233

Sharḥ Fatḥ al-Majīd liʾl-Ghunaymān

شرح فتح المجيد للغنيمان

Genres

السبيل في الدعوة إلى الله تعالى
قال الشارح ﵀: [وقوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:١٠٨] يأمره جل وعلا بأن يبين طريقته التي أرسله الله بها، وأن يبلغها الناس، وأن يبين: هذه سبيل الدعوة التي أدعو بها إلى عبادة الله وحده، إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله].
قل: هذه سبيلي التي أحيا من أجلها، وأموت عليها، وهي أنه يدعو إلى الله على بصيرة، والبصيرة هي العلم اليقيني الذي تكون نسبة العلم فيها للقلب كنسبة المرئي للبصر، هذا معناها، وهذه البصيرة التي يقول العلماء: اختص بها الصحابة فالصحابة كان علمهم علم بصيرة على بصيرة، حتى صارت المعلومات في قلوبهم كالمشاهدات التي نشاهدها بأبصارنا، فقوله: «ادعو إلى الله على بصيرة» يعني: على علمٍ يقيني بأن الله جل وعلا سيؤيدني وينصرني وأرجع إليه ويثيبني على ذلك.
وقوله: «أنا ومن اتبعني» يعني: أتباعي كذلك يدعون إلى الله على بصيرة.
فكل من كان اتباعه الرسول ﷺ أكثر تكون دعوته إلى الله بهذه الصفة أعظم.
وقوله: «وسبحان الله» يعني: تنزيهًا لله وإبعادًا له أن يشرك به وهذا يدل على أن الداعية يجب أن يبدأ بما هو تنزيه لله جل وعلا، وهو الدعوة إلى ترك الشرك، ولا يكون ذلك إلا بتوحيد الله جل وعلا.
وقوله: «أدعو إلى الله» يؤخذ من هذه الكلمة -أدعو إلى الله- أن الدعوة يجب أن تكون لله، ولا تكون لدنيا، ولا لملك، ولا لأرض، ولا لمنفعة دنيوية، وإنما تكون لله جل وعلا، أما إن استعملت الدعوة لشيء من هذه الأمور وهذه الأغراض فإنها تكون فاسدة في الواقع، ولا تكون على طريقة الرسول ﷺ.
ولهذا سيذكر لنا الشيخ ﵀ من الفوائد على هذه الجملة قوله: [فيه تنبيه على الإخلاص في الدعوة] لأن كثيرًا من الناس وإن دعا في الظاهر إلى الله فهو في الحقيقة يدعو إلى نفسه، فيكون عنده غرض معين.
ثم إن صاحب الدعوة إلى الحق لابد أن يعتريه ما يعتريه من الأذى، وربما النفي، وربما السجن، وربما القتل، كما أخبر الله جل وعلا عن الرسل أن أممهم قالت لهم: ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [إبراهيم:١٣] يعني: ترجعون إلى الكفر والشرك وإلا نفيناكم وأخرجناكم.
وكذلك ذكر الله جل وعلا عن خليله إبراهيم أن قومه لما لم يكن لهم حجة عليهم المضائق فاضطرهم إلى أن يقفوا بدون حجة وبدون أن يعارضوا دعوته بشيء لجأوا إلى القوة كعادة المحاربين دائمًا، فجمعوا له حطبًا كثيرًا وأججوا النار وألقوه فيها، ليس ذلك إلا لأنه قام بالحق ودعاهم إليه وأبطل حججهم، وبين أنهم ليسوا على شيء، فأرادوا أن ينتقموا منه بقوتهم.
وكذلك فرعون لعنه الله لما جاءه موسى أصبح يموه على الناس، ثم حاول أن يقتل موسى ويقتل أتباعه ويترك النساء اللآتي لا يقاتلن، وهذا أكثر الله جل وعلا من ذكره في قصص الأنبياء ليكون أسوة للنبي ﷺ؛ لأنه سيلاقي الأمور والشدائد في ذلك.
ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه يقص عليه من أنباء الرسل ما يكون له فيه تسلية، كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام:٣٤]، ويقول جل وعلا: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [فصلت:٤٣] فهكذا ينبغي للداعي الذي يدعو إلى الله، أن يدرس سيرة رسول الله ﷺ، ويدرس ما ذكره الله جل وعلا عن الأنبياء والأصفياء من القصص مع أممهم، فيتخذ ذلك نبراسًا له وطريقًا، ويعلم أن الدعوة إلى الله محفوفة بالمخاطر دائمًا، وأن الداعي لا يمكن أن يواجه بكل قبول وبكل تسليم، بل لابد أن يكون له من يعارضه ومن يرد عليه ومن يؤذيه، ولاسيما إذا كانت النفوس قد أُشربت حب الفساد والشهوات، فإن الداعي إلى الله يريد أن ينقلهم من حالة إلى أخرى، وهذا صعب على كثيرٍ من الناس.
والإنسان لا يريد أن يكون مهزومًا دائمًا في الحجة وفي النهج وفي الظاهر، وإن كان على باطل، بل يريد أن يبرر نفسه ويبرر ما هو عليه، ولهذا قال الذين خالفوا الرسل لرسولهم -كما حكى الله عنهم-: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ [هود:٥٤] ويقول بعضهم وهو ينتقد الرسول الذي أرسل إليه -كما حكى الله عنه-: ﴿مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود:٢٧] وكم نسمع الآن من كثيرٍ من الناس من يقول: هؤلاء المتخلفون، وهؤلاء المتزمتون.
يعني أن الأمور تشابهت، وكأن بعضهم يوصي بعضًا، كما قال الله جل وعلا: ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ﴾ [الذاريات:٥٣] يعني: بهذه التي يقولونها للأنبياء، ويكذبون الرسل بها: ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات:٥٣] أي: بل كل قوم له وارد.
والمقصود أن الله جل وعلا ذكر هذه الآية لتكون متمسكًا للداعي الذي يدعو إلى الله، ليكون صابرًا محتسبًا ينتظر أجره من الله، ولا ينظر إلى وجوه الناس، ولا إلى قولهم، وإنما يقوم لله جل وعلا، مقتفيًا أثر رسول الله ﷺ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف:١٠٨]، ذكر ابن القيم أن الآية فيها تقديران: أحدهما: أن تكون الواو في قوله: (أنا ومن اتبعني) عاطفة على الضمير البارز الظاهر.
الثاني: أن تكون عاطفة على الضمير المستتر المرفوع في قوله (أدعوا).
فإذا كانت عاطفة على الضمير البارز فمعنى ذلك أن أتباعه أهل الدعوة هم أهل البصائر، فقوله تعالى: (أدعو إلى الله على بصيرة أنا) يعني: أنا على بصيرة في دعوتي، وكذلك أتباعي هم على بصيرة في دعوتهم.
وإذا كانت الواو عاطفة على الضمير المستتر المرفوع فالمعنى أن أتباعه هم أهل الدعوة، فأهل الدعوة التي تكون لله جل وعلا خالصة وصادقة هم أتباع الرسول ﷺ، وسبق أن الداعي إلى الله جل وعلا يحتاج إلى أمور، كما أن الدعوة إلى الله لها شروط منها: الأول: أن تكون الدعوة خالصة لله.
يدعو إلى الله جل وعلا ولا ينتظر شيئًا آخر غير إثابة الله له.
الثاني: أن تكون الدعوة على منهج رسول ﷺ وطريقته، فلا تكون بالبدع والآراء والمناهج التي يستحدثها الناس.
الثالث: أن يكون الداعي ذو علم وبصيرة، فلا يكون جاهلًا، فإن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل لابد أن يكون عالمًا بما يدعو إليه، عارفًا بالأمور التي يجب أن ينهى الناس عنها، فيعرف أنها لا تجوز وأنها محرمة بالأدلة الشرعية، لا بالآراء والأنظار والقياسات.
ثم هو كذلك يحتاج إلى أن يكون حليمًا على من يجهل عليه، فإذا جهل عليه أحد يحلم عنه، وإذا آذاه أحد يعفو ويصفح عنه، وإذا أساء إليه أحد يحسن إليه، فإنه إذا فعل هذا قبلت دعوته غالبًا، وكذلك هو بحاجة إلى أن يكون رحيمًا؛ الناس لأن دعوته تكون لإنقاذ الناس من عذاب الله، يرحمهم أن يقعوا في عذاب الله، وقد قال الرسول ﷺ فيما يمثل به لنفسه وللأمة: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فصارت الفراش والجنادب تتهافت فيها، وهو يحول بينها وبين أن تقع في النار، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون النار) يعني: بفعل المعاصي.
فلابد أن يكون الداعي رحيمًا الراعي بهم، يرحمهم أن يقعوا في النار، ويبين لهم أن الله غني عنهم وعن طاعتهم، وإنما يطيعون لأنفسهم؛ لأن الناس كلهم -كما قال النبي ﷺ: (غادٍ ورائح، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فالخلق واحد منهم يموت أول النهار والآخر يموت آخر النهار، فلابد من الموت، فإذا مات، فإما ِأن يكون قد عمل بطاعة الله وأمسك نفسه عن معاصيه فيكون بذلك قد اشترى نفسه بطاعة الله وتقواه وسيلقاه الله جل وعلا بما يسره، أو يكون قد أتبع نفسه شهواتها وأتبع قلبه هواه، فيكون عندما يلاقي الله كالعبد الآبق المجرم، فيؤخذ ويغل ويوضع في أعظم عذاب، والناس كلهم ما أحقرهم إذا عصوا الله فالله جل وعلا لا ينتفع بطاعة الطائعين كما أنه لا يتضرر بمعصية العاصين، ولكن الطاعة لأنفسهم والمعصية عليها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
المهم أن ينظر الداعي إلى هذا المعنى، ثم يجب أن يكون رفيقًا في دعوته، فلا يكون عنده عنف وشدة، فإن الله جل وعلا يقول لنبيه: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:١٥٩] يعني: لتفرقوا وتركوك، فإذا كان الله جل وعلا يقول لنبيه هذا فكيف بآحاد الناس؟! فيجب أن يكون الإنسان رفيقًا بالناس ويحبب إليهم الخير ويكره إليهم الشر، ويأتيهم بالطرق التي يألفونها في اتباع الخير، أما إذا كان شديدًا وقاسيًا فالغالب أنهم ينصرفون عنه ويعرضون عنه ولا يستفيدون من دعوته، ويكون قد جنى على الدعوة ولم يجن لها.
وكثيرًا من الدعاة يفسد أكثر مما يصلح، فالواجب أن يكون الإنسان متحليًا بما دلت عليه هذه الآية، يدعو إلى الله باتباع الرسول ﷺ وبدراسة سيرته ونهجه، فإنه صلوات الله وسلامه عليه كان يأتي إلى الرجل المشرك ويقول له: يا أبا فلان! يدعوه بكنيته، ثم يقول له: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فيعرض عليه عرضًا هكذا: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فإن قال: بلى كلّمه، وإن قال: لا أعرض عنه وتركه، فهو لم يبعث مسيطرًا على الناس، وإنما عليه البلاغ فقط، وعلى الله الهداية، وهكذا ينبغي لأتباعه الدعاة، ثم إذا خالفه من خالفه فلا يكن عنده التضجر وضيق النفس، وربما يدعو على الناس أو يلعنهم، بل يترك الأمر لله جل وعلا.
فعليه أن يدعو إلى الحق ويبينه فإن اسُتجيب له حمد الله، وإن لم يُستجب له فالأمر إلى الله جل وعلا، وليس

21 / 7