ونذكر أيضا «شارلس بيرس» الفيلسوف وعالم المنطق بامتياز. ولكن الذي يعنينا هنا دوره في تيسير الأداة الفكرية لهيمنة الدولة، وتبرير كل الأساليب بما في ذلك القهر والتعذيب لكفالة الهيمنة تحت عنوان «تثبيت إرادة الاعتقاد»؛ إذ قال: «إرادة الدولة هي التي تصوغ الاعتقاد لدى الناس وتثبته في الأذهان بما تملكه من قوة وسلطان ..» ثم يقول: «ولنجعل كل من ينبذون الاعتقاد الرسمي الأمريكي يلزمون جانب الصمت في هلع .. ولنجر تحريات وتحقيقات عن طريق تفكير المشتبه فيهم .. ولنوقع عليهم العقوبات .. أو لنبدأ مذبحة عامة لكل من لم يفكر على النحو الذي أرادته الدولة (الأمريكية طبعا!)» (شوقي جلال، العقل الأمريكي يفكر، ص126). وإذا قلنا الدولة الأمريكية وأبدلنا الناس بالمجتمعات الدولية سوف يتضح المعنى والنزوع إلى الهيمنة.
وأرجو من القارئ أن يتذكر كلمات «بيرس» إذ سنعود إليها عند الإشارة إلى تأزم الفكر والمجتمع والشعور بأن فكر «بيرس» طوق النجاة لدفع الأخطار.
النهاية
ولكن هل انتهى القرن الأمريكي ومتى؟ أم أن العالم بصدد قرن أمريكي ثان على نحو ما يأمل اليمين الأمريكي؟ الإجابة ليست فيما يأمل فيه أو يريده الأمريكيون يمينيين أو يساريين، بيضا أو سودا. والإجابة أيضا ليست فقط فيما يرجى داخل الولايات المتحدة حصرا بل وحسب منهج البحث الكوكبي فإننا نسأل عن عاملين: ماذا يجري داخل أمريكا؟ وماذا يجري في العالم؟ وما هي المؤشرات والمظاهر والوقائع القائمة والمحتملة في ضوء علاقات الصراع أو التناقض؟ إن العوامل المتفاعلة والحاسمة ليست الداخلية فقط بل الكوكبية .. وليدة بنية ووظيفة النطاق الكوكبي ذاته والذي تحاول الولايات المتحدة الآن، باعتبارها القطب الأوحد، أن تستأثر به كقوة فاعلة، حفاظا على زعامتها. ولكن مثل هذا النهج يصادف هوى في نفس القوى القائدة ومن ثم يحملها ما فوق طاقتها فيكون الهاوية.
منذ انتصاف القرن العشرين بدت الولايات المتحدة أكثر قلقا وحديثا عن «المستقبل» على عكس الحال قبل جيلين. اقترن الحديث ليس بالآمال العراض على نحو ما كان الحال بعد الحرب الأهلية بل اقترن بهواجس ونذر الخوف على المستقبل. اعتلت الولايات المتحدة ذروة الهيمنة سياسيا وثقافيا وإعلاميا مع نهاية الحرب العالمية. وظهر هنا نقيضها متمثلا ليس في نهاية عصر الاستعمار الأوروبي فقط بل وفي بداية صعود بلدان الشرق الأقصى في محاولة لاستعادة ثقافتها، حضارتها، ذاتها، مكانتها في التاريخ وعلى الساحة العالمية كقوى إنتاجية فاعلة ومؤثرة. وبدأ الصراع وبدأت معالم الهزيمة مع فيتنام إعلانا يؤكد انتصار الشعوب؛ ثم صحوة التنين الأكبر-الصين .. وامتدت الصراعات، وتواترت التدخلات العسكرية الأمريكية لإكراه الوضع العالمي على البقاء حيث تريد هي له.
وجدير بالذكر هنا أن «بول كينيدي» في كتابه «الإعداد للقرن 21» يحدثنا عن صورة مناظرة حتى لا تخدعنا ظواهر الأحداث ومظاهر القوة. يقول: «منذ مائة عام ساد بريطانيا حوار عن المستقبل بينما هي القوة الأعظم ..» ودار الحديث عن الاستعداد للقرن العشرين وعن القدرة التنافسية في الاقتصاد العالمي. وكانت من بين مشكلاتها آنذاك «شأن الولايات المتحدة الآن» أولويات الإنفاق: هل هي القوة العسكرية لفرض الهيمنة؟ أم في الداخل وتحسين الأحوال المعيشية، وعلى النظام التعليمي العام، وعن كفاءة الصناعة، وعن معالجة الفقر ومستويات الاستثمار، ونقص المهندسين والعلميين وغلبة خريجي الكليات النظرية مثل المحامين. ويشير بول كينيدي في موضع آخر: «الولايات المتحدة الآن هي الأقوى عسكريا وثقافيا في الجو والبر والبحر وهي البلد الوحيد الذي تمتد قبضته إلى أقاصي الأرض»
Global Reach
ولنتذكر هنا مدلول الكوكبية أو العولمة في العقل الأمريكي. ويستطرد قائلا: ولكن تكاليف الدفاع تسبب قدرا كبيرا من الخسارة الاقتصادية.
ويمثل هذا امتدادا وتطويرا لحديثه عن أسباب صعود وسقوط القوى العظمى في كتابه الذي يحمل هذا العنوان؛ إذ يرى أن الولايات المتحدة في سبيل الالتزام بعقيدة أو عقدة التفوق والاستعلاء والزعامة العالمية وبسط قوتها العسكرية باتساع نطاق يتجاوز كثيرا قدراتها وطاقتها الاقتصادية. ويقرر أنه إذا زادت الالتزامات الاستراتيجية للدولة عن إمكانياتها الاقتصادية فإنها تأخذ طريقها إلى السقوط والاضمحلال. وإن خروج الولايات المتحدة بكامل قواتها وطاقاتها الحربية إلى أقاصي الأرض والبحار والمحيطات لإخضاع هذا البلد أو ذاك وإلزام الجميع بالطاعة والصمت إنما هو دليل على رفض الخارج لها وتحميلها أعباء اقتصادية تفوق قدرتها على استمرار تحمل عبء الزعامة العالمية.
إن عقدة العظمة والاستعلاء الأمريكية تجعل من الصعب نفسيا وعقليا قبول الأمريكي العام، ناهيك عن جنس الأبيض المسئول، حقائق التاريخ والتغيير أو قبول أحداث الواقع ومطالبة الآخر بالتكافؤ والمساواة والندية في حق البقاء والتقدم. ويفضي مثل هذا الوضع بالمريض المصاب بحالة البارانويا - أي جنون العظمة - إلى تخطئة العالم-الواقع ومن ثم ترى الولايات المتحدة الآن أن رسالتها تفرض عليها الآن وفي ضوء الأحداث تصحيح الوضع بما يتسق مع عقيدتها أو عقدتها. ويتسق هذا مع ما قاله شارلس كروتامير في مقال له بعنوان «قرن أمريكي ثان» في 20 ديسمبر/كانون أول 1999م إذ يقول:
Unknown page