Sharḥ Lumʿat al-Iʿtiqād liʾl-Maḥmūd
شرح لمعة الاعتقاد للمحمود
Genres
تنزيه الله ﷿ عن الظلم، وإثبات أن كل فعله لحكمة
قال المصنف ﵀: [يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء:٢٣]] .
وهذا لبيان قضية مهمة جدًا متعلقة بالقدر ألا وهي: أن الله ﷾ لا يظلم العباد؛ لأن الوهم قد يخطر أحيانًا عند الإنسان، فيقول: إذا أثبتنا هذه المراتب الأربع لله، وكان ما يفعله العباد مكتوبًا، فلماذا يعذب هؤلاء وينعم هؤلاء؟ ولماذا فرق بينهم؟ فنقول هنا: إن الله ﷾ يهدي من يشاء برحمته، فهو الذي يمن على عباده ويتفضل عليهم، فمن هداه الله ووفقه للهداية فهذه منة من الله، وقد يمن الله ﷾ بما هو أخص من ذلك، مثلما منَّ الله ﷾ على الرسل بإرسالهم، قال ﷿: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء:٥٤]، فهو الذي اختار هؤلاء الرسل، فإذا منَّ الله على رسول فلا يجوز لإنسان أن يعترض، ويقول: لماذا اخترت محمد بن عبد الله ﷺ أن يكون رسولًا، ولم تختر فلانًا أو فلانًا، كما قال بعض المشركين! إذًا: اصطفاء الله لرسله منة، وهداية الله لعباده منة، ومن ثمَّ فإن الذي هداه الله ﷾ يجب عليه أن يعترف بهذه المنة، وأن يشكر ربه ﷾ عليها شكرًا عظيمًا، ولهذا فنحن نحمد الله ﷾ أن جعلنا مسلمين، فليس بيننا وبين الله نسب، فهاهي أمم الأرض تموج؛ فيها الملاحدة، وفيها اليهود، وفيها النصارى، وفيها عباد الأوثان وغيرهم، ويبلغون الملايين، وتفوق أعدادهم أعداد المسلمين.
إذًا: من منَّ الله عليه بالهداية فذلك برحمته.
قوله: (ويضل من يشاء بحكمته)، هذا هو الشاهد، وهو أنه ﷾ يضل من يشاء، لكن له حكمة في ذلك، فهو ﷾ لا يظلم العبد، فقد أقام عليه الحجة، وأعطاه الإرادة والقدرة، وأنزل إليه الكتب، وأرسل إليه الرسل، حتى وضحت لديه المحجة، ووضح لديه الطريق.
ولهذا فإن مما يجب أن يقطع به أن الله ﷾ لا يظلم أحدًا؛ لأنه ليس بحاجة إلى الخلق، وهذه قضية ربما نشير إليها بعد قليل، لكن أشير هنا إلى أنه ﷾ يضل من يشاء بحكمته؛ فله الحكمة البالغة؛ لأنه هو الذي اختار أن يوجد أهل الضلال وأهل الإيمان، ولو شاء لجمعهم على الهدى، لكنه اختار أن يكونوا منقسمين هكذا لحكمة يريدها ﷾، فما هي هذه الحكمة؟ هذه الحكمة قد تكون سرًا من أسراره؛ فإن الله سبحانه له الإرادة المطلقة، كما قال عن نفسه ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء:٢٣]، ونحن قد نتلمس شيئًا من حكم الله ﷾ في ذلك، والله ﷾ خلق الخلق وأوجدهم على هذه الحالة لتظهر آثار العبودية، وآثار الطاعة، ولهذا تجد أن الله ﷾ لا يمكن أن يخلق شرًا محضًا لا خير فيه، وإنما يخلق الله ﷾ الشر النسبي؛ حيث يكون شرًا لبعضهم، لكنه خير لبعضهم الآخر.
فمثلًا: إبليس شر، فقد يقال: لماذا خلق الله إبليس؟ فنقول: خلقه لحكمة أرادها، ونقول أيضًا: خلقه ليبتلي به عباده، فكيف يميز المطيع من العاصي، وكيف يكون الإنسان لربه مطيعًا، وكيف يكون أنين المذنبين، واستغفار المستغفرين، وعبادة العابدين، وتوبة التائبين لو لم يكن هناك ابتلاء وامتحان بإغواء إبليس؟! ولو نظرنا أيضًا إلى بعض مخلوقات الله لوجدنا أن لله فيها حكمة، فمثلًا: لو جاء واحد وقال: لماذا خلق الله الأفعى أو العقرب، وليس فيها خير أبدًا؛ بل إن ضررها كبير؟ فنقول: بل خلقها لحكم لا نعلمها، وإن كنا قد نلمس فيها شيئًا من الحكم، فقد يكون فيها أدوية وشفاء، وقد تكون سببًا للدغ إنسان فيكون شهيدًا، كما قال النبي ﷺ: (واللديغ شهيد) .
إذًا: لا يوجد شيء خلقه الله ﷾ إلا وله فيه حكمة، وأذكر أن أحد الوعاظ دخل على أحد خلفاء بني العباس، فلما دخل عنده وجلس أمامه تسلط ذباب على الخليفة، وصار هذا الذباب يقع على أنف الخليفة، ثم يخرج فيرجع مرة ثانية، ويخرج ويرجع، ويخرج ويرجع، حتى ضاق منه.
فقال هذا الخليفة لهذا الواعظ: لماذا خلق الله الذباب؟ فاستحضر الواعظ إجابة لطيفة قال له فيها: خلقه الله ليذل به أنوف الجبابرة! فأعطاه حكمة حاضرة لديه الآن أنه إن تكبر فهذا من أصغر المخلوقات يذله، والله ﷾ يقول في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ﴾ [الحج:٧٣] .
إذًا: بنص القرآن أن الحكمة في خلق الذباب أن الله ﷾ جعله بلاءً، يبتلي به عباده المؤمنين، وهكذا في بقية ما خلقه الله ﷾.
إذًا: هو ﷾ يضل من يشاء بحكمة، لكنه لا يجبر العباد، ولذا فإن العبد هو الذي يختار ويفعل.
9 / 9