Sharh Fusul Abuqrat
شرح فصول أبقراط
Genres
البحث الخامس
لقائل أن يقال هذا الحكم من الإمام أبقراط فيه نظر من وجوه ثلاثة. أحدها أن يقال لو كانت الحرارة الغريزية في الأبدان في زمان الشتاء قوية لما كثر فيها البلغم والأمراض الحاصلة عنه كالسكتة والفالج وغيرهما من الأمراض البلغمية فإن قوة الحرارة منافية لذلك لكنها كثيرة قوية فيه فليست الحرارة حينئذ قوية فيه. وثانيها لو كانت الحرارة فوية * فيه (1458) في أجواف الحيوانات لاحتاجت إلى غذاء كثير، وذلك محال * لأن (1459) بعض الحيونات تبقى مدة طويلة لا يستعمل فيها غذاء كالدب فإنه يبقى ثلاثة أشهر لا يستعمل فيها غذاء. وثالثها لو كانت الحرارة قوية * في الأجواف في هذا الفصل (1460) لكانت الأبدان فيه انشط وأقوى حركة وليست كذلك فإن كثيرا من الحيوانات تبقى فيه ملقاة كالميتة. والجواب عن الأول أن كثرة المواد البلغمية في فصل الشتاء ليس هي بالنظر إلى قوة الحرارة الغريزية بل بالنظر إلى طبيعة الفصل فإنها تقتضي توليد * البلغم (1461) وتعين على توليده كثرة الأغذية الغليظة المستعملة فيه السكون أيضا وغور الحرارة الغريزية إلى باطن الأبدان واستيلاء البرد على * ظاهر البدن (1462) . والجواب عن الثاني أن الحيونات على نوعين منها ما حرارتها قوية ومنها ما حرارتها ضعيفة فما كان * منها (1463) القبيل الأول فإن حرارته تقوى في زمان الشتاء في الباطن لتوفرها على بعض الجسم. وما كان منها من القبيل الثاني فإن حرارتها تضعف وتبقى كالميتة. وقد عرفت أن المحوج إلى تناول الغذاء إنما هو الحرارة الغريزية فحيث كانت ضعيفة فالحاجة قليلة وحيث كانت قوية فالحاجة كثيرة لا سيما PageVW5P036B إذا كان صاحب هذه الحرارة كثير الرطوبة فإنها تمدها أولا فأولا مدة طويلة كالدب. فإنه نهم كثير الأكل لأغذية مختلفة فيأكل الفواكة واللحوم وغيرهما فتكثر الرطوبات في بدنه في زمان الصيف والخريف. فإذا * جاء (1464) الشتاء اعتدت حرارته الضعيفة بهذه الرطوبة واكتفت بها مدة طويلة. والجواب عن الثالث قريب من الثاني وهو أن PageVW1P014A الحيونات الضعيفة الحرارة عند هجوم الشتاء عليها تسكن حرارتها وتنكسر بحيث أنها تصير كالميتة.
البحث السادس
في قوله «بالطبع» وذلك لأن غرضه أن يبين الأجواف في الشتاء أسخن ما يكون سخونة توجب زيادة الغذاء. وذلك إنما تكون بالسخونة الطبيعية فإن سخونة الباطن قد تكون لا من هذه السخونة كما ذكرنا عند احتباس الأبخرة لانسداد المسام غير أن مثل هذه السخونة لا توجب الزيادة في تناول الغذاء وجودة الهضم وغير ذلك. فلذلك قال بالطبع غير أن هذه السخونة تكون في * زمان (1465) الشتاء أقوى مما هي في زمان الربيع لأن الربيع قد انتقل إلى حرارة ضعيفة وهي حوجبة لانتشار الحرارة الغريزية في * الظاهر والباطن (1466) .
البحث السابع
في علة طول النوم في * زمان (1467) الشتاء ثم في * زمان (1468) الربيع وذلك من * وجوه (1469) جمسة. أحدها طول الليل على ما ذكره الفاضل جالينوس وقوة الظلمة فإن الظلمة موحشة للنفس والقوى * البدنية (1470) وعند ذلك * تهرب (1471) تلك القوى إلى جهة الباطن وتترك النفس لاستعمال الحواس. ولذلك صار الإنسان متى أراد النوم من نفسه غمض عينيه فإنه ينام. وأما النور فإنه موجب للسهر، وذلك لأنه يجذب الأرواح إلى ظاهر البدن بسبب المناسبة. وثانيها قوة البرد فإنه يكثف مجاري الروح النفساني ويغلظ قوامه. وحينئذ ينعذر عليه النفوذ في مسالكه الظاهرة. ولذلك لم تطاوع آلة الحركة للحركة في زمان الشتاء كما تطاوع في زمان الصيف. وعند ذلك تغور القوى المذكورة إلى الباطن ويحصل النوم. وثالثها كثرة الرطوبة فإنها ترخي جوهر الآلة وتضغطها بعضها على بعض وتسد مسالك الروح. ولا شك أن هذا مانع للروح من النفوذ والخروج. وهذا السبب في الربيع أبلغ مما هو في الشتاء والسبب الذي قبله في الشتاء أبلغ. ورابعها كثرة السكون المستعمل فيه * فإن ذلك (1472) موجب للنوم. وخامسها الاقاصار على الأغذية الحقيقية الغليظية فتبخر إلى الدماغ أبخرة غليظة فتعلظ جوهر الروح وتسد مسالكه.
البحث الثامن
في قوله «فينبغي هذين الوقتين أن يكون ما يتناول من الأغذية أكثر». * أقول (1473) قد علم أن علة الحاجة إلى تناول الغذاء توفر الحرارة الغريزية، ولا شك أنها كذلك في الباطن * في (1474) الوقتين المذكورين. أما أولا فلما ذكرنا من ميلها PageVW5P037A إلى الباطن. وأما ثانيا فلكثرة النوم المستعمل فيه على ما عرفت. والنوم موجب لميلها إلى باطن البدن. ولذلك صار النائم يحتاج إلى دثار أكثر مما إليه وهو يقظان. وقد علم أن الحرارة الغريزية آلة للقوى اجمع في صدور أفعالها عنها لا سيما القوى الطبيعية فتقوى حينئذ الشهوة الطبيعية ويجود الهضم والاستمراء فتشتد الحاجة إلى تناول الغذاء غير أن هذا في الشتاء أقوى منه في الربيع لأن برد الهواء فيه أقوى مما * هو (1475) في الربيع. فإن قيل هذا الكلام فيه نظر من وجهين * أحدهما (1476) أن يقال إن الحاجة إلى تناول الغذاء إما لإخلاف بدل ما يتحلل وإما للزيادة في النمو. ولا شك أن الحاجة في الشتاء والصيف إنما هي لأجل الأول. وإذا كان كذلك فالمتحلل من الأبدان في * زمان (1477) الصيف أكثر * من المتحلل منها (1478) في زمان الشتاء. وكيف لا يكون * كذلك (1479) والعرق من البدن في زمان الصيف أكثر منه في زمان الشتاء؛ فالدليل يوجب صحة ما ذكرنا. والوجود يشهد بصحة ما قاله أبقراط. فإن الإنسان * لو (1480) اقتصر في استعمال ما * يستعمل (1481) من الأغذية في زمان الشتاء على ما * كان (1482) يستعمله في * زمان (1483) الصيف لبرد بدنه واستضر ضررا بينا. وثانيهما أنه جعل زيادة الغذاء في زمان الشتاء والربيع لزيادة الحرارة الغريزية والنوم فيهما ولحرارة الغريزية لكل بدن منها * قدر (1484) مخصوص استحقه بحسب سنه فذاتها لا تقبل الزيادة بعد حصول المستحق للبدن منها. فهي واحدة في جميع الفصول لكل سن لكن تختلف في فصول السنة بانحصار شيء كان منتشر أو انتشار شيء كان منحصرا. ففي * زمان (1485) الشتاء والربيع انحصر في الباطن ما كان منتشرا في ظاهر البدن بسبب البرد الخارجي، وفي زمان الصيف انتشر ما كان منحصرا بسبب ورود الشيء الحابس. والجواب عن الأول نقول قد ثبت أن الحرارة الغريزية في زمان الشتاء في الباطن أقوى مما هي في زمان الصيف، فلم لا يقال إنها تتحلل تحليلا محسوسا في * زمان (1486) الشتاء ما * كانت (1487) تحلله تحليلا * خفيا (1488) في زمان الصيف؛ أو نقول إن القدر الخارج بالعروق في زمان الصيف يخرج في زمان الشتاء * في (1489) جهات أخر لتكاثف المسام. ولذلك صار البول يكثر فيه ويتوفر رسوبه ويكثر فيه البصاق والفضلات الخارجة من أعلى الحنك والأنف وبالسعال وحينئذ تحتاج الطبيعة إلى رد عوض هذا الخارج؟ فإن عاد المعترض وقال على كل تقدير التحلل في الشتاء والربيع سواء كان حفيا أو ليس بخفي إما أن يكون مساويا PageVW1P014B لذلك في الصيف أو لا يكون. فإن لم يكن فإما أن يكون أزيد أو أنقص. فإن كان مساويا فلا يقتضي زيادة الوارد. وإن كان أنقص فهو بذلك أولى. وإن كان أزيد تبعه نقصان الحرارة في الظاهر والباطن قياسا على الصيف. وذلك يقتضي قلة الوارد PageVW5P037B لضعف الحرارة الغريزية التي هي موجبة لزيادة الوارد. فنقول الجواب عن هذا أن مراده هاهنا بالخلف الوارد المعدي لا العضوي. وذلك لأن الهواء البارد إذا لاقى البشرة ومنع انتشار الحرارة * الغريزية (1490) في سطوحها على ما أوضحناه قوي أثرها في الأجواف وحينئذ تحلل ما تجده فيها من الرطوبات وتبخرها. وعند ذلك تتقاضى طبيعة المعدة تقاضيا زائدا في طلب الغداء ويلزم من ذلك زيادة الغذاء. ثم أنه يصادف قوة الحرارة فيها فينعطف على هضمه وإحالته. وفي تلك الحال يتحلل منه مقدار صالح إلى أن يتشبه بالأعضاء وينحدر عنها * بسرعة (1491) وهو منهضم انهضاما تاما. ثم يشتد التقاضي المذكور لقوة الحرارة وحينئذ يعود إلى الحالة الأولى. ولا يزال الأمر كذلك ما دامت الحرارة قوية في الباطن. وذلك في مدة الشتاء والربيع ولهذا قال أبقراط ينبغي أن يكون ما يتناول أكثر ولم يقل وينبغي أن يكون الخلف أكثر. وأما في الصيف فإن الحرارة الغريزية في هذا المحل ضعيفة لانتشارها في الظاهر بسبب ورود المجانس لها على ظاهر البدن. وعند ذلك لم * يقو (1492) على تحليل ما هناك من الرطوبات فلا يشتد التقاضي ويطول أيضا * لذلك (1493) مكث الغذاء في الجوف ثم عند نفوذه عن المعدة ووروده إلى الأعضاء يطون أيضا مكثه عندها لضعف حرارتها فيقل التقاضي من جهتها وتتبع ذلك قلة الوارد المعدي. فإذن مقتضى زيادة الخلف المزاج السني لا الفصلي ومقتضى زيادة الوارد المعدي السني والفصلي. والفصلي أبلغ في ذلك فإن الصبي استعماله للغذاء في الشتاء أكثر منه في الصيف. فإن قيل إن الأبدان أوفر لحما وأكثر خصبا في زمان الشتاء مما هي في زمان الصيف. وليس لهذا علة سوى زيادة الوارد عليها في * زمان (1494) الشتاء وقلته في زمان الصيف. فنقول قد * عرفت (1495) أن مكث الغذاء في * المعدة (1496) زمان الصيف أكثر من مكثه في زمان الشتاء. والحر الخارجي الملاقي للأبدان في زمان الصيف أقوى مما هو في زمان الشتاء وهو حر غريب فيحلل ما يجده في سطوح الأبدان. ولذلك صار العرق يكثر في زمان الصيف. ويتبع ذلك ضعف الحرارة الغريزية هناك لأنه لا بد وأن يتحلل شيء من مادتها لكون المحلل غريب. ثم إذا ورد المخلف * قليل لا يفي بالخلف (1497) لأنه قليل لقلة تقاضي المعدة بسبب ضعف الحرارة الغريزية عندها. فيستولي الهزال والذبول عليها في زمان الصيف. وأما في * زمان (1498) الشتاء فإن الحر الخارجي ضعيف فلم يحلل كتحليله في زمان الصيف. ومع ذلك الوارد متوفر المقدار لكثرة * المتناول (1499) وذلك لقوة تقاضي المعدة. فإن قيل إن علة ذلك توفر الحرارة الغريزية في الباطن، فلم لا يتحلل ما تجده في الباطن كما يحلل الحر الخارجي ما يجده في الظاهر من الرطوبات؟ فنقول لأن الأول غريزي والثاني * غريب (1500) والغريزي حافظ لرطوبات البدن والغريب ليس هو كذلك على ما قررناه فيما تقدم وفي شرحنا لكليات القانون. والجواب عن الثاني نقول زيادة الغذاء في الفصلين المذكورين ليس هو لزيادة الحرارة في نفسها * لكن (1501) * لقوامها (1502) عند آلات الغذاء على ما بيناه. PageVW5P038A وحينئذ تقوى القوى الطبيعية هناك. ولذلك قال الأجواف في الشتاء والربيع أسخن ما تكون بالطبع ولم يقل الأبدان أسخن ما تكون بالطبع. واعلم أن الحكم المذكور إنما يصح فيمن كان من الحيوانات * القوية (1503) الحرارة * الغزيرة (1504) الدم. وإلا فيمن حاله بالضد فإن قوة البرد تستولي على ظاهره ثم باطنه فتجمد حرارته الغريزية * فيموت (1505) أو يبقى كالميت. ولذلك صارت أمثال هذه الحيوانات تطلب بواطن الأرض والأسراب وبالجملة الأماكن الدفئة. فلأجل هذا قال الأجواف ولم يقل كل الأجواف بل حكم في هذا المعنى حكما مهملا ولم يجعله كليا خوفا من إيراد ذكرناه. فإن المهمل في قوة الجزئي. وأما قوله وذلك لأن الحار الغريزي في الأبدان في هذين الوقتين كثير ولذلك يحتاج إلى غذاء أكثر. أما كثرة الحار الغريزي في الباطن في الوقتين المذكورين فقد عرفت معناه غير أنه ربما يقال إن هذا الكلام منه قد سلف فلا حاجة إليه. فنقول الفائدة منه * أنه (1506) كالتعليل لزيادة المتناول وأبقراط قد أعاد لفظة الحار ولا خلاف أنه يزيد بذلك الكيفية. فإنها هي الزيادة في الأجواف في زمان الشتاء وهي المحوجة إلى كثرة المتناول وغير ذلك مما ذكرناه.
البحث التاسع
قوله «والدليل على ذلك أمر الأسنان والصريعين». فنقول الغرض من هذا بيان أن الموجب لزيادة المتناول زيادة الحرارة الغريزية فإن الصبيان لما كانوا أوفر الناس حرارة غريزية على ما عرفت كان تناولهم للغذاء أكثر من تناول غيرهم والصربعين؟ * أعني (1507) المصارعين PageVW1P015A لما كانت حرارتهم أوفر من حرارة من لم يصارع كان تناولهم للغذاء أكثر من تناول * غيرهم (1508) . والصريع على وزن فعيل كالشريب * والخمير والسكير (1509) والفسيق. وهذا القدر يدل على * الإفراط في (1510) المواظبة على الشيء والاستكثار منه. فإن الشريب هو المواظب على الشرب والسكير على السكر والخمير على الخمر والفسيق على الفسق والله أعلم.
Unknown page