Al-Taʿrīf bi-Shaksbīr
التعريف بشكسبير
Genres
قال: «إن هملت قد وجدت صادقة مصدقة للحياة، وأعجب بها الهنود المثقفون وغير المثقفين على السواء ولكنها تنطوي على تناقض محسوس في موضع أو موضعين؛ إذ يقول هملت في مناجاته الثالثة عن العالم الآخر: «إنه المملكة التي لا يرجع منها من ذهب إليها .» وهو لما يكد يفرغ من رؤية طيف أبيه على المعقل، فكيف نفسر هذا؟ إن شكسبير كما يقول عنه جيتي يرسل ألسنة أبطاله بالمقال المناسب لكل مقام ولا يبالي أن يتناقضوا، وهذا صحيح على الجملة ولكننا هنا أمام تناقض واضح، وكثير من مصاعبنا في فهم الرواية يأتي من أمثال هذا الخطل الدرامي، وما عدا ذلك من نقائض الرواية فهو أعمق وألصق بطبيعة هملت في تكوينها؛ إذ هو يضطرب بين قطبين متعارضين: قطب العقيدة وقطب الإنكار: نصفه مسيحي ونصفه إغريقي على غرار الأقدمين.»
وتكثر أشباه هذه المآخذ في ملاحظات الكاتب وفي الملاحظات الأخرى التي تروى عن الشرقيين ويراد بها أنهم يفهمون الفن بطبيعة غريبة عن الطبائع التي تعبر عنها فنون الغربيين، وليس فيما قرأناه منها ملاحظة واحدة يختص بها الشرقيون أو تصدر عن الشرقي لأنه شرقي، ولا يجوز أن تصدر من الغربيين، وأن يصدر عن الشرقيين أنفسهم ما يناقضها ويذهب إلى وجهة تقابل وجهتها، وإنما هي آراء تختلف كما تختلف الآراء دون أن تختلف الطبيعة في صميمها.
فالرأي الذي يقول به الكاتب البرهمي عن التناقض بين مأساة شكسبير وعقيدة الخلاص بعد الحياة، يقول الأستاذ مدلتون موري بمثله عن التناقض بين العقيدة المسيحية وبين المآسي جميعا في أساسها، ويقدم ملاحظات الكاتب الهندي فيقول: «إن المأساة والمسيحية لفي تناقض يشبه هذا التناقض، ولولا أن المسيحيين تعودوا ألا يدينوا أنفسهم باطراد التفكير، أو ربما تعودوا ألا يؤمنوا حقا بعقائدهم لما تغاضوا عن هذا التناقض.»
وعندنا أن نصيب الأستاذ موري من الصواب لا يزيد على نصيب الأستاذ شاهاني منه، فما كان الإنسان ليتجرد من طبيعته؛ لأنه يؤمن بما وراء الطبيعة، وما كان ليبطل شعوره بالمأساة لاختلاف الطبيعة وما بعد الطبيعة في نظره، وإنما تأتي المأساة من هذا الشعور الذي يدور على محورين ولا يتيسر له أن يديره على محور متحد لا لبس فيه.
وليس بالحتم مع هذا أن يكون البوذيون أو البرهميون على رأي متفق في النظر إلى المأساة بهذه النظرة، فبعض البوذيين من بورما - كما جاء في الكتاب نفسه - يعجبون بشكسبير لأسباب دقيقة، ويقول أحدهم: «إن أدب شكسبير يعمل على تعليم أمثلة عالية من الأخلاق كالتي تعلمها الديانة البوذية بلا فارق من الوجهة الأدبية، وإنه لعلى الرغم من تقديره البالغ للدنيا ليضع يده في يد البوذي متصافحين حين ينظر هذا إلى الدنيا نظرة الزهد فيها.»
أما التناقض في رواية هملت فنحن - من قراء الرواية الشرقيين - لم نشعر قط أنه من المصاعب التي تحول دون القارئ الشرقي وفهمها، وأذكر أننا كنا نقرأ «هملت» مع صديقنا المازني، فكنا نتوقف عند هذا التناقض لنعجب من صدقه ودقته في التعبير عن شخصية بطل الرواية؛ إذ كان شكسبير يصور لنا إنسانا مخبول الحس، مضطرب الإرادة، يتردد بين الانتقام والإحجام؛ لأنه يشك في الطيف: هل هو شيطان من الجحيم يغريه بالإثم أو هو في الحق طيف أبيه يحضه على الواجب؟! ومن تردده أنه كان يحار في كونه ويتساءل: أيكون أو لا يكون؟ ثم يتقلب في الجواب ويتقلب في العمل كما يحدث لكل حائر مضطرب العقيدة بين الشك واليقين، ولو أنه ظهر لنا في الرواية على غير هذه الصورة لكان هذا هو التناقض الذي يعاب على المؤلف ويوقع القارئ في صعوبة الفهم لهذه الشخصية التي يجب أن تكون متناقضة، ثم لا يرى منها في المواقف المختلفة إلا التوافق والاستقامة على مسلك واحد.
إن شكسبير لم يكن يعرف عن الشرق شيئا من تواريخه أو أحواله أو مواقعه وأمكنته يزيد على القسط الشائع بين أبناء زمنه، مما تناقلوه عن الصليبيين ومن تقدمهم من رواد السياحة وطلاب الغرائب والأساطير، وكلما وردت الإشارة إلى الشرق في رواياته وقصائده فهو شرق الطيوب والعطور وشرق الأسرار والخفايا، وشرق الأرواح والجنة التي تفارق الهند لتلهو وتعبث في مفازة الغرب ثم تعود إليها، وربما حماه صدق البديهة فأورد تلك العجائب موردها من الفكاهة والتندر بالأساطير، وربما أومأ إليها متسائلا كما أومأ إلى قصة نبي الإسلام والحمامة في روايته الأولى من تاريخ هنري السادس، فقد كان محمد - عليه السلام - يوهم العرب في زعمهم، أنه يتلقى الوحي من ملك في صورة حمامة تقف على كتفه وتضع منقارها في أذنه؛ لأنه - كما زعموا - عودها أن تلتقط الحب منها! وقد سمع شكسبير بهذه القصة وسمعها معه الأوروبيون من رواة الحروب الصليبية، فلما أومأ إليها عرضا لم يزد على أن يتساءل: أوكان محمد يسمع الوحي من حمامة؟! إنك إذن لتسمعينه من عقاب!
فإذا كان العلم بالشرق علم أحوال وتواريخ فلا خبر من أخباره الصحاح عند شكسبير أصدق من صدق الحس في استغراب الغرائب وتلوين الروايات المنقولة بصبغة الأساطير، وليس للشرقيين لديه ذخيرة من التاريخ أو الجغرافية يستعيدونها من رواياته وأشعاره، ولكنه إذا تحدث إلى الناس عن طبيعة الإنسان فحصتهم عنده هي حصتهم في تلك الطبيعة الخالدة الشاملة كاملة غير منقوصة، وإنه ليحجز الشرق بغير حاجز ذلك الذي يظن أن الانتماء إليه حجاب بينه وبين رسالة من الرسالات العالمية في الأدب والفن، أو يظن أن هذه الرسالات تتخطى حدود الأقاليم واللغات والعصور ثم تقف عند حدوده، كأنه خارج من نطاق العالمية أو نطاق الإنسانية!
ولا مشاحة في اختلاف الأذواق والمشارب، ولكنه اختلاف موكل بالشكل والعرض وليس هو بالاختلاف الذي يتغلغل إلى أعماق الطبيعة وبواطن الحياة، بل هو الاختلاف الذي يطويه الأدب العالمي ويلفه في ساحته الضافية فوق الحواجز والسدود، وقد يتغير الذوق بين الأمتين المتجاورتين، وقد يتغير في الأمة الواحدة بين جيلين، ولكنه آخر الأمر كاختلاف الأجواء في الكوكب الواحد: صيف وشتاء، ودرجات من الحر والبرد ومن النور والظلام، لا يتحدث المتحدث بها عن شيء مجهول بين قطبيه.
فلم يبلغ اختلاف الذوق في فهم شكسبير وتمثيله أشد مما بلغ في المسرح الإنجليزي من منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، فإن هذا المسرح قد انقسم يومئذ إلى معسكرين ونشبت بينهما معركة فنية سميت بمعركة روميو وجولييت، كان مدارها على تمثيل الرواية بنصها أو تعديل بعض مناظرها وفقراتها وتحويل منظرها الأخير إلى «خاتمة سعيدة» تخرج الرواية من عداد المآسي المحزنة كما وضعها شكسبير، وظلت هذه الرواية تمثل للمتكلمين بالإنجليزية على نصوص متعددة إلى سنة 1847 التي أعيدت فيها الرواية إلى نصوصها ومناظرها كما مثلها مؤلفها على مسرحه، ولم يحدث بين ذوقين في المشرق والمغرب أن يفترقا في فن العرض والإخراج أبعد من هذا الافتراق.
Unknown page