إننا مع احترامنا وتقديسنا للدين الإسلامي، بل للأديان جميعها، نسأل كيف يمثل الشعار المجتزأ حلا لقضايا مجتمع تعقدت بنيته وعلاقاته مع التطور الحضاري للمجتمعات؟ الاقتصاد مثلا .. يقال إن هناك زكاة الركاز! ولم يسأل أحد سؤالا بسيطا: لماذا لم يطبق أحد من حكام المسلمين على مدى قرون طويلة هذا النص؟ هل هذا خروج منهم عن قواعد الإسلام، وحرصوا على الاستئثار بأموال الركاز «مثل النفط وكل ما في باطن الأرض» لصالحهم ولتكون أمواله بعض الذمة المالية للحاكم وأسرته دون المجتمع؟ وهل تبقى المجتمعات أسيرة تخلفها ومظالمها إلى حين يقتنع الحكام بهذه القاعدة وهم في حماية قاعدة أخرى ترى أن الحاكم الظالم خير من الفتنة والانقلاب عليه؟ وهل اقتصاد المجتمعات الآن بنفس بساطة مجتمعات القبيلة قديما بحيث تصلحه وتنظمه قاعدة زكاة الركاز؟ وإن رفض الوالي أو عصى فأمره موكول إلى الله يحاسبه في الآخرة.
إن القول بأن زكاة الركاز، والزكاة عموما، هي الحل الإسلامي لأزمتنا الاقتصادية يشبه القول بأن الحل الإسلامي للفقراء والمحتاجين هو أن يقدم الأغنياء الصدقات بدلا من التنمية وحق المواطن في نصيب عادل من ثروة أمته التي يسهم في إنتاجها. وطبيعي أن مسئولية توفير موارد تنمية المجتمع وتحديد مصارفها، التي أصبحت علما متكاملا له علماؤه ونظرياته، ليست مقصورة على المسلمين وحدهم وإنما على المواطنين جميعا دون اعتبار لدين أو جنس وإلا ظهر من يطالب بنظام الجزية، وهذه ردة وتخلف.
ثم إن الحديث المرسل المطلق عن زكاة الركاز يعني أن قضية المجتمع تنحصر في نقص السيولة وفاء بحاجات المعيشة وليست مسألة تعبئة موارد وتحديد علاقات التعامل وتنظيم المصارف وتوفير الفائض وفاء بحاجات التنمية وفقا لاختيار جمهور المواطنين بعامة وعلى مسئوليتهم وليس اختيار ومسئولية ولي الأمر وبطانته. ولم يعد الاقتصاد القومي محليا بل طرفا ضمن شبكة عالمية عناصرها الشركات المتعدية للقوميات، وهذه بينها صراع الجبابرة وخطط لاحتكار براءات الاختراع وإلغاء الحدود والقيود القومية .. وهذه شئون دنيوية خالصة لم يرد بها نص. ولم يعد الاقتصاد اقتصاد ركاز ونعم الله في الأرض، بل الاقتصاد إنتاج المجتمع للثروة وخلق الثروة.
إن فرض الزكاة جاء باعتباره حقا معلوما للسائل والمحروم، يقدمه الموسرون إلى من يرونهم مستحقين لها. وكان هذا في مجتمع بسيط غير معقد لا يعرف نظام الدولة الحديثة ومؤسساتها ووظائفها من جمع ضرائب وتحصيل جمارك وتحمل مسئوليات تنمية اجتماعية وإقامة بنية أساسية وطرق وكبار ومؤسسات تعليمية وصحية .. إلخ، ولهذا ينصب حديثنا لا على حق السائل والمحروم؛ فهذا واجب، وإنما ينصب على آلية إنجاز الهدف. إن تعبئة موارد الدولة المالية تجري عبر آلية توجه المال إلى مصارفه الاجتماعية لا على سبيل الصدقات وبشكل شخصي، وإنما آلية اجتماعية خاضعة للرقابة والمحاسبة لبناء خدمات تعليمية ومؤسسات وغيرها. ومن ثم نسأل : هل الأفضل أن نعطي السائل صدقة؟ أم نهيئ له عملا وخدمات تعليمية وصحية .. إلخ، كمصارف لما تحصله الدولة من أموال؟ وبعبارة أخرى: هل نعطيه سمكة أم نعلمه الصيد؟ .. الغرض قائم واجب النفاذ وإن اختلفت آلية الإنجاز.
الإسلام والعلم والتعليم والثورة المعلوماتية
وتقتضي أمانة الحوار أن نعترف بأن قضية المجتمع ليست اقتصادا فحسب على الرغم من قصور فهم الإسلامويين لمعناه ونطاقه. ولكن ما الحل الذي نص عليه الإسلام لقضية التعليم وبرامجه بمراحله المختلفة ومناخ وأسس تربية الإبداع وإحداث ثورة تعليمية تفي بمقتضيات حضارة العصر؟ وما الحل الذي نص عليه الإسلام العقيدة لقضية البحث العلمي والتطوير وإنشاء قاعدة بحث وتشجيع حرية الابتكار والتطبيق وإنشاء قاعدة معلومات وشحذ روح النهم المعرفي؟ لم يرد نص ديني يحدثنا عن كل هذا أو عن كيفية بناء مجتمع المؤسسات العلمية أو ما يسميه الباحثون الآن مجتمع العلم الكبير كمؤسسة متشابكة محليا وعالميا ومتطورة وملتزمة وملزمة. لم يحدثنا نص عن إنشاء منظمة علم وثقافة في المجتمع تكون أداته لتحويل طاقات المجتمع وقدراته العلمية والتقانية إلى مخرجات ثقافية وتعليمية وحربية واقتصادية .. إلخ، والعمل في ترابط بالشبكة العالمية.
لم يعرف عصر صدر الإسلام مسألة تنظيم البحث العلمي أو بناء مجتمع العلم الكبير كمؤسسات وحرية الإبداع العلمي والفكري والمنافسة والسبق الإبداعي على الصعيد العالمي. ونظلم أنفسنا ونظلم الدين (العقيدة) إذا ألزمناه بأن يقدم نصا نعيد على هديه بناء مجتمعنا ليكون مجتمع مؤسسات علمية ومراكز بحث وأن يكفل حرية الإبداع واستيعاب علوم العصر على أساس عقلاني نقدي دون قيود حظر أو تحريم.
إن هذا الزعم يشبه رطان من يفسرون «ما فرطنا في الكتاب من شيء» بأنها تعني أن القرآن حوى كل الاكتشافات العلمية التي عرفتها وسوف تعرفها البشرية إلى أبد الآبدين .. وهذا هراء ليس من الدين. لقد اجتاز العالم عتبة عصر جديد هو عصر الثورة المعلوماتية الذي يقتضي ثورة في التعليم والبحث العلمي والعلاقات الاجتماعية وهيكل المجتمعات ومؤسساته وبناء الإنسان ووضع صيغة لنظرة تاريخية مستقبلية علمية. وهو ما لم يرد به نص موروث منذ عصر صدر الإسلام، وليس هناك حل إسلامي لجميع البلدان يوضح لها كيفية تجاوز مراحل التطور الاجتماعي وصولا إلى حضارة العصر. وليس في هذا الإنجاز نقض لدين ما من حيث هو خطاب روحي، أو قيمي داعم للنهوض.
رطان أسلمة العلوم
ونسمع من يقول: الإسلام هو الحل .. في قضية الصحة والطب، ولكنني أذكر الإسلامويين بمقولة عالم الاجتماع المسلم ابن خلدون الذي قال: جاء الإسلام ليعلم الناس الدين وليس الطب والزراعة. إننا نجترئ على الحقيقة والواقع إذا قلنا إن الإسلام هو الحل لعلاج أمراض القلب والذبحة واضطراب الهرمونات والكبد .. إلخ، إلا إذا ذهبنا مذهب البعض، وكما يشيع على ألسنة العامة، أن نطرح العلم جانبا ونلتزم العلاج بالقرآن ونغلق المستشفيات وكليات الطب والمعامل.
Unknown page