حزام، الذي كان لا يرقا دمعه، ولا يفتر حزنه، فأشار ببكاء السحاب على هذه الدمن إلى ما كانت عليه من الحسن والجلالة، وبمداومة المطر لها إلى ما صارت إليه (. . . .).
وَلَطَالَما أَفْنَيْتُ رِيْقَ كَعَابهَا ... فِيها، وأَفْنَتْ بالعِتَابِ كَلامي
قَدْ كُنْتَ تَهْزَأُ بِالفرَاقِ مَجَانَةً ... وَتَجُرُّ ذَيْلَي شِرَّةٍ وَعُرامِ
لَيْسَ القِبَابُ على الرَكاب وإنما ... هُنَّ الحَياةُ تَرحَّلَتْ بِسَلامِ
الكعاب: الجارية التي ينبت ثديها في صدرها. والعتاب: المؤاخذة على الزلة.
1 / 12
والماجن: الذي لا يبالي بما صنع. والعرام: الشدة، والركاب: الإبل تحمل القوم.
فيقول: ولطالما أفنيت في هذه الدار ريق كعابها، مسرورا بوصلها، مبلغا أبلغ الأمل من قربها، وأفنت كلامي بمعاتبتها لي، واستكثرت من حديثي معجبة بي.
ثم قال مخاطبا لنفسه: قد كنت تهزأ بالفراق آمنا لفجاءته، وتمجن بذكره جهلا بمخوف عاقبته، وتجر في (. . . . .) ذيلي شره وعرام، وتتصرف فيه تصرف شبيبة واغترار.
ثم قال مشيرا إلى فراق أحبته، ورحيل من شغف بألفته: ليس على الركاب في (. . .).
لَيْتَ الَّذي خَلَقَ النَّوىَ جَعَلَ الحَصَى ... لِخِفَافِهِنَّ مَفَاصِلِ وَعِظَامِي
مُتَلاحِظْيَنَ نَسُحُّ مَاَء شُؤُونِنَا ... حَذَارًَا مِنَ الرُّقَبَاءِ في الأَكْمَامِ
أَرْواحُنَا انهَمَلَتْ وعِشْنَا بَعْدَهَا ... مِنْ بَعْدِ ما قَطَرَتْ على الَقدامِ
النوى: البعد. وخفاف الإبل: ما تطأ به الأرض من أيديها وأرجلها. والسح: الانسكاب. والشؤون: مجاري الدموع. والانهمال: شدة الجري. والقطر: سقوط المطر الشيء بعد الشيء، ويستعار ذلك فيما قاربه. والمفاصل: ما تتصل عليه الأعضاء.
فيقول: ليت الذي خلق النوى وأنشأها، وابتدعها واخترعها، جعل بتلك القدرة حصى أحفاف إبل الأحبة عظامي؛ لأصحبها ولا أفارقها، وأقاربها ولا أباعدها.
ثم قال؛ يريد نفسه وأحبته الراحلين عنه: متلاحظين في موقف البين، نسخ ماء شؤونها - وأومأ إلى الدمع - غير معلنين بسكبه، ولا مظهرين لأمره، نسكبه في الأكمام، ونستره عن الرقباء واللوام.
ثم قال: ولم يكن ما بكينا به دموعا نسكبها ونذريها ويرسلها، وإنما كانت أرواحنا قطرت على أقدامنا منهلة، وظعنت عن أجسامنا مرتحلة، وعشنا منها بأنفس
1 / 13
ضعيفة، وحيينا بحشاشات يسيرة.
لَوْ كُنَّ يَوْمَ جَرَيْنَ كُنَّ كَصَبْرنَا ... عِنْدَ الرَّحِيْلِ لَكُنَّ غَيْرَ سِجَامِ
لَمْ يَتْرُكُوا لِيَ صَاحِبًا إِلاَّ الأَسَى ... وَذَمِيْلَ ذِعْلِبَةٍ كَفَحلِ نَعَامِ
وَتَعَذُّرُ الأَحْرَارِ صَيَّرَ ظَهْرَهَا ... إِلا إليكَ عَلَيَّ فَرْجَ حَرَامِ
السجام: الجارية، واحدها ساجم، والأسى: الحزن، والذميل: ضرب من مشي الإبل، والذعلبة: الناقة السريعة.
فيقول: لو كانت (. . .) عند الوداع في حين (. . .) على مثل حال صبرنا؛ لكانت معدومة لا تسجم، ومفقودة لا تسكب. يشير إلى ما كان عليه في تلك الحال، من كثرة الجزع والدمع، وقلة العزاء والصبر. ثم قال، يريد أحبته: لم يتركوا لي صاحبا آنس بقربه، وموالفا أسكن إلى وصله، إلا الأسى الملازم، والكمد المداخل، وسير ذعلبة أركبها؛ رجاء السلوة، وأسير بها متعللا من كمد الفرقة.
ثم قال، وهو يخاطب سيف الدولة: وتعذر الأحرار في الزمن الذي (. . . .) فضلك، وصغر أقدارهم قدرك، صير ظهر تلك الناقة علي فرج حرام لا أقربه (. . .).
أَنْتَ الغَريْبَةُ في زَمَانٍ أَهْلُهُ ... وُلِدَتْ مَكَارِمُهُمْ لِغَيْرِ تَمَام
أَكْثَرْتَ مِنْ بَذْلِ النَّوالِ ولَمْ تَزَلْ ... عَلَمًا على الإفْضالِ والإِنْعَامِ
صَغَّرْتَ كُلَّ كَبيْرَةً وَكَبُرْتَ عَنْ ... لَكَأَنَّهُ، وَعَدَدْتَ سِنَّ غُلامِ
الغريبة من الأشياء: التي يعدم نظيرها، والمولود لغير تمام: الذي يولد قبل استيفاء مدة حمله، وذلك يخدج المولود، ويضعف خلقه، والنوال: العطاء، والعلم: العلامة، والغلام: الصبي.
فيقول لسيف الدولة: أنت غريبة الزمان بعموم فضله، وجلالة قدره، في زمان
1 / 14
مكارم أهله مخدجة ناقصة، مستقلة مستصغرة، فأنت مستغرب في دهرك، أنك بلغت غاية التمام في أوان النقصان (. . . . . .) فكيف بك وقد تناهت قوتك، وتمكنت شبيبتك. وهذه العبارة وإن كانت تزيد على لفظه، فهي مفهومة منه، وغير خارجة في جملتها عنه.
وَرَفَلْتَ في حُلَلِ الثَّنَاءِ، وإِنّما ... عَدَمُ الثَّنَاءِ نِهَايَةُ الإِعْدَامِ
عَيْبٌ عَلَيْكَ تُرَى بِسَيْفٍ في الوَغَى ... ما يَصْنَعُ الصَّمْصَامُ بالصَّمْصَامِ
إِنْ كَانَ مِثْلُكَ كانَ أو هُوَ كائِنٌ ... فَبَرِئْتُ حِيْنَئِذٍ مِنَ الإسْلامِ
رفل الرجل: إذا جر ذيله، والإعدام: الفقر، والوغى: الحرب، والصمصام: السيف.
فيقول لسيف الدولة: ورفلت صغيرا وكبيرا في حلل الثناء والحمد، وأحرزت أبعد غايات الكرم والمجد، وإنما عدم الثناء نهاية الإعدام والفقر، وغاية الإقلال والعسر.
ثم قال مخاطبا له: عيب عليك وأنت السيف نفاذا وحدة، وصرامة وهيبة، أن تتقلد السيف في حربك، ونستعمله (في) بطشك، والسيف يقصر (عن) فعلك، ويتصاغر عن جلالة قدرك، فما تفعل، وأنت الصمصام، بصمصام يعضدك، وما تريد، وأنت السيف، بسيف يعينك ويؤيدك.
ثم قال: إن كان مثلك في نظرائك من الرؤساء، ومن تقدمك من أكبر الكرماء، أو تظنه كائنا في الأغلب من (. . . .) ومنتظرا في غير عصرك، فبرئ حينئذ من الإسلام (. . . . . .).
مَلِكٌ زُهَتْ بِمَكَانِهِ أَيَّامُهُ ... حَتَّى افْتَخَرْنَ بِهِ على الأَيَّامِ
وَتَخَالُهُ سَلَبَ الوَرَى أَحْلاَمَهُمْ ... مِنْ حِلْمِهِ فَهُمُ بِلا أَحْلامِ
وإِذا امْتَحَنْتَ تَكَشَّفَتْ عَزمَاتُهُ ... عَنْ أَوْحَدِيَّ النَّقْضِ والإبْرَامِ
1 / 15
الزهو: العجب والكبر، وزهت بمعنى زهيت فأبدل من الكسرة فتحة، وقلب الياء ألفا، وحذفها لالتقاء الساكنين، وهي لغة طيء، وقد تقدم شرحها، والحلم: العقل، والإبرام: الإحكام، والنقض: ضده.
فيقول وهو يريد سيف الدولة: ملك زهيت أيامه بجلالة قدره وأعجبت بتكامل فضله حتى افتخرت به على الأيام كلها، وترفعت بمكارمه على الأزمنة بأسرها. وهذا على التجوز والإشارة إلى الأكثر.
ثم قال: وتخاله لوفور حلمه، وسعة إحاطته وعلمه، قد اجتمعت له أحلام الورى بجملتها، وقصرت عليه بعامتها، وصاروا بمعزل عنها قد سلموها لحلمه، وتصرفوا فيها على حكمه.
ثم قال: وإذا امتحنت أصالة رأيه، وجلالة أمره، تكشفت لك عزائمه على ألمعي في قوله وفعله، وأوحدي في إبرامه ونقصه.
وإذا سَاَلْتَ بَنَانَهُ عَنْ نَيْلِهِ ... لَمْ يَرْضَ بالدُّنْيَا قَضَاَء ذِمَامِ
مَهْلًا، أَلا لِلَّهِ ما صَنَعَ القَنَا ... في عَمْرِو حَابِ، وضَبَّةَ الأَغْتَامِ
لَمَّا تَحَكَّمَتِ الأَسِنَّةُ فيهِمِ ... جَارَتْ، وَهُنَّ يَجُرْنَ في الأَحْكامِ
الذمام: الحرمة، وعمرو حاب: أراد عمرو حابس فرخم في غير النداء، وعمرو [بن] حابس بطن من بطون [بني أسد]. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .).
ثم قال: لما تحكمت أسنته فيهم، وتسلطت سلاح جنوده عليهم، جارت بالإسراف في قتلهم، وأفرطت فيما أفنت من جمعهم، وكذلك الرماح وأحكامها جائرة، وأفعالها في العقوبة بالغة.
فَتَرَكْنَهُمْ خَلَلَ البُيوتِ كَأَنَّمَا ... غَضِبَتْ رُؤُوسُهُمُ على الأَجْسَامِ
أَحْجَارُ نَاسٍ فَوْقَ أَرْضٍ مَنْ دَمٍ ... ونُجُومُ بَيْضٍ في سَمَاءِ قَتَامِ
1 / 16
وذِراعُ كُلَّ أَبي فُلانٍ كُنْيَةً ... حَالَتْ فَصَاحِبُها أَبو الأَيْتَامِ
الخلل: الفرجة بين الشيئين، والقتام: الغبار، وبيض الحديد معروفة، والواحد بيضة، والذراع: علامة معروفة يسم بها بنو سعد العشيرة.
فيقول لسيف الدولة: فتركت هاتين القبيلتين، وكأن رؤوسهم قد غضبت على أجسامهم ففارقتها، وتسخطت صحبتها فباينتها، وصاروا في خلل بيوتهم أجساما لا رؤوس لها، ورؤوسا لا تتصل الأجسام بها.
ثم قال على نحو ما قدمه: أحجار ناس، يشير إلى كثرتهم، وما قطعه القتل من حركتهم، وأنه أبقاهم جثثا كالأحجار في أرض قد لبسها الدم لكثرته، وستر (. . . . . . . . . . .) فصاروا في معتركهم كالأحجار الساكنة على أرض من لدماء الجارية تحت سماء من القتام؛ مثار سنابك الخيل، ونجومها لوامع البض.
ثم قال وعلامة (. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .).
عَهْدِي بِمَعْرَكَةِ الأَميرِ وَخَيْلُهُ ... في النَّقْعِ مُحْجِمَةً عن الإحْجَامِ
صَلَّى الإلهُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّعٍ ... وَسَقَى ثَرَى أَبَوَيْكَ صَوْبَ غَمَامِ
وَكَساكَ ثَوْبَ مَهَابَةٍ مِنْ عِنْدِهِ ... وأَرَاكَ وَجْهَ شَقِيقِكَ القَمْقَامِ
المعركة: موضع القتال، والنقع: الغبار، والإحجام: التأخر، وهو مقلوب من الإحجام، والصلاة الترحم، والشقيق: الأخ من الأب والأم، والقمقام: السيد الكثير الخير.
فيقول: عهدي بمعركة الأمير سيف الدولة في القوم الذين ذكر إيقاعهم بهم، وخيله في الرهج الذي ثار في تلك المعركة، مقدمة إلى الأعداء غير محجمة، متسابقة إليهم غير متهيبة، تتأخر عن الإحجام، وتقتحم أشد الاقتحام.
ثم قال مخاطبا له: وفر الله حظك من رحمته، ورضي عنك لا بالتوديع عند (. .
1 / 17
)، وسقى ثرى أبويك غماما يرويه صوبه، وسحابا يتصل عليه سكبه، وكساك من عنده ثوب المهابة، ومتعك بالتأييد والكرامة، وأراك وجه شقيقك، يريد: ناصر الدولة السيد (. . .).
فَلَقَدْ رَمَى بَلَدَ العَدُوَّ بِنَفْسِهِ ... في رَوْقِ أَرْعَنَ كالغِطَمَّ لُهَامِ
قَوْمٌ تَفَرَّسَتِ المَنَايَا فِيْكُمُ ... فَرَأَتْ لَكُمْ في الحَرْبِ صَبْرَ كِرَامِ
تَاللَّهِ ما عَلِمَ امرُؤ لَوْلاكُمُ ... كَيْفَ السَّخَاءُ وكَيْفَ ضَرْبُ الهَامِ
(. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .).
ثم قال يخاطبهم: تالله لولا ما نهجتموه من البذل، وأظهرتموه من الإقدام في الحرب، ما عرف الناس حقيقة السخاء، ولا كيف تجالد الأبطال عند اللقاء.
1 / 18
وقال يمدحه، أنشدها إياه بآمد، وكان منصرفا من بلاد الروم في آخر نهار يوم الأحد لعشر خلون من صفر سنة خمس وأربعين وثلاثمائة:
الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ ... هُوَ أَوَّلٌ وَهْيَ المَحَلُّ الثانِي
فَإذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِنَفْس مِرَّةٍ ... بَلَغَتْ مِنَ العَلْيَاءِ كُلَّ مَكَانِ
وَلَرُبَّمَا طَعَنَ الفَتَى أَقْرَانَهُ ... بالرَّأْيِ قَبْلَ تَطَاعُن الأَقْرَانِ
النفس المرة: الأبية التي لا تستعذب (. . .) من أقدم على (. . . . . . . . .) والأقران: الأكفاء، والواحد قرن.
فيقول: (. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .).
لَوْلاَ العُقُولُ لَكَانَ أَدْنَى ضَيْغَمٍ ... أَدْنَى إِلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ
وَلَمَا تَفَاضَلَتِ النُّفوسُ وَدَبَّرَتْ ... أَيْدِي الكُمَاةِ عَوَالِيَ المُرَّانِ
لَوْلاَ سَمِيُّ سُيُوفِهِ وَمَضَاؤهُ ... لَمَّا سُلِلْنَ لَكُنَّ كالأَجْفَانِ
الضيغم: الأسد، والكماة: أبطال الشجعان، والمران: الرماح التي تجمع اللين مع الصلابة، واحدها مارن، والمضاء: النفاذ. والأجفان: أغماد السيوف.
فيقول مؤكدا للتنبيه على فضيلة الرأي: لولا العقول التي تبعث (على) الرأي، وتدل على مواضع الشجاعة، لكان أقل الأسد حالا، وأوضعها منزلة، أقرب (إلى) شرف الرفعة، وعلو المنزلة (من) الإنسان؛ لأنه يبلغ من ذلك ما لا يبلغه، ويدرك منها أكثر مما يدركه، ولكن الإنسان يفضله بعقله، ويزيد عليه بمعرفته وعلمه.
ثم قال على نحو ما قدمه: ولولا العقول لما فضلت نفوس الإنس نفوس سائر الحيوان، ولا استعملت الكماة السلاح للمنازلة، ولا (استظهرت) به عند المقاتلة ولا دبرت أيدي الفرسان عوالي الرماح، ولا صرفتها فيما تقصده من الطعن، ولكن العقول أفادت ذلك ودلت عليه (. . . . . . . . . .) إليه.
ثم قال، يريد سيف الدولة: لولا سمي سيوفه وهيبته، ومضاؤه في الحرب (. . .
1 / 19
).
خَاضَ الحِمَامَ بهِنَّ حَتَّى ما دُرِي ... أَمِنِ احْتِقارِ ذاكَ أَمْ نِسْيَانِ؟
وَسَعَى فَقَصَّرَ عَنْ مَدَاهُ في العُلا ... أَهْلُ الزَّمانِ، وأَهْلُ كُلَّ زَمَانِ
(. . . . . . . . . . . . . . . .) والجموع المكسرة مع ذلك محمولة على التأنيث في الإخبار عنها، يقال: اجتمعت الرجال وسارت الجمال.
ثم قال، يريد سيف الدولة: خاض غمرات الموت بمن معه من أصحاب تلك السيوف، مبادرا لا يتوقف، ومقتحما لا يتهيب، حتى ما دري إلى أي الحالين ينسب فعله؛ إلى احتقاره لمن قاتله، أم إلى تناسيه لعظيم ما حاوله.
ثم قال: وسعى فيما ابتغاه من المجد، وما قصره على نفسه من الشكر والحمد، فقصر عن إدراك شأوه، ومماثلة فعله، أهل زمانه بجملتهم، والمحاولون لإدراكه بعامتهم، ومن تقدمه من الكرماء في الأزمنة الخالية، ومن كان قبلهم منهم في المدد السالفة.
تَخِذُوا المَجَالِسَ في البُيوتِ وعِنْدَهُ ... أَنَّ السُّروجَ مَجَالِسُ الفِتْيانِ
وتَوَهَّمُوا اللَّعبَ الوَغَىَ والطَّعْنَ في ال ... هيجاءِ غَيْرُ الطَّعْنِ في المَيْدانِ
تخذوا: لغة في اتخذوا. قرئ: (لو شئت لاتخذت عليه أجرا)، و(لتخذت عليه أجرا)، والميدان: موضع يتخذ (. . . . .) الخيل.
فيقول: (. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .).
قَادَ الجِيَادَ إِلى الطَّعَانِ ولَمْ يَقُدْ ... إِلاَّ إِلى العَادَاتِ والأَوْطَانِ
كُلُّ ابنِ سَابِقَةٍ يُغِيْرُ بِحُسْنِهِ ... في قَلْبِ صَاحِبِهِ على الأَحْزَانِ
إِنْ خُلَّيَتْ رُبِطَتْ بِآدابِ الوَغَى ... فَدُعاؤها يُغْنِي عَن الأَرْسَانِ
الجياد: الخيل العتاق، والأوطان: مواضع الإقامة، والوغى: الحرب.
1 / 20