بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين
ــ
شرح المقدمة لابن دقيق العيد
أي باسم المعبود بحق، الواجب الوجود، المبدع من أثر الكرم والجود أؤلف مستعينًا باسم الله الخ. والرحمن العام الرحمة لجميع البرية، والرحيم الخاص الرحمة للمؤمنين، وأصل "الرحمة" انعطاف القلب والرقة، وهي في حقه ﷾ إرادة الخير لمن يستحقها، أو ترك العقوبة لمن يستوجبها.
وافتتح المؤلف رحمه الله تعالى كتابه هذا بالتسمية والتحميد تأسيًا بالكتاب المجيد، وعملًا بالحديث الصحيح المفيد "كلّ أمر ذي بال - أي شأن وحال - لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، وبالحمد لله، أو بحمد الله أو بذكر الله، فهو أجذم أو أقطع أو أبتر" روايات متعددة مؤداها أن متروك التسمية قليل البركة، أو مقطوع الزيادة، ورواية "بذكر الله" أعم.
وأكثر العلماء أجمعوا على أن لفظ الجلالة اسم الله الأعظم، فهو علم على الذات الأقدس المستحق لجميع المحامد. ولذا قال: "الحمد لله" أي الثناء الجميل يستحق لله "رب" أي مالك، وخالق، ومدبر، وسيد "العالمين" جمع عالم - بفتح اللام - وفيه تغليب العاقل
1 / 11
قيوم السموات والأرضين. مدبر الخلائق أجمعين. باعث الرسل - صلواته وسلامه عليهم- إلى المكلفين لهدايتهم وبيان شرائع الدين بالدلائل القطعية،
ــ
على غيره، إذ هو اسم لما سوى الله تعالى، غير أنه لا يطلق على المفرد، فلا يقال: زيد عالم إلاّ مجازًا، "قيوم السموات" معناه القائم بالتدبير والحفظ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا﴾ . سورة فاطر: الآية ٤١ "والأرضين" بفتح الراء وقد تسكن - جمع أرض. "مدبر الخلائق" أي مصرف أمور الخلائق، جمع "خليقة" بمعنى مخلوقة. إذ هو العالم بعواقب أمورهم. "باعث" أي مرسل. وقوله: "إلى المكلفين" متعلق بباعث، وجملة الصلاة والسلام معترضة بينهما إنشائية المعنى. أي اللهم صلّ وسلم، وفي بعض النسخ "صلاته" بالإفراد، وهي من مادة الصلة. فهي من العبد: طلب الاتصال والقرب من الله، وصلاتنا على الرسول: طلب الصلة اللائقة والمنحة الإلهية العظيمة له من الله على النعمة التي أسبغها الله علينا بسببه ﷺ، ويقال: إنها من الله الرحمة المقرونة بالتعظيم "وسلامه" أي تحيته التي تليق بجنابهم العظيم. وقوله: "لهدايتهم" أي: دلالتهم الناس على سبيل الهدى متعلق أيضًا بباعث. "شرائع" جمع شريعة، من شرع بمعنى: بيّن، وهي والدين والملة بمعنى واحد وتختصّ بالاعتبار؛ فالأحكام من حيث إننا ندين، أي ننقل لها، وندان: أي نجازى عليها، دين، ومن حيث شرعها لنا، أي: نصبها وبينها: شرع وشريعة. والدين: وضعٌ إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خيرٌ لهم بالذات. "بالدلائل" متعلّق ببيان، جمع دلالة - مثلث الدال بمعنى الدليل، و"القطعية" ما تقطع
1 / 12
وواضحات البراهين. أحمده على جميع نعمه. وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار. الكريم الغفار
ــ
جدال الخصم، لكونها عن الله "وواضحات البراهين" من إضافة الصفة للموصوف، أي البراهين الواضحة، وهي الحجج وعطفه على الدلائل من عطف الخاص على العام؛ لأن البرهان لا يكون إلاّ مركّبًا من تصديقين، متى سلما لزمهما لذاتهما قول ثالث، كقولك: العالم متغير، وكلّ متغيّر حادث، فإنه ينتج العالم حادث، وأما الدليل فهو ما يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر. سواء كان مركبًا كهذا المثال. أو منفردًا كقولك: هذه المخلوقات دليلٌ على وجود الله تعالى. "أحمده" أي أثني عليه ثانيًا في مقابلة النعم. فأتى بالحمد أولًا في مقابلة الذات الأقدس المتصف بجميل الصفات، وثانيًا في مقابلة جميع النعم المتعاقبات، وخصّ الأول بالجملة الاسمية المفيدة للاستمرار والدوام، والثاني بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد والتعاقب، لمناسبة ما يليق بكل مقام. "المزيد" أي مزيد النعم، فأل عوض عن المضاف إليه، و"من فضله" الفضل: هو العطاء عن اختيار، لا عن إيجاب، أي حصول بالطبع، بدون اختيار كما تقول الحكماء، ولا عن وجوب كما تقول المعتزلة، والكرم إعطاء الكثير من لغير علّة. و"أشهد" أي أتحقّق وأذعن "أنّ" أي أنه، فهي مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف "لا إله" أي لا معبود بجميع أنواع العبادة بحق "إلاّ الله" برفع لفظ الجلالة، على أنه بدل من الضمير المستتر في خبر "لا" المقدر بمستحق الإلهية، ويجوز نصبه على الاستثناء "الغفار" من الغفر، أي
1 / 13
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله أفضل المخلوقين، المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين
ــ
الستر للعيوب "محمدًا" هو مشتق من الحمد، لكثرة خصاله المحمودة "عبده" قدمه لكونها أشرف المقامات، ولذلك ذكره الله بهذا اللقب في أسنى المقامات: فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ . وقال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ . فإن العبد الحقيقي لربه من يكون حرًا عن هوى قلبه، والذل والخضوع لغيره، ولذا قيل:
أتمنى على الزمان محالًا ... أن ترى مقلتاي طلعة حر
و"حبيبه" فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، فهو المحب والمحبوب "وخليله" من الخلّة - بالضم - أي صفاء المودة وتخللها في القلب، كما قيل في ذلك:
قد تخللت مسلك الروح منّي ... وبذا سمي الخليل خليلًا
"بالقرآن" مصدر قرأ بمعنى جمع، لجمعه السور، أو ما في الكتب المنزلة و"العزيز" من عز يعز - بكسر العين - إذا لم يكن له نظير؛ أو بضمها إذا غلب، فهو الغالب المعجز لفصحاء العرب بما فيه من البلاغة "وبالسنن" أي ما سنه النبي، أي شرعه من الأحكام، فرضًا أو نفلًا، إذ هو المشرع ﷺ "للمسترشدين" أي الطالبين الرشاد، وهو ضد الغي. "بجوامع الكلم" أي بالكلم الجوامع، بمعنى أنه يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل "وسماحة الدين" أي سهولته، قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ بخلاف الأمم
1 / 14
صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وآل كل وسائر الصالحين.
ــ
السابقين، فإن بعضهم لم تكن تقبل توبته إلاّ بقتل نفسه، كما قال الله تعالى عن قوم موسى: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ . "صلوات الله" إلخ أتى بالصلاة عليه ﷺ امتثالًا لما في الكتاب العزيز "وعلى سائر" أي باقي أو جميع، الأول من السؤر بالهمزة، بمعنى البقية من الماء ونحوه. والثاني من سور المدينة المحيط بها، وفي مسند الإمام أحمد "أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر، وكل أسمائهم وذواتهم أعجمية، إلاّ محمدًا، وهودًا، وصالحًا، وشعيبًا، فأسماؤهم وذواتهم عربية، وأما إسماعيل فذاته عربية، واسمه أعجمي، ولا يجب الإيمان تفصيلًا إلا بخمسة وعشرين من الأنبياء المرسلين، وهم المذكورون في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ الآيات، كما جمعهم بعضهم في قوله:
حتم على كل ذي التكليف معرفة ... بأنبياء على التفصيل قد علموا
في "تلك حجتنا" منهم ثمانية ... من بعد عشر، ويبقى سبعة وهم:
إدريس هود شعيب صالح. وكذا: ... ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
وأولوا العزم منهم مجموعون في قول بعضهم:
محمد إبراهيم موسى كليمه ... فعيسى فنوح هم أولوا العزم فاعلم
وهم في الفضل على هذا الترتيب "وآل كل" أي كل واحد من النبيّين. والمرسلين. أي أقاربه المؤمنين به. والمراد هنا كل مؤمن. لأنه الأنسب بمقام الدعاء "وسائر الصالحين" أي القائمين بحقوق الله
1 / 15