قالت هذا وجعلت تسرع في الديوان ذهابا وإيابا كأنها فقدت رشدها، ثم خرجت من القاعة والأهل في أثرها.
فأخذ الجميع في البحث والتفتيش في كل حجرة، وتفقدوا كل زاوية من زوايا الدار حتى التمسوا من الجيرة عن الخطيبة خبرا، إلا أن طلبهم لها ذهب أدراج الرياح، وأنكر الجميع أنهم رأوها، فارتاع المدعوون لهذا الأمر واستولى الرعب على القلوب، أما السيدة «ب» فاستطير لبها روعا وغشي عليها.
وإذا بصوت أمر من وقع الحسام سمع من جهة الغرفة التي كانت تسكنها وردة، فأسرع الجميع إلى تلك الناحية يتراكضون وهم في حيرة من أمرهم، وإذا ب «سوسنة» لا تعي كدرا ولوعة وفي يدها بطاقة كتبت فيها الأسطر الآتية على عجلة:
الوداع يا أبت، الوداع يا أماه، وإياك أيضا أقريت الوداع يا شقيقتي، لا يطلبنني أحد منكم فإنكم لا تجدونني. وأنت أيها البارون «دي لينس» قد حلت وثاقك فأنت حر، اطلب سواي وعش لسعادة غيري، ودمتم.
وردة ب
والحق يقال: إنه لو كانت الصاعقة وقعت في وسط الدار بين ظهراني القوم لما أثرت في القلوب تأثيرا أعظم ولا أصابتها بحيرة أشد.
فللحال صمتت الألسن، وتبددت أجواق الراقصين، وهدأت رنات المزاهر والملاهي، وطفئت المشاعل والثريات، وهم المدعوون في الخروج واحدا بعد آخر.
أما السيدات والصبايا اللواتي لم يأتين إلى هذه الدعوة سوى لترويح الخواطر وطلبا للملذات والرقص فتبلبلت أفكارهن وتولى عليهن الدهش وأسرعن إلى الباب ليركبن العربات ويعدن إلى بيوتهن؛ لأنه مذ حل الدهر بنكباته في هذه الدار لم يطقن بها السكنى، والعالم كما لا يخفى لا يحب بيوت المناحة ومعاهد الحزن، فتبا للدنيا من صديقة مماذقة لا خير فيها!
هذا وإن بعض الأصدقاء المخلصين تخلفوا بعد خروج الجمهور؛ ليخففوا بحضورهم ألم المصابين، ولكنهم لم يلبثوا بعد قليل استأذنوا بالانصراف واستودعوا البارون والقنصل آسفين صامتين، فتلك غاية ما يصنع البشر في مثل هذه البلايا العظيمة، وتضميد مثل هذه الجراح البليغة.
فلما صار منتصف الليل لم يبق في بيت القنصل سوى البارون وأهل العائلة، فكنت ترى الديوان الكبير في حالة يرثى لها، وأثاث الدار مبعثرا مقلوبا، وآثار الفرح والبسط ملقاة لا يعبأ بها.
Unknown page