سهام الإسلام
سهام الإسلام
Publisher
الشركة الوطنية للنشر والتوزيع (مطبعة أحمد زبانة)
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٠٠ هـ - ١٩٨٠ م
Publisher Location
الجزائر
Genres
عبد اللطيف بن علي السلطاني
سهام الإسلام
1 / 1
عبد اللطيف بن علي السلطاني
سهام الإسلام
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
طبع بمطابع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع
٣ شارع زيروت يوسف - الجزائر
بمطبعة أحمد زبانة
1 / 3
صدرت الطبعة الأولى في: صفر الخير ١٤٠٠هـ / يناير ١٩٨٠م
وصدرت للطبعة الثانية في: رجب الفرد ١٤٠٠هـ / جوان ١٩٨٠م
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾
صدق الله العظيم سورة الرعد. آيتا ١٩ و٢٠.
عَنْ حُذَيْفَةَ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ الْإِسْلَامُ سَهْمٌ، وَالصَّلَاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَحَجُّ الْبَيْتِ سَهْمٌ، وَالصِّيَامُ سَهْمٌ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَهْمٌ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ". أخرجه البزار في مسنده "البحر الزخار".
1 / 5
الإهداء
إلى شباب الإسلام الذين آمنوا بدينهم، وامتلأت بالإيمان وحب الخير قلوبهم، وانقادت للإسلام أفكارهم وجوارحهم، إلى كل من يرى أن الصيحة التي أيقظت النائم، وأرشدت الحائر، ونبهت الغافل، وأرجعت صواب التائه، إنما هي صيحة الإسلام، صيحة رسول الإسلام محمد ﷺ.
إليهم أهدي كتابي هذا ـ[سهام الإسلام]ـ كي يساهموا في إعادة بناء صرحه الشامخ المتين.
المؤلف
1 / 7
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والنجاح للعاملين، والنجاة من الأهوال للفائزين، والسعادة الدائمة للمخلصين، والسلامة من التبعات للسباقين، والعقبى للطائعين، الممتثلين لما جاءت به شرائع خالق الأولين والآخرين، ففي ذلك الفوز والنجاة، وفي سواه الردى والهلاك.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المرسلين، وخاتم رسل الله أجمعين، وقائد الغر المحجلين، ورضوان الله عن آل بيته المكرمين، وأصحابه الميامين، وعلى من سلك سبيلهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد فيقول أحوج الناس إلى عفو خالقه ورضاه، وأفقر العبيد إلى سيده ومولاه / عبد اللطيف بن علي بن أحمد السلطاني القنطري: هذه خواطر جمعتها، كانت تتوارد وتمر على خاطري المرة بعد المرة، في كل وقت وحين، وعندما تمر بخاطري الواحدة منها،
1 / 9
كنت أسجلها في ذاكرتي المكدودة، إلى أن توفر عندي منها ما لا يليق أن يبقى محجوزا غير طليق، فعزمت على إخراجها من حيز ذلك المضيق، ونشرتها عسى أن تجد مكانها في قلوب ذوي العقيدة الإسلامية، من خيار هذه الأمة المحمدية، وأرجو أن أكون من الذين قدموا لإخوانهم عملا مفيدا، قد يفيدهم في دينهم ودنياهم، وفي هذا لفت نظرهم إلى ما هم مطالبون به من الأعمال، التي تحفظ على الإسلام رونقه وبهاءه، وتصون جوهره من تزييف المزيفين، وسلامته من الغش والتدليس، وتبليغه إلى أولي النهى، وذوي العقول والأحجا، الكمل الموفقين، فقد تقاعس الكثير منا في هذه الأعصر الأخيرة عن العمل لخير وسلامة العقيدة من الزيغ والانجراف إلى سوء العقائد، والانحراف عن نهج الأسلاف الأماجد، كل ذلك من أجل إصلاح المجتمع الإسلامي، إصلاحا يتمشى مع أخلاقنا الإسلامية، وعقيدتنا الدينية، إذ اشتغل معظم المفكرين من هذه الأمة بما لا يفيد الإسلام والعقيدة إلا بالنزر اليسير، ولربما كان هذا قليلا أيضا على قلة أهله، فاجتمع لدي منها ما قد يسمى "كتابا" فاستخرجتها من ذاكرتي وكتبتها، وسودت بها صحائف قد تكون مفيدة، شاركت بها من تقدمني لخدمة هذا الدين الذي نعتز بالانتساب إليه، ونحمد الله على أن جعلنا من أهله الفائزين الرابحين، إن شاء الله رب العالمين، ولم يجعلنا من خصومه أو المفرطين فيه، حتى لا نكون من الهالكين والخاسرين.
وأسميته ـ[سهام الإسلام]ـ أخذا من حديث روي عن الرسول ﷺ، كما سيمر بالقارئ الكريم، وتفاؤلا بمشاركتي للعاملين والمساهمين في إعلاء منزلة الإسلام بين الأنام، ورفعة شأنه، وإعلاء كلمته (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وإعزازها، ونشر دينه الذي هو رحمة للعالمين، ولا نجاة للبشرية ولا سعادة لها ما دامت بعيدة عن الأخذ بشريعته، والاهتداء بهديه والتحاكم إلى
1 / 10
قوانينه ونبذ القوانين الوضعية التي لم تغن شيئا في كل ميادين الحياة، بل ما زادتها إلا توغلا في الغواية والضلال، وانصرافا عن المنهج القويم في استقرار الأوضاع وحماية حقوق الإنسان، التي داستها سنابك خيل الطغيان وجبروت الظلم والعدوان.
وعسى الله أن ينفعنا جميعا بما نعلم على قلته، ويمن علينا بالخلاص من قيود أنفسنا المحيطة بنا، كما ندعوه أن يمن علينا بالدعوة إلى الإسلام قولا وعملا، وعقيدة وغاية ومقصدا، إنه السميع العليم المجيب، ولا حول لنا ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وهو مولانا، فنعم المولى ونعم النصير.
***
1 / 11
الإسلام دين الفطرة
تمهيد
قال الله ﵎ في محكم التنزيل: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ آية ٣٠ من سورة الروم.
وقال الرسول ﷺ فيما رواه أبو هريرة ﵁ كما في الصحيحين: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها) ثم قرأ أبو هريرة ﵁ قول الله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وروى الإمام أحمد ﵀ في مسنده عن عياض بن حمار المجاشعي قال: أن رسول الله ﷺ خطب ذات يوم فقال في خطبته: (إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما
1 / 13
علمني في يومي هذا: كل ما نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا) الخ الحديث وهو طويل، كما رواه الإمام مسلم في صحيحه على ما سيأتي قريبا، قال ابن كثير في تفسيره لآية الروم السابقة ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ الخ: انفرد بإخراجه مسلم فرواه من طرق عن قتادة به. وقوله أتتهم الشياطين فأضلتهم الخ - وفي رواية مسلم فاجتالتهم - أي حولتهم عن فطرة الله فأهلكتهم، ومعنى هذا أن المولود بعد الولادة لو تركته شياطين الإنس والجن كما خلقه الله على الفطرة والجبلة - فطرة الله تعالى - لما اختار غير ما فطره الله عليه، من التوحيد والطاعة لله تعالى، وهي الفطرة التي فطره عليها كما نراه الآن في سكان البوادي الذين لم يخالطوا المدن التي تكثر فيها الطوائف المختلفة وتتنوع فيها المجتمعات التي تتأثر بما تسمع فيها من مختلف الأفكار والعقائد البشرية، وقد نقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ أنه كان يقول: "اللهم ارزقني إيمانا كإيمان العجائز" ذلك لأن البدوي متهيء لقبول الحق والتوحيد طبعا وطوعا لفراغ فكره من المؤثرات الخارجية والبعيدة عن فكره وعقله، وفي صحيح مسلم: (ما من مولود إلا وهو على الملة) وفيه أيضا (ليس من مولود إلا على هذه الفطرة، حتى يعرب عنه لسانه) ذلك أن الله تعالى خلقه وفطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله إلا هو، كما تشهد بهذا آية سورة الأعراف، وهي قوله تعالى:
1 / 14
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ الآية ١٧٢ من سورة الأعراف.
أما حديث مسلم فهو عن عياض بن حمار أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا الخ) والحديث طويل كما قلت ومن أراده فعليه به في الجزء ١٧ منه في باب (الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار) فنفهم من قوله تعالى: ﴿أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ أن من معاني هذه الإقامة أن تجعل الدين - دائما - إمامك وقدوتك في حياتك، وتسير أنت وراءه وفي خطه واتجاهه باتباعك له، وإياك أن توليه ظهرك وقفاك.
فبناء على ما تقدم تفصيله يظهر منه استعداد المولود حين ولادته لتلقي الدين الحق - دين الفطرة - وشرع الله (الإسلام) لو لم يصرفه صارف خارج عن أصل خلقته، جاءه من أبويه اللذين ظلا قائمين عليه بالتربية والتدريب على ما هما عليه من الدين والعقيدة التي ورثاها - هما أيضا - عن أبويهما، فيوجهانه الوجهة التي وجهاهما إليها.
1 / 15
وقد ضرب الرسول ﷺ لهذا التوجيه الأبوي مثلا، وهو البهيمة الحيوانية التي تولد كاملة الخلقة لا ينقص منها شيء، حتى تمتد إليها يد الإنسان، فتشق أذنها - مثلا - أو تقطع منها قطعة، دفعها إلى هذا القطع أو الشق لها عقيدة كامنة في نفس صاحبها، ورثها ممن قبله، مثل البحيرة والسائبة، أو يفعل بها ذلك ليميزها - بما فعل - عن غيرها من بقية نظيراتها، حتى لا تشتبه بغيرها، وهو مثل صادق تماما على أصل خلقة الإنسان.
وكلمة "الفطرة" مأخوذة من أصل فطر، بمعنى خلق وشق.
فمن ورود الفطر بمعنى الخلق والإيجاد قوله تعالى: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (١) أي خلقني وحده لا شريك له، وقوله: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (٢) أي خالقهما ومبدعهما، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (٣) أي لا أعبد الأوثان التي تعبدونها، وإنما أعبد الله الذي خلقني وحده، فلا أشرك في عبادته أحدا، فجعل كلمة التوحيد باقية مستمرة في عقبه وذريته إلى يوم القيامة.
_________
(١) الآية ٢٢ من سورة يس.
(٢) الآية ١٤ من سورة الأنعام.
(٣) الآيات ٢٦، ٢٧، ٢٨ من سورة الزخرف.
1 / 16
والفطرة - بالكسر - الخلقة، والفطرة أيضا ما فطر الله عليه الخلق من معرفته والاهتداء بها إلى أنه خالقهم ولا خالق لهم سواه، وفطر الله الشيء بمعنى: أنشأه وابتدأه وابتدعه، ومن هذا قوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ وفي الحديث المتقدم (ما من مولود إلا يولد على الفطرة).
ومن ورود الفطرة المأخوذة من فطر بمعنى شق قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ بمعنى انشقت، وقو له: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ أي شقوق، وفي حديث قيام الليل (قام رسول الله ﷺ حتى تفطرت قدماه) أي انشقت قدماه، وروي عن ابن عباس ﵄ أنه كان يقول: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أي بدأتها وابتدعتها.
فالفطرة من معانيها الخلقة، كقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. أي خالقهما ومبدعهما، ومنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهذا ما ذكره الله في شأن خليله إبراهيم ﵇ حين اهتدى بفطرته - من صغره - إلى أن ما عليه قومه من عبادة غير الله أمر باطل وعمل خارج عن أصل الخلقة ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ (١).
_________
(١) الآيتان ٥١ - ٥٢ من سورة الأنبياء.
1 / 17
ففطرته لم تبدل ولم تغير، لهذا توصل بها إلى توحيد الله وأنكر ما كان عليه قومه من صغره، كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾. الآية ٨٣ من سورة الأنعام.
هذه هي الفطرة التي فطر الخالق الخلق عليها، خلقهم ليكونوا مؤمنين به، بأنه إله واحد لا شريك له، وكل خلقه محتاجون إليه وهو غني عنهم، فإذا لم يقروا له بالوحدانية، وإذا لم يتبعوا شرعه الذي جاءهم من عند خالقهم بواسطة رسله إليهم، إذا لم يكن منهم هذا فقد نقضوا عهدهم الذي أخذه منهم خالقهم وهم كالدر في أصلاب آبائهم، واتبعوا الشياطين التي أضلتهم واجتالتهم عن دينهم الحق، وهذا ما تشير إليه الآية السابقة - آية سورة الأعراف - وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (١).
فقد ذكر الله فيها ما أخذه من العهد والميثاق على ذرية آدم وهم في أصلاب آبائهم، وقد بينت كتب السنة كيف تم أخذ هذا العهد والميثاق من ذرية آدم، على أن يكونوا مؤمنين به موحدين له لا يشركون به شيئا يعبدونه، فلا يعبدون غيره، فإذا أشركوا معه غيره، وعبدوا سواه وأطاعوا الشياطين وعصوا ربهم وخالقهم فقد هلكوا وضلوا.
_________
(١) الآية ١٧٢ من سورة الأعراف.
1 / 18
وقد ذكر المفسرون لهذه الآية أحاديث مروية عن الرسول ﷺ في تفسيرها، فالمجال هنا ليس للعقل يجري فيه كما يشاء ويريد، بل القول هنا لصاحب الرسالة ﷺ، والروايات عنه متعددة، وكلها تحوم حول كيفية أخذ هذا العهد من بني آدم، ونقتصر منها على واحدة رواها الإمام مالك في الموطأ بسنده إلى مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (١) قال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله ﷺ يسأل عنها، فقال رسول الله ﷺ: (إن الله خلق آدم ثم مسح ظهرة بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال فقال رسول الله ﷺ: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار) كما أخرجه الترمذي في سننه، وأخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم في المستدرك وقال الترمذي هذا
_________
(١) الآية ١٧٢ من سورة الأعراف.
1 / 19
حديث حسن، ولاحظ على سنده بأن مسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلا مجهولا، وقال بعض رجال الحديث أن هذا الرجل المجهول هو نعيم بن ربيعة الأزدي، والمعروف عن الإمام مالك ﵀ أنه يتحرى في نقله للأحاديث، وإذا رأى واحدا مجهول الحال فإنه يهمله من السند.
والحديث روي من طرق متعددة ومختلفة، وكلها تؤيد وتفسر ما جاء في الآية الكريمة، ومنها حديث ابن عباس ﵄ الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم، وهو (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) أي أنت ربنا.
فندرك من كل ما تقدم أن الدين الحق هو دين التوحيد، وهو ما وافق خلقة الإنسان وجبلته وطبيعته التي خلقه الله عليها، ولهذا كان ديننا "الإسلام" الحنيف دين الفطرة والخلقة الأولى للإنسان، ليس فيه وثنية ولا أحكام إلا يقبلها العقل السليم من المؤثرات الخارجة عن أصل الخلقة، والتي لا تستسيغها الطبائع البشرية السليمة، كما نرى ذلك في غيره من الأديان الغابرة والحاضرة من أعمال وتشريعات تخالف تماما العقل النير الصافي، ذلك لما طرأ عليها من تحريف أتباعها.
وتظهر الفطرة السليمة في الإنسان البدوي البعيد عن الحضارة البشرية، وهو الذي لم يتلق العلم في المدرسة، ولم يكن ممن
1 / 20
نشأ في المجتمعات المتحضرة، فقد سئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فأجاب: يا سبحان الله. (إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟) فقد اهتدى هذا الأعرابي البدوي بفطرته السليمة البسيطة على وجود الصانع لهذا العالم، في حين لم يهتد إلى هذا فلاسفة هذا العصر المادي وكبار العلماء من مخترعي الذرة والصواريخ الدافعة للمركبات الفضائية، والصواريخ الجهنمية المحطمة لما بنته وشيدته يد وعقل الإنسان، فقالوا فيما قالوا: (لا إله والحياة مادة) .. اهتدى بآثار صنع الله في هذا الكون.
فجاء الإسلام بما يوافق ما تتطلبه الفطرة السليمة، التي لا زالت على سلامتها وبساطتها، لم تدنس بدنس الإيحاء الشيطاني، فيأمر الإسلام بالاعتراف بوجود الإله الواحد القهار القادر العليم الحكيم، الخالق لكل مخلوق الموجود لكل موجود، سبحانه (لا إله إلا الله) فهي أساس كل دين سماوي جاء من خالق الأكوان، وهو رب العالمين كلهم.
***
1 / 21
السهام
السهام جمع سهم، ويجمع السهم أيضا على أسهم وسهمان، والسهم في اللغة العربية له دلالة على مسميات عدة.
١ - السهم بمعنى الحظ والنصيب - القسمة - وهو مستعمل كثيرا في لغتنا إلى اليوم، فيقول القائل: سهمي في كذا، كذا، أو أسهمني معك، بمعنى اجعل لي قسمة ونصيبا معك.
فمن ورود السهم بمعنى الحظ والنصيب: سهام الفرائض في قسمة التركات، ومنه - أيضا - ما ورد في كتب الطب والرقى من كتب السنة النبوية، فقد ذكرت أن رهطا - جماعة - من أصحاب رسول الله ﷺ انطلقوا في سفرة سافروها، فنزلوا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فاتفق أن لدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء ممكن لشفائه، فلم ينفعه شيء، فذهبوا إلى رهط الصحابة يسألونهم، هل لديهم علاج يعالجون به سيد الحي؟ فقالوا لهم نعم، على شرط أن تجعلوا لنا جعلا - أجرا - فاتفقوا على قطيع من الغنم - قيل ثلاثين - فرقاه أحد الصحابة بسورة الفاتحة،
1 / 23
فشفاه الله في الحين، وقام كأنما نشط من عقال، فلما أخذاوا منهم الجعل - الأجر - توقفوا في أكله مع شدة حاجتهم إليه، وقال الذي رقى - وهو أبو سعيد الخدري كما جاء مصرحا به في إحدى الروايات -: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله ﷺ ونسأله، هل ما أخذناه على الرقية حلال لنا أو حرام علينا؟ فلما قدموا على رسول الله ﷺ وذكروا له ما وقع، قال للسائل: (وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم بسهم) أي اجعلوا لي معكم سهما ونصيبا فيما أخذتموه، قال لهم هذا تطمينا لقلوبهم وتطييبا لخاطرهم وتشريعا لأمته حتى لا يبقى لهم أي شك في حلية ما أخذوه عن رقيتهم للديغ، والقصة مبسوطة في كتب الحديث بطرق مختلفة، لأنه قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله). أخرجه الإمام البخاري في كتاب الطب من صحيحه، كما أخرجه غيره.
٢ - ويطلق السهم - أيضا - على واحد السهام التي كان العرب في الجاهلية يقترعون بها فيما بينهم، ويستقسمون بها وهي - الأزلام - واحدها زلم - فقد كانوا يقترعون بها على ما يريدون، ويلعبون بها القمار، وتسمى - أيضا - القداح، واحدها قدح بكسر القاف، فكانوا إذا اختلفوا في شيء كتبوا أسماءهم على السهام فمن خرج سهمه غلب غيره، فالسهام والأزلام والأقداح معناها واحد.
1 / 24
ومن ورود الاستهام في الاقتراع ما جاء في القرآن الكريم، في قصة السيدة مريم بنت عمران ﵍، حين اقترع عليها أهلها فيمن يتولى كفالتها وحفظها إلى أن تكبر، ومن بين المقترعين "زكرياء" ﵇، وكانت خالتها تحته، فطلبها منهم ليكفلها، فأبوا أن يسلموها له إلا بالقرعة فيما بينهم، ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ (١) ذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم.
وفي قصة رسول الله (يونس بن متى) ﵇ حين اقترع بالسهام مع من كانوا معه في السفينه، فخسر القرعة، وذلك في قوله تعالى ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (٢)﴾ بمعنى قارع فكان من المغلوبين.
ومن مجىء الاستهام في الاقتراع ما جاء في كتب السنة النبوية، وذلك في قوله ﵊ مبينا فضل الأذان والصف الأول في الصلاة: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) أي لاقترعوا عليهما أيهم يؤذن للصلاة، أو أيهم يجد مكانا في الصف الأول لمزيد الثواب والأجر فيهما، رواه الإمام البخاري وغيره عن أبي هريرة ﵁، كما رواه الإمام مالك في الموطأ في باب
_________
(١) الآية ٤٤ من سورة آل عمران.
(٢) الآيات ١٣٩ - ١٤٠ من سورة والصافات.
1 / 25