313

البحث الثالث

في * ذكر (304) مقام شريف: ساقنا إليه حكم الإمام أبقراط ببرد الدماغ وهو أنه كيف يجوز أن يحكم على الدماغ بالبرودة والرطوبة وهو مبدأ الحس والحركة اللذين لا يتمان إلا بحرارة. أما الحس فباعتدالها. وأما الحركة فبتوفرها. أما الأول فيدل عليه وجهان: أحدهما أن الأعضاء التي هي أسخن من العصب أقوى حسا من العصب ويدل على ذلك أن الوجع الخاص بالعصب خدري وباللحم ضرباني مبرح؛ وثانيهما أنه قد عرف أن الإنسان أعدل أنواع الحيوان مزاجا وهو مع ذلك أصدقها حسا لمسيا فقوة الحس اللمسي إذن أحوج إلى اعتدال الحرارة من البرودة. وأما الثاني فيدل عليه وجهان: * أحدهما (305) أن الحرارة والحركة خليفتان بمعنى أنه متى وجدت الواحدة وجدت الأخرى، فإن الحركة تنمي الحرارة وتقويها والحرارة توجب الحركة وتعين عليها، وكذلك حال ضديهما اللذين هما السكون والبرد، فإن السكون يوجب البرد ويقويه والبرد PageVW5P209A يفعل السكون ويعظمه، ومن قبل هذا صارت الحركة والحرارة تجانسان الحياة لأن الحياة معها الحرارة والحركة وهما من صفات الحي. وأما البرودة فمعها السكون والجمود اللذان هما من صفات الميت، ولذلك صار زمانهما الذي هو الشتاء زمان هلاك عامة النبات وعجز كثير من الحيوانات عن الحركة، وزمان الحركة والحرارة الذي هو الصيف بضد ذلك. وإذا كان أمر الحس والحركة يجري على ما قلنا ثم كان الدماغ مبدأ لهما إما القوة أو * الفعل (306) * على (307) اختلاف المذهبين فبالواجب أن يكون مزاجه حارا. والجواب عن هذا لا نسلم أن الدماغ مبدأ الحس والحركة، ولذلك لما كان الحس والحركة حالهما مع الحرارة على ما ذكرنا كان القلب أولى بأن يكون مبدأ لهما من الدماغ سلمنا أن الدماغ مبدأ * لهما (308) لكن نقول خلق الدماغ باردا رطبا بالإضافة إلى القلب. أما برده فلوجوه ثلاثة: أحدها أنه أصل لما يتأدى إليه من قوى الحس والحركات الإرادية وانفعالات الحواس وحركات في الاستحالات التخيلية والفكرية والذكرية، فلو كان حارا وهذه الحركات مسخنة * لكان (309) يلتهب ويحترق؛ وثانيهما لأجل الفكر، فإنه محتاج إلى الثبات والتاني والميل إلى البرد مناسب لهذا. وأما الميل إلى الحر فإنه * موجب (310) سرعة الحركة وكثرة التنقل وقلة الثبات؛ وثالثها ليعدل مزاج الروح الحيواني الصاعد إليه من القلب. وجعل رطبا لوجوه خمسة: أحدها لئلا * يجف (311) بكثرة الحركات المذكورة؛ وثانيها ليسهل انطباع ما ينطبع فيه من صور المحسوسات؛ وثالثها ليصلح أن يمد الأعصاب بالغذاء، فإن إمداد اللين للشيء بالغذاء * أنسب (312) من إمداد الصلب له بذلك؛ ورابعها * ليجف (313) PageVW1P136B جرمه، فإن اللين الرطب * أجف (314) من الصلب المساوي له في الحجم؛ وخامسها ليصلح أن ينبت منه أعصاب تعطي غيره منه ما فيه، فإن نبات الشيء من الرطب أنسب وأسهل من نباته من اليابس الصلب. إذا عرفت هذا * ثبت (315) أن المزاج الأنسب بالدماغ هو المائل إلى البرودة والرطوبة لكن لقائل * أن (316) يقول إن موضع المركب بحسب PageVW5P209 غلبة كيفية من الكيفيات * غلبة (317) التابع لغلبة الأجرام العنصرية وإذا كان كذلك فالموضع الطبيعي للدماغ بحسب ذلك يجب أن يكون دون القلب والوجود بخلافه، فنقول: الجواب عن هذا أن الفائدة * في (318) وجود أعضاء البدن التي هي أجراؤه * وضعها (319) ليس بالنسبة إلى ذواتها وإلى ما تقتضيه * طباعها (320) بل بالإضافة إلى منفعة البدن وحاجته إلى ذلك، فالدماغ وإن كان باردا رطبا بالنسبة * الإضافية (321) إلى القلب وهو حار يابس بالإضافة إليه فإن الأول بالنظر إلى ذلك ينبغي أن يكون وضعه على ما قاله المعترض، وكذلك القلب غير أن الدماغ لما كان مبدأ للحواس * الخمس (322) الظاهرة التي هي طليعة للبدن وهي محتاجة أن تكون في أعلى البنية لأن أوفق المواضع للطلائع هي المواضع * العالية (323) المرتفعة لا سيما حاسة البصر فإنها أحوج إلى ذلك والدماغ محتاج دائما أن يمدها بالقوة الباصرة ومسلك هذه * القوى (324) في غاية اللين فاحتاج الدماغ لذلك أن يكون في أعلى البنية ليكون قريبا منها لا لأجل ذاته وما يقتضيه طباعه من تركيبه من العناصر الأربعة. والقلب لما كان معدن الحار * الغريزي (325) والقوة الحيوانية التي هي * المعدة (326) لجميع القوى وللروح الحيواني الذي هو مادة جميع الأرواح جعل وضعه في الوسط ليكون بعده عن جميع الأعضاء على السواء وليكون في مكان حريز بعيد عن الآفات فلذلك جعل في الوسط وإن كان طباعه يقتضي أن يكون موضعه غير ذلك من * البدن (327) .

البحث الرابع

في * كيفيات (328) مضار البارد بالأعضاء المذكورة: نقول: المستعد للشيء انفعاله عما يناسبه أبلغ من انفعاله عما لا يناسبه، وذلك لكثرة ما فيه من الأجزاء المناسبة للكيفيات الفاعلة فيه، ولذلك صار الحطب المسخن بحرارة الشمس وحرارة النار أسرع اشتعالا من الحطب الرطب، والحمى في الشبان أقوى وأحدهما هي * في (329) المشايخ. وقد ثبت أن الأعضاء المذكورة باردة، فإذا ورد عليها البارد المذكور أثر فيها في أسرع وقت وأوجب لها زيادة في الخروج عن الاعتدال. فإن قيل هذا باطل على ما أصلتموه في حفظ الصحة وهو أن حفظها بالشبيه وقد ثبت أن الأعضاء المذكورة * باردة (330) وإذا كان كذلك فكيف يصح قول أبقراط «البارد ضار للعظام» ولغيرها مما ذكره PageVW5P210A من الأعضاء الباردة؟، فنقول: الجواب عن هذا أن معنى قول الأطباء الصحة تحفظ بالمثل أي بالأغذية لا بالأدوية، وقد عرفت أن المراد هاهنا بالحار والبارد الكائن من ذلك بالفعل لا بالقوة وكيفية الغذاء بالقوة لا بالفعل، وأيضا فإن الماء والهواء في حكم الدواء وحكمنا بما ذكرنا في الغذاء لا في الدواء، ومما ذكرنا يعلم صحة ما قاله * أبقراط (331) في آخر الفصل. وأما الحار فنافع موافق لها.

البحث الخامس

في قوله «والأسنان»: نقول: أما الأسنان فهي مغايرة للعظام، ويدل على هذا وجهان: أحدهما أنا إذا عرضنا الأسنان للفساد رأينا الفساد يبادر إلى بعضها قبل بعض، ويظهر هذا ظهورا بينا في أسنان الحيوانات العظيمة الجثث بخلاف العظام، فإنا إذا فعلنا بها ذلك سرى الفساد إلى جميعها على السواء؛ وثانيهما اتفق الأطباء على أن العظام عديمة * الحس (332) واتفقوا على أن الأسنان لها حس، والدليل على ذلك أنها تفرق بين الحار والبارد وتخدر والحذر نقصان في الحس. هذا ما اتفق الأطباء عليه. ولنتمم الكلام في هذه المسئلة فنقول: قال الأطباء العظام عديمة الحس، والذي يمكن أن يقال في ذلك من جانبهم ثلاثة أوجه: أحدها أن العظم عندما يقطع أو يبرد أو ينشر في القروح الخبيثة لا يحس معه بوجع البتة، فلو كان لها حس لتألمت بذلك، فإنه لا معنى للوجع إلا * إحساس (333) بالمنافي من حيث هو * مناف (334) ؛ وثانيها أنه لو كان لها حس لمنع من فائدتها أن تكون دعامة وأساسا أو وقاية للأعضاء، والحس ضار في ذلك، فإنه في الأول يعده * للألم (335) بالضغط بالمزاحمة وفي الثاني بما يرد عليه من المصادمات والمؤلمات؛ وثالثها أن التشريح قد دل على أن الأعصاب لا تداخل العظام وتنقسم فيها كانقسامها في الأعضاء التي لها حس. والأول فيه نظر قولهم إن العظم عند ما يبرد أو ينشر أو يقطع إلى آخره، نقول: فعلنا بها هذا الأمر إما أن يكون في حال الصحة أو في حال المرض، فإن كان الأول فلا يصل * إليها (336) بذلك إلا بعد قطع ما فوقها من الأعضاء المحيطة بها وهي معروفة، PageVW5P210B وحس هذه على ما علم أقوى من حسها. وإذا كان حالها كذلك فألمها * يشغلها (337) عن إدراك حسها وألمها، فإن إدراك الأقوى يشغل عن إدراك الأضعف كما قال أبقراط في المقالة * الثانية (338) «إذا كان بإنسان وجعان معا (ii. 46)» إلى * آخره (339) . وإن كان الثاني * فنحن (340) لا نفعل هذا القدر بالعظم إلا إذا كان قد فسد واستغنى عنه، ولذلك يجب قطعه لئلا يسرى الفساد منه إلى ما يجاوره من العظام، وإذا كان كذلك فيكون حسه قد بطل، فلذلك لم يتألم عند قطعها ونشرها وغير ذلك. وأما الثاني نقول: الذي يمنع من فائدتها الحس القوي أما الضعيف فلا يمنع في ذلك. وأما الثالث فنقول لقائله إن كان عند انقسامها وانبثاثها في جرمها يوجب أن لا يكون لها حس نقول: فعلى هذا يجب أن يقال إنها غير * متغذية (341) وليس فيها حياة لأن التي * للتغذية (342) والحياة غير منقسمة فيها ولا منبثة فيها وبالجملة حالها كحال الأعصاب. فإن قيل إن العظام تقبل التغذية والحياة من آلتيهما بالمجاورة * لأنها (343) قد ثبت عندي أن القوى الطبيعية واصلة إليها على سبيل المدد على ما برهنت * عليه (344) PageVW1P137A في شرحي لكليات القانون. فنقول: وعلى هذا لم * تقبل (345) قوة الحس والحركة من الأعصاب بمجوارة آلتها. إذا عرفت هذا فنقول: الحق عندي أن الأعصاب جميعها لها حس، وإن كانت مختلفة في ذلك بمعنى أن بعضها أقوى في * ذلك (346) وبعضها أضعف. والذي نقوله في ذلك أنه قد ثبت أن القوة الحيوانية سارية في جميع الأعضاء إذ لو كان بعضها خاليا منها لكان ميتا، ولو كان كذلك لكان حاله حال الميت فيما يعرض له من الفساد والعفن. وحيث كانت القوة المذكورة فهناك قوة الحس والحركة لأنه قد ثبت أن إحداهما لا تنفك عن الأخرى لكن بشرط ارتفاع الموانع وحصول الشرائط. أما الأول فكما في العضو المفلوج. وأما الثاني فكما في القلب. فإن فيضان هذه القوة على روحه موقوف على وروده على الدماغ. ولا شك أن الأعضاء التي أدعى الأطباء أنها PageVW5P211A غير حساسة فيها القوة الحيوانية وليس فيها مانع يمنعها عن قبول ذلك ولا هي شرط لكن هي وأمثالها من الأعضاء التي ذكروا أنها * غير (347) حساسة كثيفه فلكثافتها لا تقبل من هاتين القوتين ما تقبله الأعضاء اللينة، ولذلك صار * حس (348) اللحم أقوى من حس العصب نفسه وحس كف اليد أقوى من حس القدم، فثبت بما ذكرنا أن الأعضاء جميعها فيها قوة الحس والحركة خلافا للأطباء. والله أعلم.

19

[aphorism]

قال أبقراط: كل موضع قد برد فينبغي أن يسخن إلا أن يخاف عليه انفجار الدم منه.

[commentary]

Unknown page