حق المواطنة
قديما كانت العشيرة أو الأسرة الكبيرة أو القبيلة هي الأمة ووحدة البناء الاجتماعي، وكان بقاؤها يعتمد على التجانس والتلاحم على أساس رابطة الدم أو العرق أو العقيدة؛ ولهذا يصدعها ويفسد وجودها خروج الفرد على رأي الجماعة؛ ومن ثم تعتبره فاسقا مارقا، وتنظر إلى التمايز والتنوع نظرة تجريم وتحريم. ومثل هذه البنية الصغيرة تتلاءم من حيث شكل السلطة الفردية والعلاقات الاجتماعية مع طبيعة الإنتاج في العصور القديمة. ولكن المجتمعات تطورت وتغيرت وانتقلت عبر مراحل من القبيلة إلى الأمة المدنية ثم إلى الأمة القومية، إلى الوطن الذي ضم جماعات متباينة ربما في العرق أو الدين أو الجنس .. إلخ. وأضحت بنية الأمة القومية؛ الدولة في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، وحدة ضمن وجود شبكي عالمي شديد التعقد والتداخل من حيث طبيعة النظم والمؤسسات والاعتمادية المتبادلة، واقتضى هذا إطارا فكريا جديدا تتعامل الإنسانية على هديه ويختلف جذريا عن جميع الأطر الفكرية التي سادت منذ نصف قرن ناهيك عن أطر فكرية مضت عليها قرون.
وأصبح الناس جميعا سواء من حيث المواطنة القومية والعالمية، ومن حيث الدور والواجب والمسئولية. وتجد المساواة تعبيرها الواضح في مشاركة الجميع دون تفرقة على أساس من دين أو عرق أو جنس في الإسهام الحضاري في تنظيم المجتمع والانتماء إلى مؤسساته على اختلاف التراتيبات الهرمية في المجتمع، وأيضا في تحمل مسئولية هذا التنظيم. والناس جميعا، على قدم المساواة، شركاء في السعي العقلاني لتأكيد الذاتية الاجتماعية الواحدة والمتلاحمة في إطار التنافس على الصعيد القومي والإقليمي والعالمي، وفي إطار استثمار مصادر الطبيعة وبناء الثروة الاجتماعية والانتفاع بها.. وإن هذا واجب وحق مشترك للجميع كمواطنين دون تفرقة على أساس غير أساس صدق المواطنة وكفاءة الأداء. وحق/واجب المواطنة يعني أن الناس جميعا على قدم المساواة في الاختيار الحر للسلطات دون تمييز أو تفرقة، وأنهم بحريتهم واختيارهم شركاء ورقباء؛ فاختيارهم ليس بيعة وإنما عهد ومسئولية ورقابة ومحاسبة.
ولكن نسمع من يتحدث عن الدين الإسلامي والمساواة بين المصريين أو أبناء المجتمع مسلمين ومسيحيين.. إلخ، ونراه يلجأ أولا إلى كلمات وعبارات قالها العرب عند دخولهم غزاة لبلدان حضارات وأديان أخرى؛ إذ اعتادوا وصف أبناء هذه المجتمعات ممن لم يدينوا بالإسلام بأنهم ذميون. وينسى أن المواطنة ليست منحة أو منة يتكرم فريق من أبناء المجتمع أو فريق وافد إلى المجتمع، بمنحها أو إغداقها على فريق آخر، وينسى أن مقولة «أهل الذمة» أضحت في ذمة التاريخ بإيجابياتها - إن وجدت - وسلبياتها أو مبرراتها. ويتناسى أن أحد قادة الإسلامويين أعلن صراحة منذ عهد قريب أن أقباط مصر - وهم مصريون أصلاء وليسوا وافدين - ليس لهم مكان داخل جيش مصر!
ويتناسى المتحدث أن عديدين من المصريين الأكفاء لا يجدون سبيلا لشغل مناصب قيادية بسبب الانتماء الديني! فهل يستقيم هذا مثلا مع مقولة: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» التي يسوقها البعض للإشارة إلى الموقف الديمقراطي للإسلامويين؟ وهل تعني أن المواطنين أمام القانون سواء .. وإن كانت قد صدرت في زمن وفي مجتمع لا يعرف الدستور والقانون؟! أي هل يستقيم المعنى التاريخي بظروفه مع حق المواطنة بالمعنى العلمي والذي لا يمس قواعد وقيم الدين، بل يؤسس قاعدة دينية هي أن يكون المجتمع بنية متراصة متماسكة لخير المجموع ولمواجهة عدو مشترك هو التخلف الذي جعل أرضنا مستباحة لإسرائيل، وجعل بلدنا ذليلة في يد طاغية مستبد، وأفضى إلى الحال التي نعاني منها حتى أصبحت «أمة الإسلام» أمثولة للتخلف بين شعوب العالم بسبب الإصرار على مقولات مثل تلك التي يرددها البعض باسم الدين، والدين الحق منها براء.
وهل يقبل مثل هذا المتحدث أن يعامل المسلمون في فرنسا أو إنجلترا أو غيرها على أساس منهج التعامل مع أهل الذمة؟ إنه سيدافع وسيدفع بحجج علمانية يرفض هو وإخوانه سماعها على ألسنتنا هنا! وإذا شاء الإسلامويون أن يضعوا معنى عصريا لهذه العبارة فأجدر بهم أولا أن ينتقدوا تطبيقها في العصور السابقة، وأن يقتدوا بالإسلامويين المقيمين في الغرب إذ يدافعون عن العلمانية نهجا صحيحا للحياة وأن يقرءوا رأي المفكر الإسلامي الأكبر محمد خاتمي إذ يقرر: «تجوز ولاية غير المسلم على المسلم بأسلوب ديمقراطي»، وهذه ثورة في الفكر الإسلامي.
شعار «الإسلام هو الحل»
ونجد من يردد أن شعار «الإسلام هو الحل» يشتمل على البرنامج الأمثل، وإن بدا مجتزأ .. ولست أدري كيف لشعار مجتزأ مبتور أن يكون برنامجا يرسم خطوات حركة المجتمع ورؤيته المستقبلية؟ أو كيف يكون لجماعة تطمح إلى الحكم برنامج غير معلن ومجهول للجماهير؟ ثم إن الحديث عن برنامج عمل لنظام حكم يطرح نفسه بديلا لا يستقيم إلا إذا اقترن بدراسة علمية تحليلية عن الواقع المحلي والعالمي، وبنظرة علمية نقدية لنظم الحكم التي وصفت نفسها بأنها إسلامية، الآن وفي الماضي، وبيان أسباب فشلها، وأن يطرح البرنامج رؤيته التصحيحية البديلة مع بيان معالم الطريق. وهذه للأمانة أزمة جميع الأحزاب والتنظيمات.
إن العديد من المجتمعات الإسلامية على تباينها وعلى مدى قرون التخلف عرفت العديد من الحكام والولاة والسلاطين الذين نصبوا أنفسهم خلفاء وأمراء للمؤمنين ودفعوا ببلادهم إلى مهاوي الانحطاط والتفكك. وتعج بلدان العالم الإسلامي الآن بحكام يعلن كل منهم أنه أمير المؤمنين وراعي المسلمين والحرمين. ويقتضي واجب كل من يتصدى للمساهمة في إدارة شئون البلاد أن يقدم رؤية نقدية تكشف حقيقة الوضع وأسباب الفشل، ويعرض الجديد الذي يجدد الأمل في النهضة.
قضايا الاقتصاد
Unknown page