أبطال الرواية‏

مراجع رواية شجرة الدر‏

1 - فذلكة تاريخية‏

2 - في جزيرة الروضة‏

3 - عز الدين أيبك‏

4 - أول ملكة للمسلمين‏

5 - خلع شجرة الدر‏

6 - ركن الدين‏

7 - في بغداد‏

8 - مؤيد الدين وهولاكو‏

9 - بين المستعصم وهولاكو‏

10 - شوكار في دار النساء‏

11 - ركن الدين في بغداد‏

12 - نهاية الدولة العباسية‏

13 - موت شجرة الدر وعز الدين‏

14 - الإمام أحمد بن الظاهر‏

15 - التتر يخربون بغداد‏

أبطال الرواية‏

مراجع رواية شجرة الدر‏

1 - فذلكة تاريخية‏

2 - في جزيرة الروضة‏

3 - عز الدين أيبك‏

4 - أول ملكة للمسلمين‏

5 - خلع شجرة الدر‏

6 - ركن الدين‏

7 - في بغداد‏

8 - مؤيد الدين وهولاكو‏

9 - بين المستعصم وهولاكو‏

10 - شوكار في دار النساء‏

11 - ركن الدين في بغداد‏

12 - نهاية الدولة العباسية‏

13 - موت شجرة الدر وعز الدين‏

14 - الإمام أحمد بن الظاهر‏

15 - التتر يخربون بغداد‏

شجرة الدر

شجرة الدر

تأليف

جرجي زيدان

أبطال الرواية

شجرة الدر:

زوجة الملك الصالح.

شوكار:

جارية شجرة الدر.

عز الدين أيبك التركماني:

قائد الجيش.

ركن الدين بيبرس:

أحد أمراء الجيش.

سلافة التركية:

جارية الملك الصالح.

سحبان:

تاجر أقمشة من بغداد.

المستعصم بالله:

آخر الخلفاء العباسيين ببغداد

الأمير أحمد (أبو بكر):

ولي عهد المستعصم

بالله.

هولاكو التتري:

حفيد جنكيز خان.

مؤيد الدين بن العلقمي:

وزير المستعصم

بالله.

مراجع رواية شجرة الدر

هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في سرد حوادث الرواية، وكان شديد الحرص على أن

تكون وقائعها الرئيسية صحيحة.

حسن المحاضرة للأسيوطي.

تاريخ ابن إياس.

الهلال مجلد 19.

تاريخ الفخري.

سيرة الملوك.

معجم ياقوت.

تاريخ ابن جبير.

تاريخ مصر الحديث لجرجي زيدان.

الفصل الأول

فذلكة تاريخية

فرغنا من رواية صلاح الدين وقد دخلت مصر في حوزته، وبنى بها قلعة القاهرة وجعلها كرسي

ملكه، ثم توارثها السلاطين من أولاده وإخوته وأولادهم وأحفادهم، واقتسموا فيما بينهم ملك

مصر والشام، حتى أفضت السلطنة بمصر سنة 637ه إلى الملك الصالح بن الكامل، فأكثر من اقتناء

المماليك الأتراك، وجمع منهم نحو ألف مملوك، بنى لهم قلعة في جزيرة الروضة أسكنهم فيها، وجعلها سرير ملكه بدلا من قلعة القاهرة، ونقل إليها أهله وحاشيته ومماليكه.

وفي أيامه حمل الصليبيون على مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وكان الملك الصالح مريضا

فما علم بأمر هذه الحملة حتى أمر بالتجنيد والاستعداد للحرب، لكن الصليبيين استولوا على

دمياط بخيانة بعض أهلها وفرار بعض أمرائها، وتوفي الملك الصالح على أثر ذلك، وخلفه ابنه

غياث الدين طوران شاه، الذي لقب بالملك المعظم، ولكن النفوذ كان لشجرة الدر؛ إحدى جواري

الملك الصالح، وهي التي دبرت أمور الدولة بعده، وكتمت موته حتى جاءوا بابنه غياث الدين من

سورية وبايعوه سنة 647ه.

وعاد المصريون لمحاربة الصليبيين، ففازوا وردوهم على أعقابهم بعد معارك شديدة، وأسروا

الملك لويس التاسع وكثيرا من ضباطه وجنده.

ووقع الخلاف بعد ذلك بين رجال الملك المعظم غياث الدين ومماليك أبيه الملك الصالح، فخرج

هؤلاء المماليك عليه، فخاف وأراد الفرار، ولكنهم قبضوا عليه وقتلوه شر قتله قرب فارسكور، ثم

أجمعوا أمرهم على مبايعة شجرة الدر، وهي أول امرأة تولت الملك في الإسلام. وقام التنازع على

السيادة بينها وبين بعض الأمراء المماليك وبين بقية الدولة الأيوبية وغيرهم من طلاب

السيادة، وأفضت السلطة أخيرا إلى المماليك الأتراك وتوارثوها، وفي أيامهم سطا التتر على

بغداد بقيادة هولاكو، وقتلوا الخليفة المستعصم، وانتقلت الخلافة إلى مصر مما سترى تفصيله في

هذه الدولة إن شاء الله.

الفصل الثاني

في جزيرة الروضة

- ما أجمل ضوء القمر يا شوكار! - إنه جميل يا سيدتي، وليس أجمل منه إلا الجلوس بين يديك والتمتع بحديثك. - إنك تتملقينني يا شوكار ولا تقولين الحق. من منا أكثر تمتعا بصاحبتها: أأنا وليس في

حديثي إلا المتاعب والمشاكل السياسية، أم أنت وقد وهبك الله كل ما تتطلبه الغانيات من

الجمال والذكاء ورخامة الصوت ولطف العشرة؟! وأنت في مقتبل العمر وأنا في حدود الكهولة، وقد

أناخ علي الدهر بأثقاله ومشاكله.

فخجلت شوكار من هذا الإطراء وبادرت إلى الجواب قائلة: «العفو يا سيدتي، إنك تخجلينني بهذا

الإطراء، ومن أكون أنا حتى أعد شيئا مذكورا بجانب مولاتي شجرة الدر، محظية الملك الصالح -

رحمه الله - وأم والده؟! وقد خصك الله بمواهب لم يخص بها أحدا من البشر سواك . ليس في النساء

يا سيدتي امرأة تطمع في بعض ما نلته. زادك الله رفعة و...»

فبادرت شجرة الدر إلى قطع حديث جاريتها شوكار بأن وضعت يدها على فمها بلطف وهي تبتسم لها،

وفي ابتسامها انقباض، وقد أبرقت عيناها من عظم التفكير، ثم تنهدت تنهدا عميقا وقالت: «تحسدينني على ما تتوهمينه في من رفعة القدر؟ من هنا يأتي سبب شقائي.» قالت ذلك وأطرقت وهي

مقطبة الوجه، فتهيبت شوكار النظر إليها، ولم تجبها.

وكانت شجرة الدر جالسة على مقعد من الأبنوس، في شرفة بأحد قصور الملك الصالح التي بناها

في جزيرة الروضة، تطل على مجرى النيل إلى مسافة بعيدة. وجزيرة الروضة من أجمل جزر النيل بين

مصر القديمة والجيزة، وطالما اتخذها الملوك متنزها، وقد جعلها مولاها الملك الصالح سريرا

لملكه بدلا من القلعة حيث كان أسلافه يقيمون. وأنشأ في هذه الجزيرة قلعة فخمة عرفت بقلعة

المقياس، نسبة إلى مقياس قديم للنيل، وسموها أيضا قلعة الروضة أو القلعة الصالحية. وكان في

موضع هذه القلعة أبنية كثيرة فيها القصور والمساجد والمعابد، ودور الصناعة لبناء السفن،

والهودج الذي بناه الآمر بأحكام الله الفاطمي لجاريته، واشتهر أمره، فهدم الملك الصالح كل

هذه الأبنية، وبنى القلعة مكانها، وأنفق عليها أموالا طائلة، وفي جملة ما بناه قصور ومسجد،

نقل إليها العمد والأساطين الصوان والجرانيت والرخام من الهياكل القديمة، وغرس فيها الأشجار

والرياحين، وبنى فيها ستين برجا شحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال

والأقوات؛ خوفا من محاصرة الإفرنج؛ لأنهم كانوا على عزم غزو مصر. وبالغ في إتقان تلك

الأبنية حتى قيل إن الحجر الواحد من أحجارها كلفه دينارا. وكان يقف بنفسه ويرتب العمل،

فلما تم بناؤها نقل إليها أهله ونساءه وجواريه، وفرق فيها مماليكه، وعددهم نحو ألف مملوك.

وأنشأ خارج القلعة بناء عظيما جمع فيه أصناف الوحوش من الأسود والنمور وغيرها.

وكانت شجرة الدر في جملة جواريه، وقد أنجبت ولدا اسمه خليل، فقربها منه، كما كانت هي على

جانب عظيم من الدهاء والذكاء، فنالت نفوذا عظيما عنده، فلما مات في المنصورة سنة 647ه.

كتمت أمره، وقامت بأمور الدولة، وكانت توقع على الأوامر بتوقيعه خوفا من الفشل وهم في حرب

مع الصليبيين، لكنها أسرت الخبر إلى كبار الأمراء، ولا سيما عز الدين أيبك التركماني، وكانت

بينه وبينها مودة، فبعث أعيان الأمراء إلى غياث الدين بن الملك الصالح، فاستقدموه من حصن

كيفا وولوه عليهم وواصلوا محاربة الصليبيين.

أما شجرة الدر فإنها عادت إلى تلك القلعة وأقامت فيها، وفي خاطرها أشياء لم تطلع عليها

أحدا، ورغم ثقتها العظيمة بشوكار لم تفاتحها بشيء منها. وفي تلك الليلة المقمرة جاشت

أشجانها وأرقت لسبب تعلمه هي ولا يعلمه سواها. وكانت كثيرة الاستئناس بشوكار جاريتها؛ وهي

جميلة الطلعة، رخيمة الصوت، تتقن العزف على العود. فلما أرقت دعتها إليها للاستئناس بها

واللهو بصوتها. واتشحت شجرة الدر بثوب بسيط، والتفت بمطرف من الخز، وجلست على الشرفة وأطلت

على مجرى النيل، وقد سكنت الطبيعة وهدأ النسيم إلا ما يعبث منه بشعرها المرسل على ظهرها وقد

ضمته وأرسلته بلا اعتناء. ولم تحسن ارتداء مطرفها، حتى ليخيل إلى الناظر إليها أنها في شاغل

مهم، ناهيك بما في عينيها من دلائل القلق حتى يكاد الشرر يتطاير منهما لفرط ما جاش في

خاطرها من البلبلة. وهي امرأة ليست كسائر النساء؛ فلها قلب الرجل ومطامع كبار الرجال، إذا

عزمت على أمر فلا تبالي ما يقف في سبيلها من العقبات؛ لأنها تذللها بأية وسيلة كانت، كما

يفعل عظماء الرجال وأرباب المطامع.

وكانت شوكار جاريتها الخاصة فتاة تركية مثلها، ما زالت في مقتبل العمر، فأحبتها واتخذتها

مستودع أخبارها وأسرارها، وإن كانت لفرط دهائها لا تفتح قلبها لأحد أو تأمنه على أسرارها

المهمة؛ ولذلك كان كبار المماليك يهابونها ويحسبون لها حسابا، وقد استولت على قلوبهم

تهيبا وإعجابا. •••

خرجت شجرة الدر تلك الليلة من قصر الملك الصالح أجمل قصور تلك الجزيرة وأثمنها رياشا

وزخرفا، ومعها جاريتها شوكار، ومشت في ممر مسقوف يؤدي إلى شرفة تطل على النيل، فجلست على

أريكة مغشاة بالديباج المزركش ، وجاريتها تعزف على العود وتغني لها أصواتا تعودت أن تطلب

إليها إنشادها، وهي مستغرقة في هواجسها تنظر إلى النيل وهو يبدو كالفضة اللامعة من تكسر نور

القمر على سطحه، ولولا ما يتخلل بياضه من التموج والارتعاش لم تشك أنه فضة خالصة، أو أنه

مرآة صافية، وكانت مراياهم تصنع من الفضة المصقولة بدل الزجاج اليوم.

وكأنها أحست بطول سكونها واشتغالها عن غناء شوكار، فأجالت بصرها في الفضة المقابلة من

النيل في بر الجيزة، وقد بدت فيها النخيل صفوفا أرسلت رءوسها في الفضاء كأنها أسراب من

العذارى يحملن المظلات وقد وردن الماء، فلما أشرفن على ضفاف النيل تهيبن فوقفن خاشعات ينظرن

إلى مجراه، وبانت ظلال النخيل في الماء، وأكسبها النيل حركة اهتزازية كأن أولئك العذارى

نزلن للاغتسال فارتعدت أجسامهن من البرد أو من الحياء. ووراء النخيل تراءى الهرمان كأنهما

جبلان وقد انتصرا على طوارئ الحدثان، فأرادت شجرة الدر أن توهم جاريتها أنها سكتت تهيبا

للطبيعة الجميلة فقالت لها: «ما أجمل ضوء القمر يا شوكار!»

فسرت شوكار لأن سيدتها قد سري عنها، وزادت امتنانا لما سمعت إطراءها صوتها. لكنها ما

لبثت أن رأتها عادت إلى الانقباض وأخذت تشكو من حالها، وإن ما تغبطها عليه من النعيم إنما

هو سبب شقائها. فانقبضت نفس شوكار، وألقت العود من يدها، وتقدمت حتى جثت عند قدمي سيدتها،

وقبلت ركبتها وقالت: «ما الذي يشغلك يا سيدتي؟ وهل أنت لا تثقين بي، مع أني مستودع أسرارك،

وليس لي شاغل سواك؟»

وشرقت بريقها من عظم التأثر، فابتسمت شجرة الدر لها ووضعت يدها على رأسها وجعلت تعبث بشعر

الفتاة وبوجهها كأنها شاب يداعب فتاة يحبها، وشوكار مطرقة يلذ لها ذلك؛ لأنه دليل ارتياح

مولاتها إليها، وهان على شجرة الدر أن تصارح جاريتها ببعض هواجسها، وهي تحسبها خالية الذهن

من أمرها، وتحسب سرها مكتوما عنها كل الكتمان، وذلك من الأوهام الشائعة عند أصحاب الأسرار.

يكتم المحب حبه، ويلذ له كتمانه، لتوهمه أنه لا يعلم به أحد سوى حبيبه، وقد يكون ذلك الحب

حديث الجيران والخدم ليل نهار، وقس على ذلك أكثر الأسرار ولا سيما ما كان منها يتعلق

بالعامة، فإنه لا يخفى عليهم، لكنهم يسكتون عنه فيتوهم صاحبه أنه سر مغلق على الناس كافة.

وهب أنه يخفى على الجيران، فهو لا يخفى على الخدم والجواري؛ لأن هؤلاء لا شاغل لهم غير

استطلاع الأسرار والتوسع فيها والتكهن بما يكون من أمرها، لكنهم في الغالب يشوهون الحقيقة

بما تصوره لهم أفكارهم وميولهم.

فكانت شوكار على بينة من هواجس سيدتها وإن لم تصب الحقيقة تماما، لكنها تجاهلت وطلبت إلى

شجرة الدر أن تكاشفها بسرها، فقالت لها شجرة الدر: «لست أخفي عليك سرا كما تعلمين، لكن ما

أكتمه ليس مما يهمك الاطلاع عليه.»

فقالت: «لا أطلب الاطلاع عليه لأنه يهمني، لكنني أطلب ذلك لعلمي أن الإنسان إذا اشتكى ما

يكابده لشخص يحبه ويثق به، فإن وطأة ذلك السر تخف عنه.»

فضحكت شجرة الدر على سبيل المداعبة وقالت: «يظهر يا بنية أنك قد جربت الأسرار ولذة

المكاشفة.»

فأطرقت خجلا وقالت: «وليس عندي أسرار أكتمها أو أبوح بها، وليست أسراري مما يصح الاهتمام

به. لكني أعرف ذلك عن سواي، فهل أنا مخطئة يا سيدتي؟»

قالت: «كلا، إنك تقولين الصواب. ولكن دعينا من ذلك الآن وأطربينا بشيء من غنائك الرخيم.»

لم تعتبر شوكار ذلك الرفض مقصودا لأنها قرأت عكسه في عيني سيدتها شجرة الدر - والعينان

أصدق من اللسان - فاستأنفت الكلام قائلة: «إني طوع إرادتك يا سيدتي، لكني أحب تخفيف قلقك.»

فأحبت شجرة الدر أن تكون جاريتها البادئة بالحديث، فقالت لها: «ماذا تظنين سبب قلقي؟»

قالت: «من أين لي أن أعلم ذلك؟ ليس فيما أعلمه من أحوالك إلا ما يوجب السرور والفخر، حتى

فيما له علاقة بالقلب، أعلم أنك قد نلت منه ما لم ينله سواك. إن الأمراء كافة يتمنون رضاك،

ويعدون التفاتك نعمة، ويكفي لاكتساب قلب أحدهم أن تنظري له نظرة رضا، على أنك في غنى عن ذلك

بموقعك الجميل من قلب مولاي عز الدين أيبك، وهو كبير الأمراء ، ويتمنى لفتة منك و...

فلما سمعت شجرة الدر اسم عز الدين تصاعد الدم إلى وجنتيها، وقطعت كلام جاريتها وهي تظهر

عدم الاهتمام وقالت: «ليس هذا الأمر مما يهتم له أمثالي يا شوكار، وإنما هو للفتيات

أمثالك.» •••

وأظهرت شوكار أنها صدقت سيدتها، مع أنها تعلم حق العلم بما بينها وبين عز الدين أيبك

التركماني كبير الأتراك من صلات المحبة، ثم حولت كلامها إلى موضوع آخر وقالت: «اصفحي يا

مولاتي عن جرأتي واغفري لي خطئي، فلعل شواغلك تتعلق بأحوال الدولة، على أثر وفاة سيدي الملك

الصالح، رحمه الله.»

فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «نعم، نعم؛ إنها تتعلق بما نحن فيه من الخطر، والحرب قائمة

بيننا وبين الإفرنج في المنصورة وفارسكور.»

فقالت: «ولكن الأخبار الواردة علينا حسنة على ما أعلم. ألم يأتنا الطائر مبشرا بالنصر،

ثم حمل إلينا الرسول خبر انتصار جنودنا على الفرنسيس، وأنهم قتلوا منهم ثلاثين ألفا،

وأسروا ملكهم لويس، وحبسوه في دار ابن لقمان ... ثم جاءنا رسول يحمل رسالة أخرى، وعليه ثوب ملك

الإفرنج نفسه، وهو المخمل الأحمر بفرو سنجابي وقلنسوة من ذهب. وقد زينت له القاهرة زينة لم

يسمع بمثلها؟ أم أنت تظنين ذلك غير الواقع؟»

قالت: «بل هو الواقع عينه.»

قالت: «إذن ما الذي يقلقك يا سيدتي؟»

فتنهدت وقالت: «لقد أحرجتني يا شوكار، فلا بد من إطلاعك على بعض الخبر؛ إن قلقي ليس خوفا

من الإفرنج، فإن جندنا كلهم أشداء - ولا سيما هؤلاء الأتراك الذين بنى لهم مولانا الملك

الصالح هذه القلعة - وقد ظهرت بسالتهم في الحرب التي ذكرتها، ولكنني أخاف الانقسام بين

جندنا من سوء تصرف الملك المعظم طوران شاه!» قالت ذلك وهزت رأسها هز الأسف.

فقالت شوكار: «هل تأذن مولاتي بكلمة، وإن كنت لا أفهم شيئا من أحوال الدولة ولا شأن لي

بتدبير المملكة؟ أظنكم أخطأتم باستقدام هذا السلطان من حصن كيفا وتوليته السلطة، وعندكم من

الأمراء من هو أكفأ منه.»

فقالت: «ولكن الناس لا يذعنون للسلطان إلا إذا كان من الأسرة المالكة، أسرة آل أيوب،

ولولا ذلك لهان الأمر . ولو كان طوران شاه هذا عاقلا لاستقام الأمر، ولكنه غلام جاهل أحمق

يشرب الخمر، فإذا سكر فعل ما لا يفعله الأطفال؛ بلغني أنه يصف الشموع في الليل أمامه، ويأخذ

السيف بيده ويضرب به تلك الشموع ويقول: «هكذا أفعل بالمماليك البحرية»، يعني مماليكنا

الأتراك. وما برح منذ جاءنا - ولم يمض عليه شهران - يفضل مماليكه الأكراد الذين أتوا معه

على مماليكنا، ويعرض بذلك في مجالسه، مع أن النصر في حروب الإفرنج إنما كان بفضل أبطالنا،

ولا سيما عز الدين وركن الدين بيبرس وسيف الدين قطز وأمثالهم. فأخاف أن يطول النزاع ويغتنم

العدو تفرقنا فيكر علينا!» وسكتت لحظة وهي مطرقة، ثم بلعت ريقها واستأنفت الحديث قائلة: «ولكنني دبرت تدبيرا إذا أفلح سلمنا من الخطر!» ثم نهضت، وأظهرت أنها في شاغل خوفا من أن

تستزيدها شوكار بيانا وهي لا تريد كشف التدبير لها.

أدركت شوكار غرض سيدتها، لكنها تشاغلت بإصلاح العود وهي تنظر إلى النيل، لكنها ما لبثت أن

لحظت عن بعد اضطراب صفحة الماء، فتطلعت فإذا هي ترى شبحا كبيرا سابحا قادما من الشمال،

ولم تتمالك حين تبينته أن صاحت: «هذه سفينة قادمة إلينا، لا بد لقدومها في هذا الليل من أمر

مهم!»

وكانت شجرة الدر تتشاغل بإصلاح شعرها، فلما سمعت صيحة شوكار التفتت نحو السفينة وصاحت: «هذه عشارية عز الدين، ما الذي جاءنا به يا ترى من الأخبار؟» قالت ذلك وهرولت وهي تلتف

بالمطرف، وتبعتها شوكار في مثل دهشتها نحو المرفأ.»

وكان للروضة مرفأ جميل تقف عنده السفن منذ كانت فيها دار الصناعة، ومن هذا المرفأ إلى

داخل القلعة طريق مختصر. لكن شجرة الدر - بعد أن دفعتها الدهشة إلى طلب المرفأ - عادت إلى

رشدها وتراجعت، وأظهرت أنها ذاهبة إلى الإيوان الكبير الذي كان الملك الصالح يستقبل فيه

الوفود والأمراء والوزراء.

كان ذلك الإيوان من أفخر الأبنية، بذل الصالح جهده في إتقانه وزخرفته، وهو قاعة كبيرة

قائمة على أساطين الرخام، وقد زين سقفها بالصور المذهبة والنقوش من النوع المعروف بالمقرنص ،

وعلى جدرانها كتابة جميلة بصفائح الذهب والرخام الأبنوسي والكافوري والمجزع، مما يبهج

النفوس ويستوقف الأبصار.

ولم تدخل شجرة الدر هذا الإيوان منذ شهرين وبعض الشهر بعد أن توفي الملك الصالح، فاضطرت

لإخفاء اضطرابها أن تنزل إليه، فأمرت بعض الخصيان أن يفتحه ودخلت وشوكار وراءها وقد أدركت

قلقها وتوهمت أنها تريد الخلوة هناك، فتراجعت عند الباب وقالت: «أستأذن في الانصراف يا

سيدتي.»

قالت: «إلى أين؟» قالت: «إلى حيث تأمرين. وإنما أخاف أن يكون في وجودي ما يثقل عليك.»

فأشارت إليها أن تدخل وقالت: «تعالي يا شوكار، لا ينبغي أن أخفي عليك شيئا.» فدخلت،

وجلست شجرة الدر على سرير من الذهب في صدر الإيوان كان يجلس عليه الملك الصالح، وأشارت إلى

شوكار فجلست على كرسي مذهب بين يديها، وقد أضيء الإيوان بالشموع وظهرت نقوشه الجميلة. وتأملت

شوكار في سيدتها وهي جالسة على سرير الملك وضحكت، فلحظت شجرة الدر ضحكها وسألتها: «ما بالك

تضحكين يا شوكار.» قالت: «إني مسرورة يا سيدتي من جلوسك هنا، وقد استبشرت به خيرا. إن هذا

المجلس لائق بك!»

فخفق قلب شجرة الدر لهذه البشرى؛ لأنها كانت راغبة في السيادة، وهي أهل لها، لكنها أنكرت

ذلك على شوكار، وأظهرت أنها تستبعد هذا الأمر وأنها ليست أهلا له، وشغلت نفسها باستدعاء

قيم تلك الدار. فلما حضر أمرته أن يذهب إلى المرفأ، وإذا جاء أحد برسالة فليأت بها إليها

في ذلك الإيوان.

وجلست وهي تظهر الجلد، لكنها كانت على مثل الجمر من القلق. وجلست شوكار بين يديها تشاغلها

بالحديث عما في تلك القاعة من التحف، وما أنفقه الملك الصالح في تلك الأبنية، وهذه تظهر

الاهتمام بالموضوع وتقص عليها ما رأته من عناية الملك الصالح بإتقان ذلك البناء.

وبينما هما في ذلك، إذ سمعت شجرة الدر صوت نفير من بعيد، فعلمت أنه إشارة وصول السفينة إلى

المرفأ، فخفق قلبها وظهر القلق في وجهها ولحظت شوكار ذلك ولكنها تجاهلته. ولم يمض وقت يسير

حتى جاء الغلام يقول: «إن الأمير ركن الدين بيبرس بالباب .»

فقالت شجرة الدر : «ليدخل.»

فدخل شاب طويل القامة، قد تزمل بعباءة تغطيه كله، ثم نزع العباءة فإذا هو جميل الخلقة

صبوح الوجه عليه هيبة الشيوخ ونضارة الشباب، لم يتجاوز عمره يومئذ 23 سنة، وعليه الدرع

والخوذة كأنه في ساحة الحرب التي قدم منها. فلما دخل حيا شجرة الدر تحية لم تحي بمثلها من

قبل، ففهمت ما عناه لكنها تجاهلت وقالت: «ما وراءك يا ركن الدين؟»

فالتفت يمينا وشمالا كأنه يحاذر أن يسمعه أحد. فأدركت أنه يحمل سرا لا يحب أن يفوه به

جهارا، فأشارت إلى الخدم بالخروج واحتفظت بشوكار، وأشارت إليه أن يتقدم نحوها، فتقدم

فقالت: «ما وراءك أيها الأمير الشاب؟ قل ولا بأس من وجود عزيزتي شوكار، بل لا بد من وجودها، فهي التي طالما أعجبت بشهامتك. قل، ما وراءك؟»

فاستغربت شوكار ما روته شجرة الدر عنها من أنها معجبة بركن الدين، ولم تجد باعثا على ذلك

في تلك الساعة فسكتت، واتجهت بكلتيها لسماع ما يلقيه ركن الدين. أما هو فلما سمع قول شجرة

الدر عن إعجاب شوكار به التفت إليها فوجدها في غاية الجمال واللطف، وفي عينيها معنى جمع بين

الذكاء والسحر. وكان يسمع برخيم صوتها لأن ذلك كان شائعا في القصر. لكنه توجه نحو شجرة

الدر وقال: «إن ورائي أمرا ذا بال وخبرا مهما لا أدري أيسر مولاتي أم يسوءها.»

فأجفلت ونظرت في عينيه باهتمام وقالت: «قل ما هو، ولا يهمك ساءني أم سرني، فإني لا أتوقع

من هذه الدنيا سلامة.»

فقال: «إن الملك المعظم طوران شاه بن مولانا الملك الصالح قد لاقى أجله في هذا الصباح،

وبعثني مولاي الأمير عز الدين أيبك لأنقل هذا الخبر إليك ريثما يصل هو إلى هنا في صباح

الغد، ولم يشأ أن يرسله مع الطائر مبالغة في الكتمان، لكنه دفع إلي هذه البطاقة الصغيرة

مختومة، وأمرني أن أدفعها إليك يدا بيد.» قال ذلك واستخرج من جيبه بطاقة دفعها إليها.

فلما سمعت شجرة الدر بموت طوران شاه بانت الدهشة في عينيها، لكنها تجلدت وتناولت البطاقة

وفضتها ، واقتربت من المصباح وقرأتها فإذا فيها: «أما بعد، فإني مسرع في إرسال البشارة بذهاب

ذلك الشاب المغرور إلى سبيله، على كيفية يقصها عليك الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري حامل

هذه البطاقة إليك. وقد كان لهذا الأمير النصيب الأكبر من العمل في هذا السبيل وهو يستحق

التفاتك. وعندي خبر آخر سأتلوه عليك في الغد شفاها، إن شاء الله.»

قرأت البطاقة لنفسها وعادت إلى مخاطبة ركن الدين كأنها لم تقرأ شيئا فقالت: «أنت على ثقة

من قتل الملك المعظم؟»

قال: «نعم يا سيدتي، كل الثقة.»

قالت: «هل قتل سرا؟»

قال: «كلا يا سيدتي، إنه قتل جهارا.» قالت «من قتله؟»

قال: «نحن قتلناه؛ لأنه لم يترك للصالح مكانا، وقد بالغ في الطيش والهوج، وكرر مغاضبتنا

وأسمعنا الإهانة، ولم يعجبه المماليك البحريون، مماليك أبيه الملك الصالح، وكلما ذكروا

أمامه استخف بهم، مع أنهم أصحاب السيف حماة هذه الدولة، وهم الذين ردوا الإفرنج عن هذه

البلاد. وقد صور له طيشه أنه الفاعل لما يريد، وأننا حشرات لا يعتد بنا، حتى بلغنا أنه كان

يصف الشموع ويأخذ رءوسها بالسيف ويقول إنه هكذا سيفعل بنا، وقد صبرنا على ذلك، حتى بلغنا أن

هذا لا يرضي مولاتنا أم ولد الملك الصالح، رحمه الله، فأضمرنا له السوء، فلما كان صباح اليوم

جلس في موكبه والأمراء والأكراد وأصحابه بين يديه، ورءوس النواب واقفون أمامه بعصي كسيت

بالذهب، كأنه يقول لنا: «إني سلطانكم رغم أنفكم»، فصبرنا عليه حتى مضى الموكب وبقي وحده وحضر

السماط فجلس عليه على العادة، فتقدم إليه جماعة منا بأيديهم السيوف وضربوه على أصابعه

فقطعوها، فقام وهرب ودخل البرج الخشبي، وأغلق عليه بابه، فأطلقنا النار على البرج، فخرج منه

وألقى نفسه في البحر وصار يسبح فيه والنشاب يأخذه من كل ناحية وهو يقول: «خذوا ملككم ودعوني

أرجع إلى حصن كيفا»، فلم يغثه أحد. وما زال على ذلك حتى قتل، فكأنه مات حريقا غريقا

قتيلا، فأخرجناه من البحر وتركناه على الصعيد وسيبقى كذلك حتى لا يعرف له قبر.» •••

كان ركن الدين يقص خبر مقتل طوران شاه، وشجرة الدر مصغية لا تبدي حراكا، لكن الاهتمام

باد في عينيها، فلما فرغ من كلامه قالت: «مات طوران شاه! رحمه الله، إنه أخطأ في تصرفه ولم

يحسن سياسة الملك الذي أعطيناه إياه. وكل من لا يسوس الملك يخلعه!» ثم نظرت إلى ركن الدين

وقالت: «وهل عندك خبر آخر غير هذا؟»

قال: «عندي خبر سيتلوه عليك مولاي الأمير عز الدين أيبك في صباح الغد.»

قالت: «لعله خبر مهم؟»

قال وهو يبتسم: «أظنه كذلك.»

فأدركت شيئا من مراده لكنها حولت الحديث وقالت: «لم تخبرني عن القواد الأبطال الذين

فتكوا بالملك المعظم. هل أنت منهم؟»

قال: «نعم، إني أصغرهم شأنا، وقد فعلت ذلك بأمر مولاي الأمير عز الدين.»

فأعجبها تواضعه واحتشامه، فقالت: «أراك تتنصل كأنك تعد هذا العمل جريمة وعارا، إنه عمل

عظيم يحق لك الافتخار به، وقد نجيت البلاد من الخراب؛ لأن هذا الملك لم يكن أهلا للسلطة،

ولو طال مكثه في هذا المنصب لجر علينا الدمار، فلا تخف. وقد أنبأني عز الدين ببلائك، وأنا

طالما توسمت فيك البسالة والإقدام، وسيكون لك شأن عظيم، فإذا صدق توسمي فيك أهديتك أثمن ما

عندي.» قالت ذلك ونظرت إلى شوكار وضحكت، فأدركت شوكار غرضها، فغلب عليها الحياء لأنها لم

يخطر ببالها حب أحد. وقد كفاها من نعم المولى أن تكون حائزة رضا سيدتها شجرة الدر، فلما

سمعت تلميحها تصاعد الدم إلى وجنتيها وأطرقت، وودت لو أنها بالنقاب لتغطي وجهها، ولكنها لم

تكن تنتقب بين أيدي الأمراء.

أما ركن الدين بيبرس فأعجبه إطراء شجرة الدر شجاعته، وكان يسمع بحسن شوكار ولطفها وجمال

صوتها، ولم يكن يتوقع أن يأتي يوم ينالها فيه، فلما رأى شجرة الدر اشترطت في نيلها أن يصدق

توسمها فيه، لم يدر بماذا يجيب، فقال أخيرا: «أشكر لمولاتي حسن ظنها بعبدها، وأرجو أن أكون

أهلا لثقتها، وفي كل حال إني رهين إشارتها وما تأمرني به، وأفديها بروحي.»

ففرحت شجرة الدر بهذا التصريح؛ لأنها إنما أرادت أن يكون طوع إرادتها لتستخدمه في أغراضها

لما رأته فيه من البسالة ورباطة الجأش.

ولما سمعت شوكار جواب ركن الدين أحست بشيء لم تحس بمثله قبلا، وبأن التأثر في عينيها،

وخفق قلبها خفقانا لم تعرفه من قبل. لكنها أطرقت وظلت ساكتة.

وأما شجرة الدر فقد سرها ما وفقت إليه من مقتل الملك المعظم؛ إذ هي التي أمرت المماليك أن

يقتلوه، ولولا ذلك لم يجسروا على قتله. وقد أغراهم على ذلك عز الدين أيبك حبيبها، وهو كبير

قواد المماليك. وكان لركن الدين بيبرس اليد الطولى في هذا العمل، وكانت قد سمعت من عز الدين

عن بسالته وتفانيه في طاعته وطاعتها، فأرادت أن تزيد إخلاصه في طاعتها فوعدته بشوكار. فلما

لحظت تعلق آماله بها تحركت في مجلسها كأنها أرادت استئناف الحديث، فقالت: «ومتى يصل إلينا

الأمير عز الدين؟»

قال: «أظنه يصل في صباح الغد، وسيأتي معه سائر الأمراء والعسكر، وسيحدث تغيير عظيم في

أمور الدولة. وقد حفظ الأمير عز الدين حق هذه البشارة لنفسه وهو كبيرنا ومولانا.»

فضحكت شجرة الدر وهي تنهض عن السرير وقالت: «أظنك نلت جائزة حسنة، وإنما أرجو أن تحقق

ظني فيك يا ركن الدين.»

فأدرك أنها تصرفه، فتحول وهو يلتفت إلى شوكار لفتة الوداع وهي لا ترفع بصرها إليه، لكنها

رأته ورآها وتفاهم النظران وتناجى القلبان. وما أسرع تناجيهما إذا توافقت الطباع!

خرج ركن الدين وقد شغله ذلك الوعد عن دهشة الخبر الذي حمله من فارسكور إلى القاهرة، وما

يرجى أن يحدث من التغيير في أمور الدولة بسببه، سار توا إلى برج من أبراج القلعة كان يقيم

فيه مع بعض المماليك من رفاقه.

الفصل الثالث

عز الدين أيبك

مشت شجرة الدر - بعد أن توارى ركن الدين - نحو شوكار وهي تجر مطرفها وراءها، فنهضت لها

احتراما، وأطرقت شكرا، وهي لا تدري أأحسنت إليها بذلك الوعد أم أساءت. ولم تستقر أفكارها

لتحكم في الأمر، فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «أرجو أن تكوني مسرورة من هذا النصيب يا شوكار.»

فرفعت بصرها والخجل يغشاه، فرأت شجرة الدر تنظر إليها نظر المداعب فأجابتها: «يظهر أن

سيدتي ملت رفقتي؟» وضحكت.

فقالت شجرة الدر: «لا، لكنني نظرت إلى مستقبلك، فمن كانت في مثل ما أنت فيه من الجمال

والعلم ورخامة الصوت يجب أن تنال نصيبا حسنا، وأنا على ثقة أن هذا الشاب الباسل من خيرة

الشبان، وله مستقبل مجيد، فإذا أخطأ ظني فيه ولم يكن الرجل الذي أرضاه لك لا أزوجك به. لا

تخافي؛ إني شديدة الغيرة على مصلحتك لأنك بمنزلة ولدي كما تعلمين. والآن ينبغي لنا أن نطلب

الرقاد فقد تعبنا.»

فقالت شوكار: «ولكن التعب جاء بنتيجة ترضينها يا سيدتي؛ إن الرجل الذي كنا نشكو منه قد

مضى لسبيله وعادت الأمور إلى مجاريها. فمن يا ترى سيتولى هذه السلطنة؟ أرجو ألا يعودوا إلى

بيت أيوب مرة أخرى. إن هؤلاء قد مضت أيامهم ولكل أيام دولة ورجال.»

فأظهرت شجرة الدر أنها خالية الذهن من أمر المستقبل، وأنها تتوقع أن تعرف الحقيقة في الغد

بعد مجيء عز الدين. فأكبت شوكار على يد سيدتها وقبلتها للوداع، فقبلت شجرة الدر رأسها.

وحالما خلت شجرة الدر بنفسها انصرفت من باب سري في الإيوان إلى قصرها وقد توسط الليل،

فلما صارت في غرفتها كان الخدم قد أناروها، وهي في أجمل ما يكون من الرياش، وعلى جدرانها

ستائر الديباج عليها الأبيات الشعرية أو الصور والنقوش بأزهى الألوان. وما كادت تدخلها حتى

استلقت على سريرها واستغرقت في هواجسها، وجعلت تناجي نفسها قائلة: «قتلوا طوران شاه - لا

أقامه الله - وقد قتل بسعي عز الدين حبيبي.» ولما ذكرت اسمه تنهدت وقالت: «هو حبيبي لكنه

سرير لا أظنه أمينا في حبه. وهؤلاء الرجال لا يؤمن جانبهم. ما لي وله؟! فليكن كما يشاء.

ألم يخدمني في هذا الأمر؟ ليس بعد قتل طوران شاه إلا أن يعود الملك إلى يدي. هكذا وعدني عز

الدين، فهل تراه قد بر بوعده؟ فإذا صرت ملكه فأنا أول ملكة في الإسلام، وسأجازي عز الدين

خيرا لأنه أخلص في خدمتي.»

قضت هزيعا من الليل في مثل هذه الهواجس، ولما نامت حلمت أنها تولت الملك وقبضت على

صولجانه، وذلك لفرط رغبتها في الملك مهما يكلفها الوصول إليه، فأنها من طلاب السيادة بأية

وسيلة كانت، وقد نبت ذلك في خاطرها منذ ولدت للصالح ابنها خليلا؛ لعلمها أنه سيكون وسيلة

إلى تحقيق مطامعها، أو أنه يكون هو السلطان وهي الوصية عليه، لكنه توفي طفلا.

وفي صباح اليوم التالي جاءتها الجارية الموكلة بتدبير غرفتها وقالت: «إن الأمير عز الدين

أيبك ينتظر في الإيوان يا سيدتي.»

فنهضت وأصلحت من شأنها، وبذلت جهدها في الزينة لتظهر بين يدي حبيبها في أجمل حالاتها.

وهذه طبيعة النساء على الإجمال، فكيف بمن تعلق على ذلك الحب غرضا سياسيا مهما؟ لبست

ثوبا مخططا معتم اللون، وضفرت شعرها ضفائر قليلة أرسلت منها اثنتين إلى جانب وجهها، وغطت

رأسها بغطاء مرصع بحجارة كريمة فوق الجبين له ذيل مزركش يغطي العنق من القفا حتى يسترسل على

الظهر. وقد تقلدت عقدين أحدهما من اللؤلؤ والآخر من العقيق وغيره، وتمنطقت بمنطقة مشبكها من

الذهب المرصع، وهي مع كونها على أبواب الكهولة لا يزال ماء الشباب يتلألأ في محياها، ولا

تزال عيناها ترسلان السحر إلى قلوب الناظرين، فتتملكهم الهيبة والقوة، لا اللطف والوداعة،

كما ينبعثان من عيني شوكار.

وكان عز الدين أيبك يشعر بقوة تلك المرأة وسيطرتها على قلبه ويحبها حب تهيب واحترام لا حب

شغف وتلهف. وزاده رغبة فيها ما كان يعلمه من منزلتها عند الملك الصالح وتقدمها في داره

ونفوذها عنده. فتودد إليها وبادلته هي حبا بحب، ووافق ذلك هواها لأنها مع مطامعها الواسعة

لا حول لها، وهي امرأة لا تطمع في قيادة جند تستعين بهم في نيل أغراضها، فرأت في ارتقاء عز

الدين إلى منصب كبير أمراء المماليك فائدة لها، فأعانته على نيل ذلك المنصب في زمن الملك

الصالح، وهو لم ينس هذا الجميل لها. ولما سنحت فرصة أخرى يخدمها فيها بقتل طوران شاه لم

يضيعها، وإن كان قد فعل ذلك لمصلحته أيضا.

فلما أتم عمله أمس أنفذ بعض الخبر مع ركن الدين واحتفظ ببقيته لنفسه ليتلذذ بسماع الإطراء

والإعجاب بدهائه وبسالته. وجاء في ذلك الصباح على جواده مع جماعة من حاشيته وقواده، ولم

يسترح إلا قليلا ثم جاء إلى الإيوان، وبعث إلى شجرة الدر لتوافيه. •••

لم تمض هنيهة حتى دخل الغلام يعلن قدومها، فوقف لها عز الدين، ثم أكب على يديها كأنه

يقبلهما، فأجفلت وأشارت إليه أن يجلس، وجلست هي على السرير وجلس هو بين يديها، وأمرت الخدم

بالخروج، ولما خلت به قالت: «أهل بك يا عز الدين، قد بلغنا بلاؤك في إنقاذ البلاد من ذلك

الغلام، جزاك الله خيرا، إنها خدمة للمسلمين.»

قال بلهفة المحب الولهان: «إنما فعلت ذلك خدمة لسيدتي وحبيبتي شجرة الدر وطوعا لأمرها.»

فأثر كلامه في خاطرها لأنها تحبه، فهاجت أشجانها وقالت: «إني أعرف هذا الجميل لك يا عز

الدين، وليست هذه هي المرة الأولى التي برهنت فيها على صدق مودتك، فأنا أسيرة ودادك.»

قال: «يكفيني منك لفتة رضا يا سيدتي، ولا سيما الآن بعد أن صرت ملكة المسلمين.»

فتظاهرت بالاستغراب وقالت: «ملكة المسلمين، ماذا تقول؟» قال: «أنت الآن ملكتي والقابضة

على قلبي وستصبحين غدا ملكة المسلمين وعصمة الدنيا والدين.» قالت: «وكيف ذلك؟ أفصح.»

قال: «لما قتل الملك المعظم أمس اجتمع الأمراء ودار الحديث على من يتولى السلطة بعده،

واختلفت الآراء، فقلت لهم: إننا لا نحب أن نستقدم أحدا من آل أيوب، وقد رأينا مصيرنا معهم،

وشدد آخرون في أن يكون السلطان من البيت الأيوبي، فقلت لهم نعمل عملا وسطا؟ نحن إنما

نحترم من الأيوبيين مولانا الملك الصالح - رحمه الله - ولا نأمن أحدا من أهله، وهذه أم

ولده خليل كانت من أعز الناس عنده، وهي عاقلة مدبرة، ومن أبناء جلدتنا وتغار علينا، فأرى أن

نوليها هذا المنصب. فرضي القوم بذلك، واتفق رأيهم على أن تكوني ملكة مصر. ألا يحق لي أن

أقبل يدك وأطلب رضاك؟»

قالت: «معاذ الله. أستغفر الله. إنك حبيبي وصاحب الفضل علي؛ لأني لولاك لم أحصل على هذا

المنصب. فإذا تم لي الملك فأنت صاحب النفوذ الأول فيه، فأدعوك مدبر الملكة. ومن هو أولى به

منك؟»

فانشرح صدر عز الدين لهذا الوعد، وهو ما كان يتمناه وقد حصل عليه على أن يتدرج منه إلى ما

هو أعظم. فأظهر الشكر وأنه لا يستحق هذا الالتفات ونحو ذلك من أسباب المجاملة.

أما هي فإنها عرفت لصديقها فضله، وأخذت تثني على علو همته وغيرته، وأنها لا تثق إلا به،

وقالت له: «إني لا أستغني عنك في تدبير المملكة.»

فقال: «أنت في غنى عن تدبيري لكنني طوع إرادتك وما تأمرين.» وقضيا ساعة في الحديث، وكل

منهما قد طار قلبه فرحا بما ناله، ثم قالت: «ومن الحكمة أن نفرق المناصب على أصحابنا الذين

معنا من الجند لتتأيد هذه الدولة، فماذا ترى؟»

قال: «دبرت كل شيء، ولا يخفى على سيدتي شجرة الدر أن جندنا مؤلف من أتراك وجركس وروم

وأكراد وتركمان، وأكثرهم من المماليك المبتاعين. وإنما يهمنا نحن أن نقوي الأتراك؛ لأنهم

جندنا الأصليون فنقدمهم في مناصب الدولة، وهم كما تعلمين طبقات من حيث المناصب، وفيهم أمراء

المئين وأمراء الألوف، وكلهم من الفرسان الأشداء، وهم عضد الجند وقوته، فنفرق هذه الوظائف

على كبار الأمراء الذين أخذوا بناصرنا في هذا العمل. ومناصب الدولة غير الجندية عديدة، أعظمها منصب أمير السلاح الذي يتولى حمل السلاح للسلطان في المجامع الجامعة، والداودار الذي

يبلغ الرسائل عن السلطان ويرفعها إليه ويستقبل من يحضر ويقدم البريد ويأخذ خط السلطان على

جميع المناشير والتواقيع والكتب، والحاجب الذي يقف بين الأمراء والجند، وأمير جاندار الذي

يسلم الزردخانة ويقتل من أراد السلطان قتله، والأستاذ دار وإليه أمر بيوت السلطان كلها،

وغير ذلك من المناصب. فما الذي ترينه من أمر هذه المناصب؟ ثم لا بد من إرضاء الجند

بالعطايا.»

قالت: «إني تاركة أمر ذلك كله إليك لأنك ستكون مدبر المملكة، فتولي هذه المناصب من تثق

بهم من رجالك وترى فيهم الإخلاص لنا، لكنني أطلب أمرا واحدا؛ وهو أن تنظر في أمر ركن الدين

بيبرس الشاب الذي بعثت رسالتك معه. إنه من خيرة الأمراء فوله منصبا بحيث يكون قريبا منا.»

فلما سمع إطراءها ركن الدين أحس بالغيرة، ورغم ثقته به حدثته غيرته أن يطعن فيه - والغيرة

تعمي وتصم - ولكنه رجع إلى صوابه ودهائه وقال: «إن ركن الدين من خيرة الأمراء، صدقت، وأرى

أن توليه الداودارية، وبذلك يكون قريبا منا.»

أحست شجرة الدر بغيرة عز الدين - والمرأة أرق شعورا من الرجل، ولكنها تجاهلت وأغضت لأنها

لم يكن لها مطمع في حب أحد، وإنما هي تحب العلى وتهوى السلطة وتبذل كل شيء في سبيلها، ثم

قالت: «ومتى يأتي الأمراء من المنصورة؟»

قال: «أظنهم يكونون هنا غدا ليحتفلوا بتولية شجرة الدر ملكة على هذه الديار. ما أجمل هذا

الاسم في فمي! وما ألطف وقعه في قلبي! فهل لاسمي شيء من ذلك في قلبها؟» قال ذلك ونظر إليها

نظرة عتاب.

فنظرت إليه وقد أدركت مراده وقالت: «سترى ثقتي وحبي، وستعلم مركزك بالفعل لا بالكلام.

أراك تلمح وتستطلع كأنك تشك في صدق مودتي. سامحك الله يا عز الدين.» وبان العتب في عينيها.

فاعتقد صدق قولها وقال: «معاذ الله يا سيدتي ...»

فابتدرته قائلة: «لا تقل سيدتي، أنت حبيبي، أنت سندي، أنت موضع ثقتي وعليك اتكالي. كن

واثقا بذلك ...»

قال: «إني واثق ولكن المحب كثير ...»

فقطعت كلامه وقالت: «دعنا من ذلك فإنه مفهوم بيننا، وهلم إلى تدبير شئوننا، إني أسمع

لغطا في الدار.»

فأسرع عز الدين وهو يقول: «أظن الأمراء قد وصلوا من المنصورة، ولعلهم يطلبون تقديم

تحياتهم لك.»

قالت مبالغة في اكتساب قلبه: «وهل ترى أن أستقبلهم؟»

قال: «لا أرى بأسا من استقبالهم إذا طلبوا ذلك؛ لأنهم أصحاب فضل في هذا الأمر، وقد رأيت

منهم إذعانا سريعا لما اقترحت أن تصير السلطنة إليك. ولكن، طبعا سترسلين الستر بينك

وبينهم، ولا سيما أنت الآن ملكة المسلمين.»

فنظرت إليه بطرف عينها وهي تبتسم وقالت: «إن عز الدين غيور، ولكن يسرني ذلك؛ لأن الغيرة

دليل المحبة، على أني لم أكن أحتاج إلى تنبيه ، وأنت تعلم أني لا ألقى أحدا كما ألقاك.»

قالت ذلك وأشارت إلى الخصي الواقف في خدمتها أن ينزل الستر. ولم يكد يفعل حتى جاء الحاجب

يقول: «إن كبار أمراء الجند يلتمسون التشرف بمقابلة السيدة الجليلة.» وذكر الحاجب أسماء

الأمراء بلباي الرشيدي وفارس الدين أقطاي وبيبرس ركن الدين البندقداري وسنقر الرومي. فقال عز

الدين بالنيابة عنها: «فليدخلوا.»

دخل كبار الأمراء وحيوا تحية طيبة، فاستقبلهم عز الدين بلطف، ثم تكلم الفارس أقطاي عنهم

قائلا: «إن الأمراء قادمون لرفع واجب التعزية إلى السيدة أم خليل في القضاء الذي نزل

بطوران شاه، ولإبلاغها أن اختيارهم قد وقع عليها لتتولى أمور المسلمين، فعسى أن يقع ذلك

لديها موقع الرضى.»

فأجاب عز الدين عنها قائلا: «أن مولاتنا السيدة الجليلة قد بلغها بلاؤكم الحسن أيها

الأمراء في سبيل مصلحة الدولة، وقد وقع القضاء على ذلك الملك فأسفت لما أصابه، ولكنه جنى على

نفسه، رحمه الله.»

فقال الأمير سنقر الرومي: «إنه ألجأنا إلى ما أتيناه لأنه لم يجعل لنا يدا في شئون

الدولة، وإن مولاتنا زوج ملكنا المرحوم الملك الصالح أولى الناس بهذا الأمر.»

فأجابتهم من وراء الحجاب: «إني شاكرة مروءتكم وحسن ظنكم، ولا يسعني إلا الانصياع لما تم

اتفاقكم عليه، وأنتم نخبة الأمراء أصحاب السيوف، وإنما أقبل هذا المنصب اعتمادا عليكم وثقة

بكم؛ لأني لا أستطيع عملا إن لم تأخذوا بيدي.»

فصاحوا بصوت واحد: «نحن طوع أمر مولاتنا نفديها بأنفسنا، وغدا نحتفل بتوليتها في القلعة، إن شاء الله.»

ثم تحولوا للخروج فرافقهم عز الدين وهو يقول لهم: «إن مولاتنا شجرة الدر كانت تحدثني قبل

وصولكم مثنية على بسالتكم وشجاعتكم، وقد أعدت الهدايا للأمراء والرجال، وقالت لي إنها إنما

ترضى بالسلطنة لأنكم اخترتموها لها.»

وقد صدقوه، وسرهم ما سينالونه من الهدايا - وهي العطايا يعطيها السلطان عند توليته - وقد

اعتزمت شجرة الدر أن تجعلها كبيرة؛ لعلمها بما يعتور سلطنتها من العقبات؛ لأنها أول امرأة

تولت ذلك في الإسلام.

وخرج عز الدين لوداعهم وهو يثني على هممهم ويمنيهم، ثم عاد إلى شجرة الدر يلفتها إلى

الهدايا وقيمتها، ثم افترقا على أن يمضي لتهيئة الاحتفال. •••

لم تطلع شمس ذلك النهار حتى علم أهل جزيرة الروضة بما نالته شجرة الدر، وأنها أصبحت

سلطانة مصر. وقد وقع الخبر موقع الاستغراب عند كثيرين، وموقع الغيرة والحسد عند زميلاتها

جواري الملك الصالح - وكل ذي نعمة محسود - وكانت أشدهن غيرة جارية كردية الأصل اسمها سلافة،

كانت تفاخر سائر الجواري بأنها من قبيلة الملك الصالح، وكان هو يقربها حتى جعلها قيمة قصره،

لكنها لم تلد منه كما ولدت شجرة الدر، فأصبحت هذه أقرب جواريه إليه. وكانت سلافة بارعة

الجمال، لكنها قليلة الدهاء شديدة الغيرة سريعة النقمة.

وكانت مشهورة بجمالها الفتان، يتحدث أهل الروضة والقاهرة بحسنها وإن لم يرها منهم إلا

القليلون. ومن بين الذين أتيح لهم رؤيتها تاجر بغدادي اسمه سحبان، كان يتردد إلى مصر ومعه

الأقمشة الفارسية والهندية، وكان الملك الصالح يدعوه إليه ويبتاع منه ما يختاره لنسائه من

الأنسجة الجميلة، ويطلب منه إحضار ما يحتاج إليه من مصنوعات العراق وفارس وغيرهما. فاتفق له

وهو يعرض عليه بعض المنسوجات النسائية، وكانت سلافة حاضرة لتختار نوعا منها، أن وقع بصره

عليها فأخذت بمجامع قلبه، لكنه تجلد وتهيب، وشعرت هي بما جال في خاطره، وتجاهلت أنه أصبح

بعد تلك المقابلة يغتنم الفرص لإبلاغها ما يكنه فؤاده من الحب لها بهدايا يبعث بها إليها

على أيدي بعض الخصيان دون أية إشارة، فيظهر ذلك منه مظهر الإكرام للملك الصالح؛ لأنها قيمة

داره ورئيسة جواريه.

فلما توفي الملك الصالح ضعف شأن جواريه، فتوسم سحبان بابا للنظر إلى سلافة نظر المحب

الطامع بالقرب، فاحتال يوما ببضاعة حملها إلى القصر كعادته، فلقيه أستاذ الدار وتساوما،

ولم تتأت له مشاهدة سلافة ولا مخاطبتها، وقد علمت هي بمجيئه وتجاهلت، وفي خاطرها أن تراه

ولكنها لم تكن تعرف سبيلا إلى ذلك، ولا حاجة لها إليه لأنها لم تشعر بالميل إليه.

فلما علمت بما صارت إليه شجرة الدر في ذلك اليوم، وأنهم سيحتفلون في الغد بتوليتها ملكة ،

وأن ذلك إنما جرى بسعي عز الدين أيبك - ولم تكن تخفى على سلافة علاقته الودية بشجرة الدر -

هبت نيران الغيرة في قلبها، وأصبحت تتقلب وتتعذب كأنها على قطع الجمر، وأخذت تفكر في إيقاع

الأذى بشجرة الدر، لا لسبب غير الغيرة، فإنما لذتها أن ترى تلك النعمة قد زالت عنها. ذلك هو

داء الحسد العضال، وبين مرضاه من يفضل أن يشترك هو نفسه في الأذى الذي ينوي إيقاعه بمحسوده

على أن يراه رافلا في نعمته.

ضاقت سلافة ذرعا بطول التفكير وهي جالسة في غرفتها، فأرادت التشاغل ببعض الشئون، فتنقبت

والتفت بملاءة من الحرير، وخرجت من قصر النساء من ممر يؤدي إلى حديقة تابعة لذلك القصر، فيها

الأشجار والجداول والرياحين والأزهار، كان الملك الصالح قد تعود أن يقعد فيها صباحا. وجاءها

أحد خصيان القصر مسرعا يعدو وهو يقول: «إن الشيخ سحبان جاء بأنسجة جديدة.»

فلما سمعت اسمه أجفلت، لكنها أحست بانفراج كربها قبل أن تفكر في كيفية ذلك - وهو تنبؤ

نسائي مبني على مجرد الشعور بلا برهان؛ فإن المرأة تأتيها الفكرة أولا ثم تفكر في برهانها. فالتفتت سلافة إلى الغلام وقالت: «أين هو؟»

قال: «هو في فناء القصر، وقد ذكرك بالتخصيص، وقال إن بين أقمشته أشياء تسرك.»

فقالت: «لا أرى أن أعود إلى هناك، دعه يدخل إلى هذه الحديقة من بابها الخارجي لأرى

بضاعته.» قالت ذلك وأصلحت من شأنها وتنقبت بطرف الملاءة، وأصبح قلبها يخفق، ولم تكن تشعر

بشيء من ذلك في مقابلاته السابقة.

وبعد هنيهة دخل الغلام من باب الحديقة وهو يقول: «هذا الشيخ سحبان يا سيدتي»، ورجع.

وكانت جالسة على كرسي بين الأزهار فالتفتت نحو الباب فرأت الشيخ سحبان كما كانت تراه قبلا

بقلنسوته الفارسية وجبته السوداء ولحيته القصيرة الخفيفة وعينيه البراقتين، لكنها تفرست فيه

هذه المرة فرأت في وجهه معنى لم تلحظه من قبل، فلما دخل حياها فردت بمثل تحيته، وأشارت إليه

أن يتقدم وقالت: «أين الأقمشة؟»

فتقدم وقال: «إنها لا تزال في القصر مع الجمال، فإذا أذنت باستجلابها إلى هنا فعلت .»

قالت: «لا بأس، دعها الآن هناك، تفضل اجلس.» وأشارت إلى حجر منحوت كالكرسي، فجلس عليه

وهو يصلح قلنسوته، فقالت له: «لم تكن عادتك إذا جئت بأقمشة أو نحوها أن تطلب سلافة باسمها.»

قال: «وهل ساءك ذلك يا سيدتي؟»

قالت: «كلا، لكني لم أفهم السبب لتغيير عادتك معي.»

قال: «غيرت عادتي جريا مع التغييرات الكثيرة التي انتابت أهل هذا القصر في هذا العام.»

فتصاعد الدم إلى وجنتيها، وبانت البغتة في عينيها، وتذكرت ما هي فيه فقالت: «صدقت، إن

التغيير كثير. رحم الله الملك الصالح، إنه كان حرزا لهذه الدولة، فلما مضى اضطربت

أحوالها.» وظهرت في مآقيها دمعة أوشكت أن تسقط.

فقال سحبان: «نعم، رحمه الله، ولكن ما العمل؟ هذا قضاء مبرم يا سيدتي، والدنيا دول.»

قالت: «أعلمت ماذا جرى؟»

قال: «إذا كنت تعنين ما صارت إليه شجرة الدر، فقد علمت.»

قالت: «نعم، إياه أعني، وكيف تراه يا سحبان؟»

فاستأنس بمناداتها له باسمه بلا لقب وقال: «أرى؟ ماذا أرى؟ أرى أمرا أقل ما يقال فيه أنه

لم يسبق له مثيل في الإسلام.»

فابتسمت وقد أشرق وجهها، وقالت: «أرأيت مثل هذه البدعة قط؟» قال: «لا. لكنني ...» وبلع ريقه

كأنه يحاذر أن يبدي رأيه.

فقالت بلهفة: «قل، ولكن ماذا؟ قل.»

قال: «ولكن، كيف توصلت هذه الجارية إلى هذا المنصب؟ لا أدري.»

قالت: «ألا تعرف عز الدين أيبك التركماني أمير الجيش؟»

قال: «نعم أعرفه، قد فهمت مرادك يا سيدتي، نعم فهمت الآن. عرفت الفرق بين السيدة سلافة الكردية والمحظية شجرة الدر التركية.»

فتوسمت من عبارته ما يوصلها إلى الموضوع الذي تريد الخوض فيه فقالت: «وما هو الفرق؟»

قال: «الفرق أن هذه وفت بالأمانة في حق مولاها، وأن تلك أشركت سواه في حقه.»

فأظهرت أنها تعارضه وقالت: «لا، لا تقل ذلك، إنها أم ولده خليل. لا، لا تقل ذلك.»

فأدرك سحبان أنها تتظاهر بالاعتراض، فقال: «قد قلت يا سيدتي. إني أتردد على هذا القصر منذ

عدة أعوام، وقد رأيت سلافة مرارا وعيناي شاخصة إليها، وفي كل مرة أحاول أن أكسب منها لفتة

فلا تفعل، ولم أر غيرها يحرص هذا الحرص. أستأذنك يا سيدتي في هذا التصريح. وأما سواك فمع

كونها أم ولده فإن علاقتها مع عز الدين أيبك مشهورة، ومع ذلك فهي الآن ملكة المسلمين، ولا بد

لكل منا أن يصدع بأمرها.»

فصاحت فيه: «أنها لن تكون ملكة وإذا صارت فإلى أجل قصير.»

ثم رأت أنها قد تورطت بالتصريح بما في نفسها، فتراجعت والتفتت إلى ما يحيط بها، وتشاغلت

بزهرة قطفتها من شجرة إلى جانبها وهي مطرقة وقد علت الحمرة محياها.

فتوسم سحبان في ذلك المنظر فرجا، فقال بصوت منخفض: «يا سيدتي لا ينبغي لنا أن نطيل الحديث

بلا جدوى. إذا كان لا بد لامرأة من أهل هذا القصر أن تحكم فأنت أولى من سواك؛ لأنك أرقى درجة

من سائر نسائه، وأنت من عصبة الملك الصالح، رحمه الله، ولكن ...»

فقطعت كلامه قائلة: «لا، لا أريد أن أحكم. إن النساء لم يخلقن للحكومة يا سحبان؛ ولذلك

قلت لك إن شجرة الدر لا ينبغي أن تبقى في السلطة طويلا، والآن أقول لك لا ينبغي أن تبقى

أبدا.» قالت ذلك وبان الغضب في عينيها.

وأدرك هو أنها تستحثه على مساعدتها في هذا الأمر فقال: «إذا كنت ترين في مكانا لثقتك

فإني رهين إشارتك. أفصحي لي عما ترينه.» فغلب عليها الحياء، والوردة في يدها، فجعلت تتشاغل

بنشر أوراقها بين أناملها كما يفعل المضطرب الأفكار وهو لا يدري، فابتدرها سحبان قائلا: «إذا كنت لم تفهمي مرادي بعد فإني أتجاسر وأفصح عما يكنه ضميري لك يا سيدة الملاح ... إني

أسير هواك منذ عرفتك، وكلما زدت إعراضا عني أيام الملك الصالح ازددت إجلالا لأخلاقك

الفاضلة. وأما الآن وقد مضى ذلك الملك إلى سبيله، فهل ترين في سحبان ما يستحق التفاتك

وثقتك؟»

فازدادت حياء، وتوردت وجنتاها، وشعرت بخفقان قلبها، وأوشكت أن تنسى الأمر الذي كان شغلها

الشاغل في ذلك الصباح. ثم التفتت إلى ما حولها فلم تر غير الأشجار والرياحين، ولم تجد ما

تتشاغل به عن الجواب ريثما تعمل فكرتها. وأدرك سحبان ما دار في خلدها فتحفز كأنه يريد

النهوض، فمدت يدها نحوه وأشارت إليه أن يمكث، وظلت ساكتة وهي تعض شفتيها وتمسح جبينها وتصلح

نقابها، فقال لها: «دعيني أنصرف الآن، فربما كان وجودي معك سببا للقيل والقال.»

فنظرت إليه نظرة اخترقت أحشاءه وقالت: «وأي قيل وقال؟ إني لا أخاف أحدا، وأما وجودك هنا

فإنه لازم لي.»

فهش لها وضحك كأنه نال أمرا لم يكن يتوقع الحصول عليه وقال: «إذا كان وجودي هنا لازما

لك فإني رهين أمرك.» •••

اعتدلت سلافة في مقعدها والجد باد في عينيها، ولو كشفت عن وجهها لظهرت دلائل العزم

والإصرار حول شفتيها، وقالت: «هل أنت صادق فيما تقول؟»

قال: «جربي يا سيدتي. بعد أن تسمعيني كلمة منك يطمئن لها قلبي. ألا ترين في الرجل الذي

يستحق رضاك؟»

فأشارت برأسها وعينيها وقالت: «بلى! والدليل على ذلك أني سأعرض عليك أمرا خطيرا لا يجوز

أن يطلع عليه أحد على وجه الأرض.» وسكتت.

فقال: «تفضلي يا سيدتي.» قالت: «وسأكلفك بمهمة لا تخلو من الخطر.»

قال: «روحي فداك. لا أبالي أن أموت في سبيل رضاك.»

فقالت: «أنت من أهل بغداد تسافر إليها كل عام، أليس كذلك؟»

قال: «أسافر إليها متى شئت.» قالت: «ولماذا لا تمكث هناك؟»

قال: «لا بد من الجواب عن هذا السؤال؟» قالت: «نعم.»

قال: «إن هذه الجلسة التي سمح الزمان بها على قصرها جعلتني أشعر أن قلبينا متحدان من عهد

بعيد. فأذني لي أن أخاطبك بجسارة وصراحة.» قالت: «هذا ما أريده منك.»

قال: «لا أقيم في بغداد لأني شيعي، والخلفاء العباسيون يكرهون الشيعة ويطاردونهم، ولا سيما

في بغداد، فإنه لا تمضي سنة لا يقاسون فيها تعديا أو اضطهادا أو نهبا أو قتلا، ففضلت

الرحيل عن ذلك البلد، وإن كنت في غنى عن التجارة، ولكنني جعلتها سبيلا للأسفار. وإذا سافرت

إلى بغداد فلا أمكث فيها إلا ريثما أبتاع البضاعة وأعود.»

قالت: «هل تعني أن الخليفة المستعصم الحالي يطارد الشيعة ؟»

قال: «أكثر الخلفاء العباسيين فعلوا ذلك، والمستعصم هذا من أشدهم وطأة علينا، فقد قاسينا

في أيامه الأمرين.» قال ذلك والغضب يتجلى في وجهه.

فأطرقت وبان التردد في عينيها وسكتت، فقال: «ما لي أراك تترددين؟ قولي ما يخطر لك.» قالت: «أخاف أن يكون في قولي تعب عليك.»

قال: «لا لذة في الحب إن لم يرافقه التعب.»

ولما ذكر الحب اختلج قلبها في صدرها وقالت: «أنت تطلب ذلك باسم الحب يا سحبان؟» قال: «إذا كنت تأذنين.»

قالت: «نعم. انظر يا سحبان، إن هذه الجارية التركية لا ينبغي أن تبقى ملكة إلا ريثما تصل

أنت إلى بغداد وتعود منها.»

ففهم مرادها وقال: «لك علي ذلك. وهل تريدين أن أذهب بهذه المهمة من عند نفسي أم أكون

رسولا منك؟»

قالت: «بل تكون رسولا تحمل كتابا مني إلى بغداد، ولا يصل الكتاب حتى يأتي الجواب بخلعها

لا محالة.»

قال: «لمن تريدين أن يسلم الكتاب؟» قالت: «سلمه إلى قيمة قصر النساء هناك، إنها

صديقتي، ولي معها مودة. هل تفعل ذلك؟»

فنهض وقال: «أفعله الساعة. هاتي الكتاب.» ومد يده إلى منطقته واستل منها دواة مغروسة فيها

واستخرج القلم منها ودفعه إليها، وأخذ من جيبه ورقة بيضاء دفعها إليها، فتناولت الورقة والقلم

وهي تتفرس في وجه سحبان وهو ينظر في عينيها. بقيا لحظة على هذه الحال كأنهما يتفاهمان

بالعيون، ثم قالت سلافة: «إن هذه هي المرة الأولى التي تخاطبنا فيها، ألا تعد ذلك تسرعا

مني؟»

قال: «جسي قلبك، فمن القلب إلى القلب دليل. وإذا كنت في ريب من صدق خدمتي، أقسمت لك بما

تريدين.» وهم أن يقسم ولكنها أمسكت بيده وقالت: «لا حاجة إلى اليمين.»

وكانت هذه هي المرأة الأولى التي تلمس فيها يدها يده منذ تعارفا، فأحس كلاهما بالقشعريرة

وهي دليل التحاب، ولا تحدث عند كل تلامس بين الجنسين، وإنما تقع بين اثنين في قلبيهما

استعداد إلى الاتحاد. أو بالتعبير العلمي «بين كهربائيتهما تجاذب» ويزيد هذه القشعريرة

ظهورا قلة الاختلاط بين الجنسين والمبالغة في التحجب، ويلوح للباحث في نواميس الحب وظواهره

أن أسبابه تقوى أو تضعف على حسب الأمزجة والأشخاص، أو كان الواحد متمم للأخر، فإذا التقى

اثنان من هذا النوع شعرا بالتجاذب لأول مرة، على أن للجمال المادي والمعنوي قواعد أجمع الناس

عليها، يغلب في أصحابها أن يلفتوا أنظار الناس ويجتذبوا قلوبهم.

فلما أحست سلافة بتلك الرعشة اتخذتها دليلا على صدق مودة سحبان، وتناولت الورقة وأخذت

تكتب، وكانت بارعة في الخط والإنشاء؛ لأن السلاطين كانت لهم عناية في تعليم الجواري الكتابة

واللغة والأدب. ولما فرغت من الكتابة أقفلت الكتاب ودفعته إليه وقالت: «هذا سري قد عهدت به

إليك، إذا أفلحت فقد برهنت لي على ما تقول.»

فتناوله وقال: «أستودعك الله.» ومشى وهو يلتفت إليها حتى خرج من الحديقة، وظلت هي بعده

واقفة تفكر فيما فعلته، فخالج ذهنها ندم على تسرعها، لكنها راجعت ما رأته وشاهدته منه،

وتذكرت تاريخ معرفتها به، فلم تجد ما يوجب الحذر.

الفصل الرابع

أول ملكة للمسلمين

أصبحت القاهرة في اليوم التالي وأهلها في هرج، والناس يزحم بعضهم بعضا نحو القلعة، بين

راكب وماش، رجالا ونساء، حتى أصبحت ساحة الرميلة تحت القلعة غاصة بالناس من كل الطبقات،

وقد اختلط بهم الباعة يحملون أنواع الكعك والفاكهة والثمار والمملحات والحلوى والمأكولات

الجافة. وبينهم حملة الودع وكشاف البخت وفاتحو المندل، ينادي كل واحد على بضاعته على اختلاف

الألحان وطبقات الأصوات، وقد علت ضوضاء الناس وأصوات الحيوان.

ولو أشرفت على الرميلة من سور القلعة لرأيت الساحة بقعا، يشغل كل بقعة جماعة متشابهون

لباسا وشكلا، أكثرهم قاعد القرفصاء، يلهو الواحد منهم بشيء يمضغه أو عود ينكت به الأرض أو

أداة يلاعب بها أصابعه. وهناك جماعات التفت على رجل يلاعب دبا أو قردا، ثم يدور عليهم

بدفه يجمع ما يجودون به من الدوانق، وجماعات هدأ جوهم لاشتغالهم بحديث يقصه عليهم شيخ منهم

يبذل جهده في اجتذاب قلوبهم ونيل إعجابهم، وهم يتطاولون بأعناقهم نحوه، وقد أخذهم

الاستغراب.

ولو أتيح لك حضور تلك المجالس لرأيت عجبا وأخذتك الدهشة من أخلاق العامة وسرعة تصديقهم

للغرائب ؛ لأنك قد تسمع حديثا أنت أعلم الناس به فتجده تشوه واضطرب حتى انقلب إلى غير ما

تعرفه، وقد تنكره وتظنه حديثا آخر. ويزداد تحريفهم للأحاديث بنسبة ما تحويه من الغرابة عن

مألوفهم، فما ظنك في موضوع ذلك اليوم، وهو تنصيب امرأة ملكة على المسلمين، مما لم يسبق له

مثيل في تاريخهم. فتضاربت أقوالهم في ذلك، واخترعوا الأسباب الباعثة عليه، وافترضوا

الأسرار، وتكهنوا بمصير هذه الحال، وزعم بعضهم أنهم صاروا في آخر الزمان، وسوف تنقضي

الدنيا؛ لأن ذلك من دلائل الفناء.

وبينما هم في ذلك إذ سمعوا نفخ الأبواق وقرع الطبول، ثم رأوا موكب أمراء المماليك

البحريين متوجها نحو القلعة، وفي مقدمته كبراء الفرسان بالملابس المذهبة تتلألأ في شعاع

الشمس حتى يكاد بريقها يذهب بالإبصار، وبعدهم هودج شجرة الدر تحمله البغال وقد تجلل بالحرير

المزركش، وأحاطت به الفرسان في أزهى الملابس وأجملها وفيهم حملة الأعلام، ووراءهم كوكبة من

الفرسان أصحاب المزاريق، ثم كوكبة من حملة الرماح، ووراءهم جماهير الناس مشاة على أقدامهم

يموجون كالبحر الزاخر، وفيهم من تبطل وأوقف عمله لمشاهدة موكب الملكة، وهو لا يرجو شيئا من

وراء تلك الخسائر، وإنما يساق العامة إلى ذلك بفطرتهم الساذجة وميلهم الطبيعي إلى مشاهدة

الغرائب، فهم يؤخذون بالظواهر ويتبعون كل ناعق؛ ولذلك كان إجماع العامة على أمر ما لا يدل

على صوابه.

وصل الموكب إلى باب القلعة الكبير المواجه للقاهرة، ويقال له الباب المدرج، وكانت طائفة

من الجند قد وقفت هناك بالسلاح لتمنع الناس من الدخول. وللقلعة باب آخر نحو القرافة أقفلوه

في ذلك اليوم لئلا تتزاحم الأقدام في ساحة القلعة، وهي ساحة كبيرة في وسط القلعة تنتهي

بمصطبة وراءها باب كبير هو الباب الداخلي المؤدي إلى الأبنية الخاصة بسكنى السلطان والأمراء

والأجناد، وفيها الجامع والإيوان.

دخل الموكب القلعة من بابها المدرج، وظل العامة خارجها يكتفون بما يسمعونه من قرع الطبول

ونفخ الأبواق. وقطع الموكب الساحة حتى وصل إلى الباب الداخلي المذكور ففتحوه، ولم يأذنوا

لغير الخاصة بدخوله، ولا سيما الأمراء وأرباب المناصب ونحوهم، وخلفوا في الساحة جمعا من

الخاصة اكتفوا بأنهم امتازوا عن سائر العامة بدخول القلعة.

ودخل الموكب من ذلك الباب إلى ممر فسيح تحف به الأبنية وهناك ترجل الفرسان، واعتنى جماعة

بشجرة الدر فأنزلوها عن الهودج، وبينهم وبين الإيوان الكبير ممرات وأبواب لا بد من اجتيازها،

وكانوا قد فرشوها بالسجاد وعلقوا على أبوابها الرياحين والأعلام، ومشى عز الدين أيبك وسائر

الأمراء - وهم بملابسهم الفاخرة - بين يدي شجرة الدر، وهي في ذلك اليوم في أبهى ما يكون من

اللباس، وكانوا قد أعدوا لها قبة من الحرير المطرز قائمة على أربعة أعمدة يحملها نفر من

القواد، وقد أريخت ستائرها، وشجرة الدر في داخلها، ومعها جاريتها شوكار وبعض الوصيفات.

لم يصل إلى الإيوان الكبير إلا الخاصة وكبار الموظفين، وهم أصحاب المطامع وطلاب السيادة،

يسخرون العامة لأغراضهم ويسوقونهم كالأنعام لا يدرون مصيرهم، وربما اكتسبوا رضاهم بأكلة

يطعمونهم إياها، أو بصلاة يتلونها بين أيديهم، أو دعاء لولي أو قديس يعرفون أنهم يعتقدون

كرامته.

ظل أصحاب القبة سائرين حتى وصلوا إلى صدر الإيوان، وكانوا قد نقلوا إليه سرير السلطنة

الذهبي، فجعلوا القبة فوق السرير وأرخوا ستائرها حوله، فقعدت شجرة الدر على السرير وبين

يديها شوكار والوصائف يأتمرن بأمرها ولا يراها أحد من الحضور. ثم دخل قاضي القضاة، فقعد إلى

يمين القبة، ووراءه صاحب بيت المال وناظر الحسبة، وإلى يساره كاتب السر وغيره من كبار أرباب

المناصب وذوي السن وأمراء المشورة، وجلس بين يدي القبة في وسط الإيوان الأمير عز الدين

أيبك أمير الجند، وكبار أمراء المماليك وبينهم ركن الدين بيبرس، ووراء القبة والسرير صفان

من حملة السلاح، ووراءهم الحجاب ونحوهم، وأتوا في جملة ذلك بجماعة من أسرى الإفرنج عليهم

ألبسة الأسرى مبالغة في الاعتزاز.

وبعد أن استقر بهم الجلوس على هذه الصورة، وقف عز الدين أيبك ووجه خطابه إلى الجمع وقال: «أيها الأمراء والقواد، لا يخفى عليكم ما أصاب الملك المعظم طوران شاه، إنه أساء السيرة

وأراد التنكيل بجند هذا البلد البحريين، الذين عرفتم بلاءهم في زمن الملك الصالح، رحمه الله، في حرب الإفرنج وغيرهم، فوقع القضاء عليه. ولما خلا كرسي السلطنة ممن يسوسها، لم نجد من هو

أولى بها من أصحاب الحق فيها إلا مولاتنا الصالحة شجرة الدر والدة خليل وصاحبة الملك الصالح؛ لما نعلمه من ثقة مولانا المرحوم بها، وهي أم ولده، فأجمع رأي الأمراء والنواب والقضاة على

اختيارها ملكة تتولى شئون الدولة بمساعدتهم. وقد تعهد أصحاب السيوف بطاعتها لإحقاق الحق

وحماية بيضة الدين. ونحن الآن نحتفل بتنصيبها، وسندعو لها على المنابر بعد مولانا أمير

المؤمنين المستعصم بالله، وسننقش اسمها على الدنانير والدراهم، فادعوا لأمير المؤمنين.»

فضج الجميع بالدعاء للخليفة وهم وقوف، ثم تقدم قاضي القضاة فدعا لشجرة الدر قائلا: «واحفظ اللهم ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك

الصالح.»

فقال عز الدين أيبك: «وقد عهدت إلي في تدبير المملكة باسمها، وولت الأمير ركن الدين بيبرس

الداودارية الخاصة، وأمرتني أن أثبت أصحاب المناصب الموالين لنا في مناصبهم من أصحاب

الأقلام وأصحاب السيوف.» ثم أشار إلى صاحب الستر الواقف بجانب القبة، فأزاح الستر، فبان

داخل القبة، فإذا هي مبطنة بأطلس أصفر مزركش، وفي صدرها شجرة الدر جالسة على السرير قد أرخت

النقاب وعلى رأسها العصائب السلطانية، وهي صفر عليها ألقاب المملكة مطرزة بالذهب.

فعاد الناس إلى الدعاء لها، ثم أرخوا الستر وعاد عز الدين إلى الكلام فقال: «وعما قليل

نحتفل بقراءة المرسوم الذي سيرد علينا من أمير المؤمنين المستعصم بالله يؤيد سلطنة مولاتنا

حفظها الله.»

وكان الناس في أثناء الاحتفال سكوتا كأن على رءوسهم الطير، وقد أخذتهم الدهشة لأنهم لم

يسمعوا بمثل هذه الولاية، وفيهم الغاضب والعاتب والمعترض، ولكن لم يجسر أحد منهم على الكلام؛ لعلمهم أن هذه السلطنة إنما كانت بتواطؤ المماليك البحريين أصحاب القول في ذلك العهد.

وقبل الفراغ من الاحتفال أشار عز الدين إلى بعض الوقوف من الداودارية، فمضى وعاد ومعه

الأطباق عليها صرر النقود، فأخذوا يوزعونها على الحضور، وعلى كل صرة اسم صاحبها.

ولما هم الحضور بالانصراف ، وقف عز الدين أيبك وقال: «أيها الأمراء، إن مولاتنا ملكة

المسلمين اقتضت إرادتها أن تنقل دار السلطنة من جزيرة الروضة إلى هذه القلعة، وستكون هذه

القلعة مقر أرباب المناصب بدلا من قلعة الملك الصالح في الروضة؛ لأن السبب الذي من أجله

جعلها الملك المرسوم كرسيا للسلطنة قد زال.»

فكان لهذا التغيير وقع حسن عند بعض السامعين ووقع سيئ عند آخرين، ولكن لم يجسر واحد على

إبداء رأي أو ملاحظة. وانقضت الحفلة وانصرف كل إلى مكانه، وانتقلت شجرة الدر إلى قصر خاص

بالسلطنة هناك، وأخذوا في نقل الرياش وغيره من جزيرة الروضة، ولم تعد تلك الجزيرة كرسيا

للسلطنة من ذلك الحين، وأخذوا في تعريتها من زخرفها ونقوشها، ولا سيما لما صارت السلطنة إلى

عز الدين أيبك، فإنه أمر بهدمها ونقل ما كان فيها من الأعمدة والنوافذ والسقف والأخشاب لبناء

مدرسة باسمه في القاهرة.

وكانت شوكار في أثناء الاحتفال مع شجرة الدر في الهودج كما تقدم، فلما رفع الستر انزوت في

مكان ترى الحضور منه ولا يرونها، وكان نظرها لا يتحول عن ركن الدين وهو بلباسه الرسمي، على

رأسه القلنسوة الجندية ولباسه مزركش بالقصب وقد زانه شبابه، وسرها على الخصوص ما سمعت من

أنه صار داودارا لسيدتها؛ لعلمها أنه أصبح أقرب إليها؛ إذ يكثر تردده إلى قصر الملكة لقضاء

مهام منصبه، فخفق قلبها فرحا وتحققت قرب السعادة؛ لأنها ستكون زوجة لداودار السلطنة. •••

انتقلت شجرة الدر بعد انقضاء الاحتفال إلى قصر السلطنة، وقد أعدوا لها فيه غرفة فرشوها

بأحسن الرياش، ودخلت الغرفة يحيط بها الجواري والوصائف وفي مقدمتهن شوكار، فأخذن في تبديل

ملابسها، ثم أمرت الخدم بالانصراف، فلما خلت بنفسها أخذت تفكر فيما صارت إليه مما لم تكن

تحلم به في صباها، وتذكرت صباها وكيف كانت تنظر إلى السلاطين والملوك، وما كانت تراه بينها

وبينهم من المسافات البعيدة، وكيف أصبحت اليوم ملكة المسلمين تطأطئ لها الرءوس وتعنو لها

الرقاب. فلما تصورت ذلك انشرح صدرها وانبسطت نفسها، لكنها ما لبثت أن فكرت فيما يعتور ذلك

المنصب من المشاق، وما في مصر يومئذ من المشاكل والحروب مع الصليبيين، عدا الأحزاب المختلفة

بين رجال الدولة والجند، فانقبضت نفسها، لكنها لم تذكرت عز الدين مدبر المملكة ومن معه من

الأمراء الذين يأخذون بناصرها للعصبية أو للعطاء، هان الأمر عليها، وإن بقي الانقباض ظاهرا

في وجهها.

وبينما هي في ذلك، إذ دخلت عليها جاريتها شوكار والفرح يتجلى في وجهها، وأكبت على يد سيدتها

تقبلها وهي تقول: «الحمد لله على نعمه يا سيدتي، أنت ملكة المسلمين، ألم أقل لك عندما

رأيتك على ذلك السرير إنه لائق بك؟ ما لي أراك منقبضة النفس؟ هل ساءك مجيئي الآن؟ هل تأمرين

بانصرافي؟»

فطوقت عنقها بيديها وضمتها إلى صدرها وقبلتها وهي تقول: «كيف تنصرفين يا شوكار؟! لا، لا، لست منقبضة من شيء، إني شاعرة بالسعادة التي أنا فيها والحمد لله، ولكنني أفكر في المهام

الكثيرة التي بين يدي. كنت قبل الآن أتمنى أن يتم هذا الأمر لي، فلما تم ذهبت شهوة ذلك

الميل، وتبين لي المنصب بما يحف به من المشاكل والمسئوليات.»

فأرادت شوكار مداعبتها لتشغلها عن تلك الهواجس، فقالت وهي تضحك: «إذا كنت قد كرهت هذا

المنصب فأنا آخذه منك وأخفف عنك مهامه.»

فابتسمت شجرة الدر وقبلت شوكار ثانية وقالت: «لم أكره هذا المنصب يا عزيزتي، فإني لم أذق

منه شيئا بعد، لكن لا ينبغي لي أن أتغاضى عما يحيط به من أسباب العناء.»

قالت: «إن هذه الأسباب لا بد منها، وهذا مولانا عز الدين مدبر المملكة يحمل عنك كل

أثقالها، وهذا ركن الدين، إنه بطل.» ولما ذكرته خجلت وأطرقت حياء.

فضحكت شجرة الدر من قولها ومدت يدها إلى جبينها تمسحه وقالت: «إن ركن الدين بطل، وإذا شئت

أن تري ذلك وتختبريه، فإني سأكلفه بمهمة ذات بال لا أرى بين الأمراء من أثق به وأعول عليه في

قضائها غيره، هل تأذنين في ذلك؟»

فخجلت شوكار من هذا الاستئذان وقالت: «من أكون أنا ليؤخذ الإذن مني؟ ألسنا جميعا عبيدا

نصدع بالأمر؟!»

فلما سمعت هذا التعبير - وهو مما يقال للملوك - عظم الأمر عندها، لكنها كانت عاقلة تنظر

في الأمور إلى حقائقها، ولا يهمها الزخارف فقالت: «كلنا عبيد يا شوكار، وإنما سألتك لأن ركن

الدين يهمك الآن، أليس كذلك؟

فقالت وقد توردت وجنتاها من الخجل: «هبي أنه لي، فأنا لم أكن لأحصل عليه لولاك.»

قالت: «ليس هذا هو المهم في الأمر يا شوكار، ولكنني أحب قبل أن يعقد له عليك أن يأتي

عملا يوجب له الفخر على أقرانه، فإذا تزوجك بعد ذلك زاد افتخارك به.»

قالت: «الأمر لك في كل حال.» لكنها في الحقيقة لم يسرها هذا الأمر؛ لأن ركن الدين من

الأمراء المعروفين، وإذا لم يكن بد من زيادة أسباب شهرته، فليكن ذلك بعد العقد. وقد أصبحت

لفرط غبطتها بذلك النصيب تخاف أن يؤخذ منها، لكنها لم تستطع إظهار غير الرضا. أما شجرة الدر

فإنها لحظت ترددها وما خامر ذهنها من هذا الأمر، فتنهدت ونهضت وقالت: «اتبعيني يا شوكار.»

فتبعتها وهي تفكر في غرضها من هذا النهوض، فإذا هي قد مشت في ممر إلى غرفتها الخاصة، وهي

غرفة أعدوها لها بأثمن الرياش، فدخلت واستلقت على سريرها بلا كلفة وهي تقول: «آه يا شوكار،

لقد تعبت من التفكير، وشعرت بثقل العمل الذي أخذته على عاتقي، أطربيني بصوتك الرخيم لعلي

أروح عن النفس قليلا.»

فسرها هذا الاقتراح، وأمرت بعض الغلمان بإحضار العود، فتناولته وأخذت تضرب عليه بإتقان،

وتغني أغاني تعلم أن شجرة الدر تطرب لها، فآنست منها استحسانا كثيرا وهي تضحك لها وتعجب

بها، وشوكار تائهة الفكر في ركن الدين، وتود لو يكون حاضرا لتراه لعلها تتحقق منه شيئا؛ لأنها لم تملك فرصة تسمع منه فيها قوله إنه يحبها، وأحست هي أنها أحبته وخافت ألا يكون قد

بادلها حبا بحب، وبان انقباض قلبها في وجهها، وظهر أثر ذلك في ضربها وغنائها، فقالت لها

شجرة الدر: «ما بالك يا شوكار؟» فانتهبت لنفسها وقالت: «لا شيء يا سيدتي.» ثم ابتسمت لتخفي ما

بها وقالت: «شكرا يا مولاتي، إني محاطة بكل أسباب السعادة والحمد لله.» وسكتت وفي سكوتها

شبه إنكار.

فلحظت شجرة الدر شيئا مما اعترى جاريتها شوكار فقالت: «لا شيء يا سيدتي!» ثم ابتسمت لتخفي

ما بها وقالت: «شكرا خاطرك شيئا تكتمينه. هل ساءك ما قلته عن ركن الدين من أمر السفر؟»

قالت بلهفة: «كلا يا سيدتي، إن ما تأمرين به لا يكون فيه غير أسباب الراحة والسعادة

ولكن ...» وأطرقت حياء.

قالت: «ولكن ماذا؟ إن هذا الإطراق يعجبني من الفتاة في مثل هذه الحال، يظهر أنك تشتاقين

رؤية ركن الدين قبل سفره، ولعلك تحبين أن تعرفي رأيه فيك. إني سأدعوه الساعة يجالسنا بحجة

عزمي على تكليفه بتلك المهمة.» وصفقت، فجاء بعض الغلمان فأمرته أن يدعو الداودار ركن الدين،

وعادت إلى مشاغلة شوكار، فقالت لها: «لا يمضي كثير حتى يأتي ركن الدين. غني شيئا من عندك.»

فأخذت تغني، وقد فرحت بقرب قدوم ركن الدين، لكنها أحست بخفقان قلبها فتشاغلت بالضرب

والغناء.

وبعد قليل جاء الغلام يقول: «إن الأمير ركن الدين بالباب.» فقالت: «يدخل.» وأشارت إلى

شوكار أن تسكت.

فدخل وألقى التحية، فابتسمت له، وقد ألقت النقاب بعض الشيء على رأسها، وفعلت شوكار مثل

فعلها، وقالت شجرة الدر: «مرحبا بالبطل ركن الدين، تفضل.» وأشارت إلى كرسي بين يديها،

فجلس عليه وهو يتأدب في نظراته ويفكر في سبب تلك الدعوة، فقالت شجرة الدر: «أتعلم يا ركن

الدين لماذا دعوتك؟» قال: «لا يا سيدتي، وإنما أعلم أني سيف من أسياف مولاتي ترمي بي حيثما

شاءت.» فقالت: «بارك الله فيك. لكن هل تفعل ما تفعله إكراما لي وحدي؟»

فلما سمع قولها علم أنها تداعبه وتشير إلى علاقته المستقبلة بشوكار، فسره أنها بادرته

بالحديث فقال: «نعم يا سيدتي؛ لأنك أنت صاحبة الأمر والنهي من كل وجه.» والتفت إلى شوكار

وابتسم.

فخجلت شوكار وبان الخجل في عينيها وأطرقت، فقالت شجرة الدر: «أرى شوكار قد خجلت، ويعجبني

الحياء منها، لكنني أحب أن تسمعنا لحنا آخر يشاركنا ركن الدين في سماعه، ما رأيك؟»

فقالت : «إني رهينة أمرك يا سيدتي.» قالت: «أسمعينا أو أسمعيه، لعله يسمعنا ما يطرب من غير

لحن أو نغم.»

فتناولت شوكار العود وأخذت تضرب عليه وتغني حتى أخذت بمجامع قلب ركن الدين، فطرب طربا

كثيرا وهاجت عواطفه، وكان قد سمع عن صوت شوكار ولم يسمعه، أما وقد سمعه فازداد إعجابا به

وتعلقا بزواجها، وعلم مقدار النعمة التي وهبته إياها شجرة الدر لما وعدته بتلك الغادة

المطربة.

وكانت شوكار تضرب وتغني وعيناها تراقبان حركات ركن الدين، فرأته قد هاجت أشجانه وبان

الطرب والهيام في وجهه، ولولا تهيبه من وجود الملكة لقال أشياء كثيرة. ولحظت شجرة الدر

أيضا ذلك وسرها ما لحظته؛ لأنها كانت تريد أن تقبض على قلب ركن الدين لتستخدمه فيما تريد

من الأمور؛ إذ أصبحت - بعد أن صارت ملكة - تخاف من الدسائس والمناظرين من الداخل والخارج.

وقد توسمت في ركن الدين همة عالية وبسالة، فأرادت أن تملك قلبه ليكون طوع إرادتها فيما قد

تعتزم فعله؛ لأنها كانت سيئة الظن فيمن حولها، حتى عز الدين أيبك صديقها، كانت ترى أنه غير

أمين لها، وأنه إنما يظهر الطاعة موقتا.

فلما رأت هيام ركن الدين بشوكار قالت له «هل أعجبك صوتها يا ركن الدين؟»

فتحرك احتفاء بذلك الاستفهام وقال: «تسألينني عن صوتها؟ ألا يكفي أنه يعجب ملكة المسلمين؟

ومن لا يطرب لهذا الصوت الرخيم؟»

قالت وهي تضحك: «أرجو ألا يكون الصوت وحده الذي أطربك.» فالتفت خلسة إلى شوكار وسكت.

فقالت شجرة الدر: «أراك تستشيرها في ذلك، هل تشك في أنها تعجب بك؟»

قال: «إذا كانت ترى في شيئا حسنا فإنما تراه بناء على رضا مولاتي الملكة عني.»

قالت: «لا أنكر أني وسيلة التعارف بينكما، لكنها تسمع عن البطل ركن الدين من قبل، ويكفي

ما تسمعه مني عن بسالتك، ويعجبني منها أنها لا يعجبها غير رجال الحرب المستبسلين في الدفاع

عن الدولة؛ ولذلك سألتك حين دخولك هل تعلم لماذا دعوتك فأجبت جوابا وقع من نفسي موقعا

حسنا، ولا شك أنه وقع مثل هذا الموقع عند شوكار، وقد لحظت ذلك في عينيها، وبدلا من أن أتم

حديثي معك، طلبت إليها أن تسمعك صوتها، وقد فعلت، وإني في غاية السرور من تقارب قلبيكما.

فلنعد إلى ما كنا فيه، قل لي هل تعلم لماذا دعوتك، ونحن فيما نحن فيه من أمر الإفرنج في

دمياط وحولها؟»

قال: «إنك تريدين أن أكفيك أمرهم، وهذا هين.»

قالت: «سيعهد إليك الأمر عز الدين غدا في ذلك، ولكنني أحببت أن أطمئنك أن هذا العمل يرضي

شوكار، وأنها تحب الشجعان البواسل. ومن الجهة الأخرى لحظت من شوكار أنها ...» وضحكت وهي تنظر

إليها، ثم قالت: «لحظت أنها تحب أن تتحقق رأي ركن الدين فيها.»

فغلب الحياء على ركن الدين وقال: «هل لركن الدين رأي بعد أمر مولاتنا الملكة؟»

قالت: «هي لا تريد أن يكون حبك لها طوعا لأمر الملكة.»

قال: «إن أمر الملكة كان فاتحة الكلام، ولكنني أحبها الآن طوعا لأمر قلبي، ويكفيني أن

يكون عندها نصف ما عندي.» قال ذلك ونظر إلى شوكار فأطرقت خجلا، وتكلمت عيناها بما يعجز

اللسان عن الإفصاح به.» •••

لما وثقت شجرة الدر من ترابط قلبي ركن الدين وشوكار، التفتت إليه قائلة: «والآن يا ركن

الدين كن رجلا مثل عهدي فيك، إن نجاحك في هذه المهمة ضامن لوصولك إلى الرتب الرفيعة. سر

بحراسة الله، ولكن قبل ذهابك صافح شوكار وضع يدك في يدها، إني أسمح لكما بذلك.»

فتقدم ركن الدين ومد يده ومدت شوكار يدها وتصافحا، وهي أول مرة تلامست فيها يداهما،

فكأنهما تفاهما وتعاقدا. ثم انحنى ركن الدين أمام شجرة الدر وودعها وخرج، فأحست شوكار كأن

قلبها قد خلع من صدرها وسار معه.

فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «ألم أقل لك إنه يتفانى في حبك، وسيزداد حبك له عندما ترينه

عاد ظافرا من ساحة الحرب. إنه سيناضل ويحارب باسمك، فأهنئك يا عزيزتي بهذا البطل.»

فأطرقت وقلبها يخفق طربا، ثم أذنت لها بالانصراف لتتفرغ لمهام الدولة. وما كادت تخرج من

عندها حتى جاءها الحاجب ينبئها بقدوم عز الدين نائب السلطنة ، فقالت للحاجب: «قل له ينتظرني

في الإيوان.»

وكان عز الدين قد جاء إلى الإيوان لملاقاة حبيبته على حدة ليهنئها بما نالته، وهو يتوقع

أن تكثر من الثناء عليه عند المقابلة على انفراد؛ لأنه كان السبب في نيلها ذلك المنصب الذي

لولاه لم تكن لتناله، فلما لم يجدها هناك، قصد إليها في غرفتها، ولكنه رأى ركن الدين خارجا

من عندها، وعلى وجهه أمارات الهيام، ودهش ركن الدين عند مشاهدته وحياه وقد ظهرت البغتة في

كلامه. أما عز الدين فإن الشك تسرب إلى فكره، وشبت الغيرة في قلبه، فلم يزد على رد التحية،

وعزم على استطلاع سبب وجود ركن الدين هناك حالما يلاقي شجرة الدر في غرفتها.

فلما عاد إليه الحاجب بأن ينتظر شجرة الدر في الإيوان، زادت وحشته وعظمت غيرته، وخيل إليه

أن شجرة الدر غلبت الكبرياء على قلبها حتى أصبحت تستنكف من ملاقاة صديقها وسبب نعمتها في

غرفتها. لكنه أخذ يغالب شكوكه وتجلد وذهب إلى الإيوان في انتظارها. واتفق أنها تباطأت في

الوصول ريثما بدلت ثيابها، ثم جاءت وهي تجر ذيل ثوبها الملكي والوصيفات بين يديها. فلما

دخلت وقف لها ورحب بها، فحيته وأشارت إليه أن يجلس وصرفت الخدم.

فلما رآها تهش له تغير ما في نفسه وأغضى عما سبق إلى ذهنه وقال: «جئت لأهنئ مولاتي

بمنصبها، وأرجو أن تتأيد دولتها.»

فابتسمت ابتسامة الشكر وقالت: «إني لا أنسى فضلك في ذلك يا عز الدين، ولا بد لي من الاتكال

عليك في فض المشاكل التي تنتاب الدولة.»

قال: «إني رهين الإشارة يا سيدتي.»

قالت: «أنت تعلم ما يحيط بنا من الحساد وما يهددنا من الأعداء، ولا سيما الإفرنج؛ فإنهم لا

ينامون من مناوأتنا.»

قال: «لا يشغلك شاغل من أمر هؤلاء؛ فإني مدبر أمرهم.»

قالت: «بارك الله فيك، غير أني رأيت ركن الدين يليق بهذا العمل، وقد سمعتك تثني على

بسالته، وقد اتفق أني رأيته اليوم وذكرت أمر الإفرنج بين يديه، فرأيت منه ارتياحا إلى

الخروج إليهم، غير أني أحببت أن يكون ذلك برأيك.»

فلم يعجبه قولها إنها رأته اليوم، وكيف تراه إن لم يكن ذلك على موعد بينهما؟ وكيف يكون

ذلك في غرفتها لا في الإيوان؟ لكنه تجاهل وقال: «إن ركن الدين أهل لثقتك، لا بأس من أن

يعهد إليه في ذلك بأمر منك رأسا.»

فمدت يدها إلى جيبها واستخرجت ورقة ملفوفة وقالت: «إليك ما كتبته له في ذلك.»

فتناول الورقة وفضها، فإذا هي أمر صادر إلى ركن الدين هذا نصه:

من ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجليل، والدة المرحوم خليل، زوجة

الملك الصالح رحمه الله؛ إلى القائد الباسل الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري.

نظرا لثقتنا الكبرى ببسالتك وعلو همتك، ولما ظهر من بلائك في دفع الإفرنج عن

بلادنا، ولما كان هؤلاء الملاعين لا يزالون يناوئوننا في جهات دمياط، عهدنا إليك

بعد مشورة مدبر مملكتنا الأمير عز الدين أيبك أن تخرج إليهم برجالك الذين تختارهم

وتكفينا أمرهم. وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

والدة خليل

فلما قرأ الأمر أعجبه قولها إنها فعلت ذلك بمشورته، فطوى الكتاب وبعث به إلى ركن الدين،

وعاد إلى محادثتها في شئون الدولة، وهي تبذل جهدها في مجاملته ليطمئن قلبه لها، ولا يزال

الشك يخامره - والمحب كثير الشكوك - لكنه كان يطرد تلك الشكوك من خاطره، فلما انصرف من

عندها وخلا إلى نفسه عادت إليه الشكوك.

أما ركن الدين فإنه لما جاءه كتاب شجرة الدر بادر إلى تنفيذه، وقد اتسعت آماله فيما تطمح

إليه نفسه من الارتقاء في مناصب الدولة، وهو يرى نفسه أهلا لأكبر المناصب؛ فإنه كان كبير

المطامع عالي الهمة، والدولة في اضطراب، وقد خطر له أن الدولة التي تستطيع امرأة أن تصير

ملكة فيها لا يعجز فيها عن نيل ذلك مثله، ولكنه يعلم أن مطلبه عسير وعز الدين أمامه، وهو

صاحب النفوذ الأقوى عند الجند وعند شجرة الدر نفسها. على أن ما آنسه من ملاطفة في ذلك اليوم

بعث في نفسه بعض الشجاعة، فكتم مطامعه هذه عن الجميع لعلمه بما يعتور ذلك من الخطر . ومع ذلك

فإن حبه شوكار هون عليه كل عسير وصار من أقوى الدوافع له على طلب العلا.

أما شوكار فإنها أصبحت بعد سفر ركن الدين إلى دمياط شديدة الميل إلى سماع أخبار الحرب

واستطلاع ما جرى، وهي تصبر نفسها، وكلما طال انتظارها ازدادت شوقا ولهفة. وأما هو فكان

يغتنم قدوم بعض خاصته للسؤال عنها وتتبع أحوالها.

ومضى على ذلك ثلاثة أشهر لم يأت إلى القاهرة خلالها إلا مرتين، فاجتمع فيهما بشوكار على

علم شجرة الدر وسمع غناءها. وفي المرة الثانية تواعدا على العقد بعد رجوعه، فمكثت تنتظر ذلك

بفارغ الصبر كأن قلبها دلها على سوء سيصيبها. •••

مشى عز الدين بعد خروجه من الإيوان إلى المنزل الخاص به في القلعة، ودخل غرفة فيه تطل على

القاهرة، وقد تعمد الخلوة ليفكر في تلك الظنون التي غزت قلبه، وهو لا يزال في أول هذا الدور

الجديد، وجلس على مقعد بجوار النافذة، فوقع بصره على القاهرة وما وراءها من الفسطاط إلى

النيل وفيه جزيرة الروضة، فتذكر الملك الصالح، وأيامه هناك مع شجرة الدر، فمر في مخيلته

تاريخ علاقته بها، فلم يجد ما يوجب شكا، فعاد إلى حسن الظن.

وبينما هو في ذلك، إذ جاءه غلام ينبئه بمجيء امرأة منقبة تريد مقابلته، فسأل الغلام من هي

تلك المرأة، فقال: «لم أستطع تمييزها لأنها منقبة وقد غطت وجهها.»

فنهض وهو يفكر فيمن عساها أن تكون، وسار إلى غرفة خاصة بمقابلة القادمين، فوجد تلك المرأة

جالسة على المقعد وقد التفت بملاءة ثمينة، ويدل مجمل حالها على أنها لم تأت لطلب صدقة، فدخل

وحياها فردت التحية وهي تتحفز للنهوض، فأشار إليها أن تقعد فقعدت، وقعد هو بين يديها وقال

لها: «من أنت وماذا تريدين؟»

فأزاحت النقاب عن وجهها ولم تجب، فإذا هي سلافة قيمة قصور الملك الصالح، وكان معجبا

بجمالها، وله معها مواقف كانت هي الظافرة فيها؛ نظرا لما كان لها من المنزلة عند الملك

الصالح، وكان يحترمها من أجل ذلك، ولم يكن يتوقع أن يراها آتية إليه على هذه الصورة . فحالما

كشفت وجهها بادر إلى الترحيب بها فقالت: «لم آت إليك لضيافة، ولكنني جئت ألتمس منك شيئا

أنت صاحب الأمر فيه.»

فقال: «وما هو؟» قالت: «علمت اليوم أن أمور الدولة صارت إلى صديقتك شجرة الدر، وأنا كما

تعلم قيمة قصور الملك الصالح، والملك الصالح مات، وقصوره نهبت، وأثاثها نقل إلى هذه

القلعة، وصارت الحكومة إلى إحدى جواريه، لا تؤاخذني على هذا التعبير. إنها جارية ولكنها

صديقة عز الدين أيبك، وهو الذي رفعها إلى مقام الملك. أنت رفعتها إلى ذلك المقام لأنها

صديقتك، ولك الخيار فيما فعلت، هنأها الله بهذا المنصب. وإنما جئت الآن أطلب منك أن تطلق

سراحي من الخدمة، ولم يبق لي عمل في هذه القصور؛ إذ لم يبق فيها دور للحريم، بعد أن صارت

ملكتنا من الحريم، فاصرفني، أم أنت لا تقدر أن تفعل ذلك من تلقاء نفسك بدون أن تشاور ملكة

المسلمين؟»

وكان لكلام سلافة وقع شديد في نفس عز الدين وهو في تلك الحال من التردد والشك، وكان يجل

قدرها ويحب التقرب منها، ولكن لم تكن تسنح له فرصة في حياة مولاها. ولما جاءته في تلك الحال

وقع في حيرة، وتنبهت فيه عوامل كثيرة؛ أهمها احتقار نفسه لأنه خضع لامرأة لم ترض امرأة مثلها

أن تخضع لها، وتنبه في خاطره حب كان كامنا فهاجه لقاؤه لسلافة، ولم يسعه السكوت مع ذلك عن

الدفاع عن شجرة الدر حفظا لكرامته فقال: «إن شجرة الدر لم تصل إلى هذا المنصب إلا لأنها أم

ولد السلطان كما تعلمين.»

قالت: «صدقت، بارك الله فيكم، لم تبايعوها إلا لأنها أم ولد السلطان. ما شاء الله! وأين

ذلك الولد؟ لقد مات. وإذا كان الغرض المحافظة على نسب السلاطين الأيوبيين في هذه السلطنة

أفلم يكن الأولى أن تولوا عليكم أيوبيا يكون الأمير عز الدين وصيا عليه؟ إن الأمير عز

الدين الآن مدبر المملكة، ولكن هل الأمر بيده؟ أنا أعرف جنس النساء، إنهن لا يحفظن الوداد، لا أقول هذا عن شجرة الدر وحدها، لكن هكذا طبيعتنا نحن النساء، ويؤيد ذلك ما جاء عنهن في كتب

الدين، وعلاوة على ذلك فإن هذه السلطنة لا تثبت إن لم يأت كتاب أمير المؤمنين العباسي

راضيا عن هذا الاختيار.»

فقال: «وهل تظنين أمير المؤمنين يعترض على هذا التعيين؟»

قالت: «لا شك عندي في ذلك.»

قال: «أظنك مخطئة يا سلافة؛ لأن شجرة الدر حكيمة عاقلة، وقد اختارها الأمراء والقواد، فلا

أظن أمير المؤمنين يخالفهم.» قالت: «أؤكد لك أن أهل بغداد سيغضبون لهذا العمل وليس الخليفة

فقط، وسوف ترى، إني أعرف هذه الأمور من قبل. ما لنا ولذلك، إنما أطلب منك الآن أن تصرفني

وتطلق سراحي، ولكن دون مشورة أحد.»

قال: «وإلى أين تذهبين إذا أطلقت سراحك؟» قالت: «أذهب في هذه الدنيا.» وغصت بريقها

وتساقطت دمعتان على خديها فمسحتهما، وأظهرت أنها خجلت من الضعف الذي ظهر عليها وسكتت.

فأثر منظرها في قلبه وقال: «بدلا من ذهابك في هذه الدنيا، امكثي عندنا.» قالت: «أين

أمكث، وقد ذهبت القصور والنساء، وحيثما مكثت سأكون أسيرة سجينة، أو رهينة رضا ملكة المسلمين

أو غضبها؟! وهذا لا صبر لي عليه مثل صبركم أيها الرجال العظام والقواد البواسل، فإني امرأة

ضعيفة.»

فأحس بالتهكم الذي يتخلل أقوالها ووجدها مصيبة فيما تراه، وأعجب بجسارتها حتى تقول ذلك

له، فقال لها: «يا سلافة، كفى تأنيبا وتعنيفا، ما حدث قد حدث، وأنا أعرف قدرك، ولا أحب

أن تخرجي على هذه الصورة، فامكثي عندي و...

فقطعت كلامه قائلة: «أمكث عندك؟! مسكين! وما الذي يصيبك لو علمت شجرة الدر بوجودي هنا؟»

فوجد الحق معها، لكنه كبر عليه أن يعترف بهذه الحقيقة فقال: «ما لها ولمن عندي؟! أنا لا

أتعرض لما عندها.»

قالت: «وما هو الفرق بين الملوك وسواهم؟ هل يجوز لنا ما يجوز للملوك؟ هل يخيل إليك أنك لو

رأيت رجلا خارجا من غرفة شجرة الدر صديقتك الحميمة - وأنت الذي وضعتها في هذا المنصب -

يحق لك أن تسأل عن سبب وجوده هناك؟ أما هي فلها أن تعد أنفاسك وتحاسبك على كل خطوة.»

فتذكر رؤيته ركن الدين في ذلك الصباح خارجا من عندها وما خامره بسبب ذلك من الشكوك، فأطرق هنيهة يفكر، لكنه خاف أن يدل ذلك على ضعف فيه، وهو لا يريد أن يظهر ذلك، خصوصا بين

يدي سلافة بعد ما أسمعته إياه من اللمز والتعريض، فقال: «أنت تعتقدين إذن أن وصول شجرة الدر

إلى هذا المنصب أبعد ما بينها وبيني، فحق لها أن تتصرف كما تشاء، فما الذي يمنعني من أن

أفعل أنا ما أريده ولا ألتفت إلى ما يرضيها أو يغضبها؟»

فقالت: «لا، لا أشير عليك بذلك، إنه يكون سببا لتنغيص العيش، ولا أحب أن يكون ذلك

بسببي.»

قال: «هل تظنين وجودك عندي يغضبها؟ ومع ذلك لا أرى حاجة إلى إطلاعها على وجودك عندي.»

فهزت رأسها وقالت: «أنها جرأة عظيمة منك يا سيدي؛ إذ أحببت أن أكون تحت ظلك، ولكني لا أرى

أن أقيم معك في منزلك، بل أقيم في مكان آخر، وأنا في كل حال صديقتك، وسأبقى على ودادك ولو

صرت ملكة المسلمين، على أني لا أضمن ذلك؛ لأن الإنسان عرضة للتغير.» وضحكت.

فقال: «ما الذي يجول بخاطرك وتخافين أن يتغير؟» قالت: «يجول بخاطري أن النساء لا يصلحن

للحكومة، وأن السلطنة لا تليق إلا بك، فأنت قائد الجند، وأنت حاربت الإفرنج وقهرتهم، وأنت

دبرت كل شيء؛ هذا ما أراه الآن ولا أغير فكري فيه.» فكان لهذا الإطراء وقع جميل في قلبه.

والإنسان تخدعه ميوله حتى تريه الأسود أبيض والخرافة حقيقة، ومن فطرته أن يعتقد صدق مادحه

وإخلاصه ويميل إليه بقلبه، وقد عرف هذه الطبيعة أصحاب التدبير الذين يحتاجون إلى مصانعة

الناس في التجارة أو غيرها فاتخذوا مدح عملائهم وإطراء مناقبهم وسيلة للتقرب إليهم واكتساب

ثقتهم، واتخذ هذه الخلة أيضا طلاب رضا النساء، وجعلوا إطراء جمالهن وسجاياهن وسيلة لاكتساب

قلوبهن؛ ولذلك قال أمير الشعراء:

خدعوها بقولهم حسناء

والغواني يغرهن الثناء

والحقيقة أن الثناء لا يغر الغواني فقط، بل هو يغر كل إنسان، ويندر أن ينجو عاقل من

الوقوع فيه.

فلما سمع عز الدين عول سلافة اعتقد صدقها وأنها مصيبة فيه، وتوهم ألا غرض لها غير تقرير

الحقيقة، وتمكن اعتقاده في إخلاصها وصدق مودتها، وكان ذلك باعثا على التباعد بينه وبين

شجرة الدر بدون أن يشعر. وافترقا على أن تقيم سلافة في قصر خاص بها وتكون تحت رعايته.

وبعد ذهابها أخذ يفكر فيما قالته فوجدها على صواب؛ إذ كان يجب أن يتولى السلطنة أحد غلمان

بني أيوب، على أن يكون هو مدبرا للمملكة ولا يكون هناك باب للاعتراض، وذلك أفضل من أن

تتولى الدولة امرأة.

الفصل الخامس

خلع شجرة الدر

أصبح أهل القاهرة يتهامسون عن رسول قادم من عند أمير المؤمنين العباسي وقد نصب فسطاطه

خارج القاهرة، وأخذوا يتكهنون فيما عسى أن يكون كنه رسالته؛ إذ يندر أن تأتي رسالة من

الخليفة العباسي، إلا إذا كان هناك أمر مهم من عزل أو تولية.

وكان الرسول حين أشرف على القاهرة قد بعث أحد رجاله ينبئ القواد والأمراء بقدومه ليرسلوا

من يستقبله كما هي العادة احتراما للرسالة التي يحملها من خليفة الرسول. ولم يمض كثير حتى

ضجت المدينة وغصت الشوارع بالمارة والوقوف، ولا سيما في الشوارع الممتدة من باب النصر إلى

القلعة حيث يمر الرسول. واستعد الأمراء والقواد في القلعة للاجتماع وسماع الرسالة عند

تلاوتها، وأكثرهم يظن أنها تتعلق بسلطنة شجرة الدر، والأرجح عندهم أنها تثبيت لها في المنصب

كما تعودوا فيمن ولوهم من السلاطين. وتقاطر الأمراء والقواد إلى الإيوان، وفي مقدمتهم عز

الدين أيبك وغيره من الأمراء البحرية، إلا ركن الدين؛ لأنه كان غائبا في دمياط. أما شجرة

الدر فقد كانت على سريرها في صدر الإيوان، وعليها ثوبها الملكي الذي لبسته يوم الاحتفال

بتوليتها منذ ثلاثة أشهر ومعها شوكار، وكانت هذه حزينة لغياب ركن الدين، فإنها كانت تود

حضوره.

أما سلافة فكانت أعلم الناس بفحوى تلك الرسالة؛ إذ جاءها رسول خاص من قيمة قصر الخليفة

المستعصم بالله كان مرافقا لرسول الخليفة، وقد أنبأها أن الرسالة تضمنت خلع شجرة الدر عن

سلطنة مصر، فكاد قلبها يطير فرحا، وأحبت إبلاغ ذلك إلى عز الدين، وكان يتردد عليها في

أثناء هذه المدة، وقد تحابا وبلغ خبرهما إلى شجرة الدر فاستاءت، لكنها كظمت غيظها، فلما علمت

سلافة بقدوم رسالة الخليفة، بعثت إلى عز الدين فجاءها، فقالت له: «بلغني أنه جاءكم رسول يحمل

كتابا من أمير المؤمنين، ما هو فحواه يا ترى؟» قال: «لا أعلم.» قالت: «وما ظنك أن يكون

فحواه؟» قال: «قلت لك إني لا أعلم، فهل أنت تعلمين؟»

فضحكت وقالت: «نعم أعلم، وقد قلت لك عن فحواه منذ ثلاثة أشهر، ألا تذكر؟» فأطرق وهو يفكر،

فتذكر حديثها الأول معه يوم جاءته إلى القلعة، وذكرت له يومئذ أن الخليفة لا يسلم بسلطنة

شجرة الدر، فقال: «أظنك تعنين حديثنا عن شجرة الدر؟» قالت بتهكم: «نعم عن ملكة

المسلمين!»

قال: «أذكر أنك تنبأت أن الخليفة لن يوافق على توليتها، فهل جاء الرسول بهذه

المهمة؟» قالت: «نعم جاء بهذه المهمة، وفحوى رسالته خلع هذه المرأة عن الملك.»

فأدهشته هذه المفاجأة لأنه لم يكن ينتظرها، واستغرب اطلاع سلافة على ذلك الخبر قبل كل

إنسان، والرسول لم يدخل القلعة بعد، والكتاب ما زال في حقيبته، فقال لها: «كيف عرفت ذلك؟»

فضحكت وقالت: «عرفته وتنبأت به قبل حدوثه، لعلمي أن تلك التولية لا ترضي أمير المؤمنين.

والآن كن حازما، واعلم أن الرأي الذي ذكرته لك منذ ثلاثة أشهر هو الرأي الصواب. هل

تذكره؟»

فظهرت الدهشة على عز الدين، فشعر بضعفه بين يدي تلك المرأة، وفكر فيما تطلبه منه، فتذكر

أنها أشارت إليه يومئذ أن يولي أحد أبناء الأيوبيين ويكون هو مدير المملكة والوصي على

العرش، ثم يغتنم الفرصة ويستقل بالسلطنة بعد أن تستقر قدمه فيها فقال: «نعم أذكره، لكن ما

هو السبيل إلى إتمامه؟ ومن هو الغلام الأيوبي الذي يمكننا تنصيبه؟»

قالت: «متى بلغتم إلى هذا الأمر، فأنا أدلك على من يصلح لذلك.»

قال: «قولي الآن فربما لا تسنح الفرصة بإعادة النظر.»

قالت: «صدقت. أتعرف موسى بن صلاح الدين بن مسعود بن الكامل ؟» قال: «نعم أعرفه، لكنه غلام

لم يجاوز الثامنة من عمره.»

قالت: «لو كان في الخامسة لكان أصلح لما نريده. هذا الغلام هو أولى الأيوبيين بهذه

السلطنة، ومتى كنت أنت الوصي عليه كان كل شيء إليك.»

قال: «ولكن من يضمن لي الوصاية عليه؟»

قالت: «أنا أضمنها لك، بشرط ألا تظهر ضعفا، وأن تكون أنت المقترح لسلطنة موسى هذا، وإتمام

ذلك علي.»

قال: «وهل تحضرين الاحتفال معنا؟» قالت: «أحضر مع النساء من وراء الستر.» فودعها وخرج من

عندها وقد ملكت عقله بعد أن ملكت قلبه. ولما وصل إلى القلعة، وجد الأمراء في انتظاره وكانت

شجرة الدر أكثرهم قلقا على غيابه، فقد علمت بغيابه وهي وراء الستر، وكان قلبها دلها على

تنافر بينهما. ومكثت تنتظر وصول الرسول وتلاوة الكتاب وهي لا تعلم ما هو مخبوء لها. •••

كانت الجماهير تموج في ساحة القلعة منذ صباح ذلك اليوم، وجاء الخبر بوصول الرسول، فتقدم

الحاجب لاستقباله حتى دخل الإيوان، ووقف الأمراء على الجانبين، وشجرة الدر فوق سريرها وراء

الستر ومعها شوكار. وقد لحظت هذه اضطراب سيدتها وخوفها فأخذت تخفف عنها وتطمئنها وتداعبها

وهي تتجلد وتصغي لما يدور من الحديث في الخارج، ثم سمعت عز الدين يقول: «أيها الأمراء، هذا

رسول مولانا الخليفة أمير المؤمنين المستعصم بالله حفظه الله، ومعه كتاب من الخليفة سيتلوه

علينا، فاسمعوا له وأضمروا الطاعة لما يحويه؛ لأنه من خليفة الرسول

صلى الله عليه وسلم .» فصاح الجميع: «نحن مطيعون للرسول وخليفته.»

فتقدم حامل الكتاب، ووقف على منصة وفضه، وأخذ يقرأ والناس سكوت كأن كان رءوسهم الطير،

ويكاد أحدهم يقطع نفسه لئلا يكدر عليه سمعه وهذا نص الكتاب:

من أبي أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر بالله أمير المؤمنين إلى أمراء

الجند والوزراء في مصر، السلام عليكم، وبعد، فقد بلغنا أنكم وليتم أمركم شجرة الدر،

جارية الملك الصالح، وقلدتموها أمور الدولة، وجعلتموها سلطانة عليكم، فإذا لم يكن

عندكم رجال يصلحون للسلطنة فأخبرونا لنرسل إليكم من يصلح لها، أما سمعتم في الحديث

عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم : «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».»

ولم يفرغ القارئ من تلاوة الكتاب حتى ضج الناس وعلت الضوضاء، ولا تسل عن شجرة الدر وما

أصابها لما سمعت ذلك، لكنها كانت عاقلة حازمة، فلما سمعت أمر الخليفة وعلمت أنه لا مندوحة

لها عن العمل به، تجلدت وأومأت إلى الحاجب أن يزيح الستر المنصوب بينها وبين المجلس، فأزاحه

والتفت الناس نحو السرير وتهيبوا، ولبثوا ينتظرون ما يبدو من شجرة الدر بعد تلاوة الكتاب،

فإذا هي تقول: «يا معشر الأمراء، قد سمعتم ما أمر به أمير المؤمنين، وطاعته فرض على كل

مسلم. قد صدق - حفظه الله - فإن النساء لا يصلحن للسلطنة، وأنا لم أقبل هذا المنصب إلا

عملا برأيكم أيها الأمراء والقواد ورغبة في استقرار الأحوال بعد اضطرابها، أما الآن وقد

استقرت الأمور وسمعنا رأي مولانا الخليفة، فإني أخلع نفسي وأطلب منكم أن تختاروا من ترونه

ليتولى هذا الأمر، وأنا أول من يخضع له.»

فاستحسن محبوها هذا التنازل منها؛ لأنه دل على كبر نفسها وسعة عقلها، ولم تستحسنه سلافة؛ لأنها كانت تحب أن تتردد فينزلوها كرها، على أنها فرحت بخلعها. ولما فرغت شجرة الدر من قولها، خرج صوت من وراء حجاب يقول: «لا نقبل

علينا سلطانا ليس من سلالة آل أيوب.»

ولم يعرف الأمر من أين خرج الصوت، لكنه عبر عن شعور كثيرين، فأمنوا عليه وصادف هوى من

نفوسهم؛ فقد كان أكثر المصريين عند تولية شجرة الدر غير راضين عن توليتها، ويطلبون تولية رجل

من آل أيوب، لكنهم أذعنوا خوفا من الجند، فلما خلعت وسمعوا صوتا يقترح ما يشعرون به، أجابوا بالموافقة ولو لم يعرفوا المقترح. وعلا الضجيج، وكان الصوت الغالب اختيار سلطان من آل

أيوب. فتوجهت الأنظار نحو كبير الأمناء هناك، وهو عز الدين أيبك، كأنهم يستشيرونه، فقال: «إن

مولاتنا شجرة الدر قد برهنت بتنازلها عن الملك على أنها مخلصة لمولانا أمير المؤمنين، وأنها

حريصة على حقوق المسلمين، ونحن لم نولها هذا المنصب إلا لأنها والدة المرحوم خليل من سلالة

الأيوبيين، أما الآن فما علينا إلا اختيار أحد أمراء تلك السلالة، وأعلم أن منهم مولانا موسى بن صلاح

الدين بن مسعود لكنه صغير السن.»

فقاطعه حامل الكتاب قائلا: «لا يضره صغره، فإنك وصيه وقائد جنده ومدبر أموره، فما رأيكم

أيها الأمراء؟»

فصاحوا جميعا: «هذا هو الصواب، لا نرى أصوب منه.»

فاستغرب عز الدين ذلك من صاحب الكتاب وهو قادم من بغداد، وكيف عرفه ورشحه لهذا المنصب.

فلما سمع مصادقة الجمهور وقف ساكتا، فقال حامل الكتاب: «بما أنكم قد أقررتم تولية موسى بن

صلاح الدين، فلنفعل ذلك الآن، وقد دفع إلي مولانا أمير المؤمنين شارات السلطنة لألبسه

إياها.»

قال ذلك وأشار إلى بعض رجاله فدفع إليه حقيبة كالصندوق، فأمره ففتحها وفرش ملاءة وأخذ

يستخرج ما في الصندوق ويضعه فوقها، والناس ينظرون، فكان أول شيء استخرجه خلعة سوداء، هي شارة

بني العباس، ثم عمامة سوداء، وأخرج طوقا من ذهب للعنق، وقيدا من ذهب للرجل، فلما صارت كلها

على الملاءة قال: «هذه شارات السلطنة، فأتوني بالسلطان موسى بن صلاح الدين لنلبسه إياها؛ فقد

أوصاني أمير المؤمنين ألا أخرج من مصر إلا وعليها سلطان من آل أيوب.»

فسارع عز الدين إلى إحضار موسى، ولم تمض مدة قصيرة حتى جيء به، وهو طفل في الثامنة من

عمره، فألبسوه تلك الشارات على قدر الإمكان، ونادوا به سلطانا على أن يكون عز الدين أيبك

وصيا عليه ومدبرا لأمور الدولة بالنيابة عنه.

كل ذلك وشجرة الدر على سريرها ترى وتسمع، فلما فرغوا من تنصيب السلطان الجديد وأرخوا

الستار عليها تنفست الصعداء وأكبت على كتف شوكار وأخذتا في البكاء، وشوكار تتجلد وتقول: «هلمي يا سيدتي نذهب إلى غرفتك لئلا نفتضح.»

فأطاعتها، ومشتا نحو الغرفة، ولما وصلتا إلى هناك أخذت شوكار تخفف عن سيدتها، وهذه تتأوه

وتتنهد، وأخيرا قالت: «لا أعلم سبب هذا التغيير، ولكنني أحسنت بالتنازل من تلقاء نفسي. ولا

تظني أني آسفة على اعتزال هذا المنصب الشاق، وأنت أعلم الناس بما كنت أشكوه من ثقال أعبائه .

ويكفيني أني أول امرأة تولت الملك في الإسلام، وأنت الآن تعزيتي الوحيدة.»

فلم يعجبها قولها لأنها أصبحت تفضل أن تكون تعزية ركن الدين، فسكتت، فابتدرتها شجرة الدر

قائلة: «إنما أتأسف لأني لم أبق على كرسي الملك حتى ينال ركن الدين ما هو أهل له من الرتب

العالية، لكنه سينالها من سواي، ولو كان هنا اليوم لنال شيئا، وربما كان هو المختار

للوصاية.»

فانقبضت نفس شوكار عند سماع ذلك، وتأسفت لفوات الفرصة، لكنها عادت إلى إطراء سيدتها

وقالت: «إنما يهمني يا سيدتي أن تكوني سعيدة.»

قالت: «إني سعيدة بك يا شوكار كما تعلمين، والحمد لله على أن تخلصت من أعباء الملك. لقد

ذقتها فلا أحسد أحدا عليها ولا أتمنى أن أعود إليها.»

قالت شوكار: «صدقت يا سيدتي؛ لأني رأيتك منذ توليت السلطنة قلقة الخاطر، وكنت قبلها

منشرحة الصدر، فلنعد إلى ذلك. متى يعود ركن الدين يا ترى؟»

قالت: «سيعود قريبا، إنه حالما يسمع بهذا التغيير يأتي، ومتى أتى نلت ما وعدتك به.»

فأطرقت وسكتت. •••

تولى الأمر موسى بن صلاح الدين، ولقبوه بالملك الأشرف، وناب عنه في تدبير الأمور عز

الدين. ولقد أحس هذا أن ما ناله في هذا اليوم كان الفضل فيه لسلافة؛ فلما انصرف القوم كان

أول شيء عمله أنه ذهب إلى منزل سلافة، فرآها جالسة جلوس الملك الظافر وهي تضحك لنجاح مهمتها،

فلما دخل ألقى التحية فقالت: «كيف رأيت أيها الأمير؟ ألم تكن سلافة عاقلة تفهم سرائر

الأمور؟»

قال: «صدقت والله، إنك جئت بالمعجزات. ألا تخبرينني كيف استطعت الاطلاع على هذه الأمور قبل

وقوعها؟»

قالت: «أما وقد علمت صدق مودتي لك، فلا أخفي عليك أني أنا السبب فيما رأيته من التغيير

والتبديل؛ بسبب صداقتي لقيمة قصر الخليفة المستعصم بالله، فإني كتبت إليها كتابا ترتب عليه

ما رأيت، ولكنها اشترطت علي أمرا ضمنت لها تنفيذه ولم أحدثك عنه من قبل، لعلمي أنك لا ترى

مانعا من إمضائه.»

قال: «وما هو؟» قالت: «أتعدني أنك فاعله؟»

ففكر فيما عسى أن يكون طلبها ، وخاف أن يكون فيه ما يسوءه، لكنه لم يسعه إلا الطاعة فقال: «إني فاعل ما تريدين.»

قالت: «هذا كتاب قيمة القصر تقول فيه إن مولانا أمير المؤمنين بلغه أن فتاة رخيمة الصوت

تتمتع شجرة الدر بغنائها، وقد طلب أن ترسل إليه حالا؛ لأن أمير المؤمنين مغرم بالغناء، وقد

ضمنت لرسول الخليفة أن أرسل معه جارية شجرة الدر هدية للخليفة.»

قال: «لعلك تعنين المغنية شوكار؟» قالت: «نعم، إياها أعني، فماذا ترى؟»

قال: «هذا هين علي، وأظنه يسر الجارية لأنها ستنتقل من خدمة ملكة مخلوعة إلى قصر خليفة

عظيم.»

فأعجبها قوله «ملكة مخلوعة»، وابتسمت وقالت: «ولا يخفى عليك أن إرضاء الخليفة لا بد لك

منه الآن، وأنك ستحتاج إلى رضاه عنك إذا أحسنت التدبير وصرت سلطانا مستقلا. أظنك فهمت

مرادي.»

فأومأ برأسه أنه فهم كل شيء، وأسرع إلى النهوض وأشار إليها مودعا وهو يقول: «ائذني لي في

الانصراف للقيام بهذه المهمة.»

قالت: «سر يحرسك الله، ولا تنس أن الرسول سيسافر غدا، ويجب أن تكون معه شوكار.»

وسار عز الدين إلى القلعة متنكرا، وكان في أثناء الطريق يفكر في سلافة واقتدارها، وقد شعر

بفضلها عليه، ورأى أنه لم يكن أمينا في حب شجرة الدر، ولكنه اغتفر لنفسه ذلك بما كان قد

داخله من الشك في أمرها مع ركن الدين بالأمس، وكان يجب أن يؤجل مقابلة شجرة الدر إلى الغد

ريثما يهدأ روعها، لكن إلحاح سلافة بعثه على سرعة مقابلتها.

فلما دخل القلعة صار توا إلى منزل شجرة الدر، وكانت جالسة في غرفتها مع شوكار، وقد أخذت

هذه تعزف على العود وتغنيها لتخفيف ما بها. ولما أقبل عز الدين على باب الدار سمع صوت العود

فأشار إلى الحاجب أن يخبر شجرة الدر بقدومه.

ودخل الحاجب وأنبأها بذلك، ولكن عز الدين لم ينتظر جوابها بالإذن، بل دخل توا بما له من

الصداقة، فلما أقبل على الغرفة رأى شجرة الدر بثياب المنزل، وقد عصبت رأسها بعصابة مزركشة

أرادت بها تخفيف صداع ألم برأسها على أثر ما كابدته في ذلك اليوم، فلما رأته داخلا تثاقلت

في النهوض وهي تتألم من الصداع، ولم يكن الصداع وحده سبب تثاقلها، لكنها كانت قد شعرت بتغير

قلبه وتحول محبته، ولم يفتها أمر سلافة وتردده إليها قبل خلعها، وتأكدت تغيره في ذلك اليوم

لأنها كانت تراقب حركاته، وعلمت أنه ذهب إليها عقب انفضاض المجلس في حين كان ينبغي له أن

يبادر إلى لقائها هي لكي يؤانسها ويخفف عنها، وهذا ما كانت تتوقعه لو كان باقيا على عهده

معها؛ فلما رأته داخلا انقبضت نفسها واختلج قلبها في صدرها عتبا وغيظا.

أما هو فأسرع إليها وهي تتحفز للوقوف وقال: «اجلسي يا سيدتي، لا حاجة إلى وقوفك، إني أراك

مريضة، ماذا أصابك؟»

فعادت إلى مقعدها وهي تصلح العصابة وتلتف بالمطرف وتكمش كأن البرد يتمشى في عروقها، وظلت

ساكتة، فقعد عز الدين على كرسي بين يديها وقال: «أظنك مصابة بالصداع الذي كان يتردد عليك

أحيانا.»

فقالت: «إنه صداع شديد لم أصب بمثله من قبل، لا أراك الله مثله يا عز الدين، وحماك من

غوائله.»

فلم يعجبه قولها، وأدرك أنها تعني شيئا تضمره، فقال: «لا ينجو أحد من الصداع يا شجرة

الدر، وليس هو مما يؤبه له، ولا يلبث أن يزول.»

قالت: «إنه يختلف عما تعودته قبلا، وتغيير العادة صعب، أليس كذلك؟» وظهر العتب في

عينيها.

فأدرك مرادها لكنه تجاهل وقال: «إن الإنسان لا يتعود الأوجاع، فإذا عاودته رآها في كل مرة

جديدة كأنه لم يذقها من قبل. ولو علمت أنك مصابة بالصداع لأسرعت إليك قبل هذه الساعة.»

قالت: «لا تشغل بالك بهذه الملكة المخلوعة، وأنت الآن في شاغل بأمور الدولة وغيرها.»

قال: «وهل تظنين أمور الدولة تشغلني عن شجرة الدر، وقد كان يجب أن أبادر إلى تهنئتك

بالنجاة من أثقال هذه المهام. وأعجبني منك ما أظهرته في هذا الصباح من رباطة الجأش وسعة

الصدر، وقد أحسنت في كل ما صدر منك فلم تتركي لأمر الخليفة بالخلع قوة أو أثرا.» وتنحنح

وبلع ريقه وقال : «والحق يقال؛ إن ذلك الأمر إذا كان له أثر فإنما يكون أثره موجها إلينا، أو

إلي خاصة؛ لأننا ألجأناك إلى قبول السلطنة، ولم يدر في خلدنا أن يكون ذلك مخالفا لإرادة

أمير المؤمنين.» فلم يعجبها منه ذلك المن عليها بأنه هو الذي جعلها ملكة فقالت: «أنتم

أخطأتم بالاقتراح وأنا أخطأت بالقبول. على أن نزولي عن عرش الملك لم يترك أثرا كبيرا في

نفسي بقدر ما ترك ...» وسكتت وهي تنظر إليه نظر العتاب.

فعلم أنها تشير إلى تغيره، فبادرها وقال بلهفة: «أخاف أن يكون قد داخلك شك في صداقتي

و...»

فقطعت كلامه قائلة: «لا، لا. لم يداخلني شيء، ولكنني تعلمت أن الإنسان لا ينبغي أن تغره

ظواهر الأمور دائما، والذي أراه الآن أن نترك العتاب ونروح خواطرنا بلحن نسمعه من شوكار.» والتفتت إلى شوكار، وكانت قد وضعت العود بجانبها، فتناولته وأصغت لما تأمرها به سيدتها

فإذا هي تقول لها: «أنت يا شوكار تعزيتي الوحيدة الآن، ولا أخاف تغيرك. غنيني لحنا محزنا.»

قالت ذلك وتلألأ الدمع في عينيها.

فتأثر عز الدين من منظرها، خصوصا بعد ما رآه من تعلقها بشوكار وهو قادم ليأخذها منها؛ فظهرت البغتة في وجهه، لكنه تشاغل بسماع الغناء، وهو يظهر أنه يسمع، والحقيقة أنه وقع في

حيرة، ولم يعد يعلم ماذا يفعل، والوقت لا يساعده على تأجيل مهمته، وقضى برهة وهو يفكر في

حيلة ينتحلها للدخول في الموضوع وطلب شوكار منها. فلما فرغت شوكار من الغناء التفت عز الدين

إلى شجرة الدر وهو يبتسم وقال: «يظهر أنك انقطعت عن كل شيء إلى شوكار، أليس في قصرك من يحسن

الغناء سواها؟»

قالت: «لا أعني الغناء فقط، وإنما أعني أنها تؤانسني، وأعتقد أنها تحبني، ولا أخاف أن

تتحول عن محبتي.»

فأدرك عز الدين ما تعنيه من تغيره عليها، لكنه صمم أن يصل إلى مراده فقال: «ولكن ليس من

الحكمة أن تعلقي آمالك بها إلى هذا الحد، أنا آتيك بمغنية أحسن منها متى شئت.»

فقالت: «لا، لا أريد سواها.»

فقال: «الأفضل أن تطلبي سواها .»

فقالت وكأنها أحست بما يضمره: «هل تنوي أن تسلبني هذه التعزية أيضا؟» قال: «لم أكن أحسب

لها هذا المركز لديك، ولولا ذلك لما وافقت على أخذها.»

فأجفلت وصاحت: «أخذها؟ من يأخذها مني؟ لا، لا، إنها جاريتي وأعزها معزة البنين. لا أسمح

بها لأحد أبدا.»

فتشاغل بحك عثنونه بسبابته وهو مطرق ثم قال: «صدقت، يحق لك أن تحرصي عليها وألا تسمحي بها

لأحد، ولكن الإنسان لا يقدر أن يفعل ما يشاء دائما. ولا سيما إذا كان الطالب لا يمكن رد

طلبه.»

فنهضت ونظرت إليه بدهشة وقالت: «من طلبها؟ قل يا عز الدين.»

قال: «لا تغضبي يا سيدتي، إن طالبها أعظم رجل في المسلمين.» فقعدت وقالت: «أظنك تعني

المستعصم بالله أمير المؤمنين؟ أما كفاه خلعي عن الملك حتى يطلب جاريتي؟»

قال: «يسوءني أني لا أرى مندوحة عن إجابة طلبه وهو أمير المؤمنين ونحن تحت رعايته، وهو

خليفة الرسول

صلى الله عليه وسلم .»

قالت: «وكيف طلبها؟ ومن جاء ليأخذها؟»

قال: «رسول الخليفة حامل كتابه، وقد رأيته بالأمس.»

فتناثر الدمع من عينيها رغم إرادتها، والتفتت إلى شوكار فرأتها مطرقة ساكتة ودموعها

تتدحرج على خديها، فأثر منظرها في نفسها وهاج غضبها وقالت: «هل وافقته على ذلك يا عز الدين؟»

قال: «وهل في الإمكان رد طلبه، وقد رأيت أمره نافذا فيما هو أعظم من ذلك؟»

فوقفت وأخذت تمسح عينيها بمنديلها وهي تكاد تتميز من الغيظ، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «ولكن هذه الفتاة مخطوبة.»

قال: «لا أعلم، وإنما علي أن أنفذ طلب أمير المؤمنين، فإذا كانت لأحد حاجة فليطالب بها

أمير المؤمنين.» قال ذلك ونهض وقد ظهر الإصرار والجد في حركاته، ثم قال: «فلتستعد شوكار

للسفر غدا صباحا، واعلمي أنها ستسافر معززة مكرمة لأنها طلبة أمير المؤمنين ولا خوف

عليها.»

وخرج عز الدين، ولم يكد يبلغ الممر حتى سمع بكاء شوكار وشهيقها لكنه تغافل وأوصى الحرس

هناك أن يراقبوها لئلا تفر خلسة في أثناء الليل.

وقد أحسن عز الدين بهذه الوصية لأن شجرة الدر كانت قد عزمت على أن تمهد لشوكار سبيل

الفرار، فلما رأت استحالة ذلك عظم الأمر عليها، وتمكنت البغضاء من نفسها، وأصبح همها

التخفيف عن شوكار والتهوين عليها، وتجلدت أمامها وبينت لها أن ذلك الأمر لا مناص من الطاعة

فيه، ولكنها ستبذل جهدها في إنقاذها، وأكدت لها أن ذهابها لا خوف منه.

أما شوكار فكان أكبر همها أن ترى ركن الدين وما يكون إحساسه بعد أن يسمع ذلك الطلب، وما

الذي يبدو من غيرته أو فتوره. ولكن لا سبيل إليه وهو بعيد، والوقت لا يساعد على استقدامه في

ذلك الليل، فاستسلمت وتوكلت، ولم يكن ذلك في عرف تلك الأيام شيئا عظيما؛ لما تمكن في نفوس

الناس من امتياز الخلفاء والأمراء، وأن أولئك الجواري مثل سائر المتاع لا إرادة لهن ولا

رأي، وعليهن الاستسلام لما يطرأ عليهن في الانتقال من سيد إلى سيد. ولولا خوف شوكار من أن

تخسر ركن الدين لكان انتقالها إلى بيت الخليفة مما يحسدها عليه كثيرات، ومع ذلك لم يكن لها

أن تختار.

وفي صباح اليوم التالي حملها بعض الخصيان إلى معسكر رسول الخليفة بعد أن ودعت مولاتها

وداعا مؤثرا، لكن شجرة الدر أكدت لها أنها لن تنساها، ولا بد من أن تقترن بركن الدين،

فسافرت إلى بغداد وقلبها في مصر.

أما شجرة الدر فقد شق عليها فراق شوكار كثيرا، لكن غضبها من عز الدين إنما كان سببه

الغيرة من سلافة، وحدثتها نفسها أن تلك الجارية هي سبب مصائبها. وقد نقمت على عز الدين

خيانته المضاعفة؛ فقد خانها في قلبها وأحب سواها، وخانها في منصبها فلم يبد اعتراضا على

خلعها وهو قائد الجند وصاحب القوة الفعالة، فاضطرت إلى الإذعان لحكم الزمان؛ إذ لم تر وسيلة

إلى غير ذلك.

على أنها تذكرت ركن الدين وهو آت عما قليل إلى القاهرة، فكيف تقابله؟ وماذا تقول له؟ وكان

هو حين بلغه ما حدث من الانقلاب في القاهرة قد سارع إليها، فوصل عقب سفر شوكار، وجاء إلى

شجرة الدر قبل مقابلته عز الدين، فأخبرته بما جرى ولا سيما في شأن شوكار، وأكدت له أنها بذلت

جهدها في إقناع عز الدين ليبقيها فأبى، وبالغت في وصف قحته وفظاظته لكي توفر صدره عليه.

وكان ركن الدين ما زال بثياب السفر، فعظم عليه الأمر، وقام في خاطره لأول وهلة أن عز

الدين فعل ذلك نكاية فيه ليحرمه من شوكار، لكنه كان رابط الجأش واسع الصدر حريصا على سره،

فلم يجب بكلمة واحدة مع أن الغضب بدا في عينيه، وكانت شجرة الدر تلاحظ ذلك فيه فتعيد الشكوى، وتتوقع أن يقول قولا يشفي غليلها، ولا يشفيه إلا أن يتوعد عز الدين بالقتل؛ لأن حبها له قد

تحول إلى كره بعد ظهور خيانته.

وبعد حديث طويل وهو ساكت ملت سكوته، فقالت: «ما بالك يا ركن الدين؟ لعلك سررت بذهاب شوكار

من يدك كما سررت بذهاب الدولة مني؟ وكلاهما من فعل ذلك الخليفة الخليع؟!»

فعظم عليه ذلك التعبير الجريء عن الخليفة فقال لها: «وأي خليفة تعنين؟»

قالت: «أعني المستعصم، صاحب بغداد، الذي استعظم أن يتولى أمر المسلمين امرأة ولم يستعظم

أن يتولاه رجل ساقط الهمة ضعيف الرأي مشتغل باللهو والقيان وسماع الغناء.» قالت ذلك وقد بان

الغضب في عينيها، وتاقت نفسها إلى معرفة وقع هذا القول في نفس ركن الدين، فوجدته لم يزدد إلا

إطراقا وسكوتا.

ولو أوتيت قراءة الأفكار لعلمت أن سكوت ذلك الأمير أدل على غضبه من الكلام وأنفذ لغرضه من

السهام. وقد تنازعته عوامل كثيرة كل واحد منها يقيمه ويقعده، وقامت في نفسه أمور لو اطلعت

عليها شجرة الدر لشفي غليلها وخفت نقمتها؛ لأنها كانت تستحثه على المسير ذراعا وهو يريد أن

يمشي ميلا أو فرسخا.

فلما رأته ما زال ساكتا أشكل عليها أمره فقالت: «تكلم يا ركن الدين، تكلم، لقد ضاق صدري

من سكوتك، لعلك لم تصدق قولي؟ تمهل، إني سآتيك برجل يعرف هذا الخليفة حق المعرفة، وقد جاء من

بغداد أمس، اسأله ينبئك عن أفعال ذلك الخليع. اجلس وأنا أبعث إليه الساعة.»

فقعد وهو يلاعب شاربيه ولحيته بيده ويوشك أن يقتلع شعرهما بأنامله من فرط التأثر وهو لا

يشعر. وبعد قليل دخل البغدادي، وحالما رآه ركن الدين عرفه وناداه قائلا: «سحبان.»

فصاحبت شجرة الدر: «قد أنطقك الله بعد طول السكوت، الحمد لله، الفضل في ذلك لسحبان - حفظه

الله - قل يا سحبان، ما الذي تعرفه عن المستعصم صاحب بغداد؟ ولا تخف من التصريح، فإن ركن

الدين صديقنا، قل ما قلته لي البارحة.» •••

وكان سحبان قد عاد عن المهمة التي بعثته فيها سلافة وقضاها كما تريد، فلما جاءها وقص

عليها ما فعله لم يجد منها إقبالا، ثم لحظ تردد عز الدين عليها ورأى الجفاء منه أيضا، فتحول حبه لسلافة إلى بغض، ونقم عليها وعلى عز الدين. وهو ناقم على تلك الدولة برمتها لأنه

شيعي من أهل بغداد، وقد برحها فرارا من ظلم العباسيين واضطهادهم الشيعة بحيث لم يعد في

إمكانه الصبر على الضيم هناك، فجاء القاهرة منذ بضعة أعوام، واجتمع بمن فيها من الشيعة،

فتشاكوا فيما بينهم وهم صابرون مرتقبون سنوح الفرصة لعلهم يستطيعون أن يستعيدوا الأمر

للعلويين كما حدث في أيام الفاطميين. وكان سحبان ذا ثروة وتجارة واسعة، وقد أحب سلافة

فكلفته بتلك المهمة، فلما عاد شق عليه تغيرها، ولم يجد خيرا من أن يثير غضب شجرة الدر

عليها وعلى العباسيين وعلى سلطانهم بمصر جملة، وهو يعلم أنها قريبة الإصغاء إليه لما هي فيه

بسبب زوال منصبها وخيانة عز الدين لها. فقابلها بصفة تاجر، وكانت تعرفه كما تعرفه سلافة،

وأظهر أنه قادم من بغداد بسلع جديدة تليق بها، وتطرق في الحديث حتى هاجها على الخليفة، وأكد

لها خيانة عز الدين، فكتمت ذلك حتى جاء ركن الدين فقصت عليه ما عرفته، ولأجل التثبت استقدمت

سحبان، فلما رآه ركن الدين بش له ودعاه إلى الجلوس، فقالت شجرة الدر وهي تضحك: «كيف فارقت

أمير المؤمنين يا سحبان؟»

فقال: «فارقت رجلا لا هم له إلا سماع الغناء والاشتغال بالطعام والشراب والنساء.»

قالت: «وكيف ترى دولته؟»

قال: «إني أخاف على دولته من أهلها، إن لم أخف عليها من المغول؛ فإنهم أوشكوا أن يحملوا

عليها والناس خائفون. أما الخليفة فلا يهمه غير الطرب واللهو، وإذا ظل على هذه الحال

فالدولة ذاهبة لا محالة.»

فضحك ركن الدين وقال: «هل تذهب دولة العباسيين؟ قد سمعت أصحاب الأخبار يؤكدون أنها تبقى

أبد الدهر ولا يمكن أن تخلو الأرض منها.»

قال: «لكن الواقع أنها ذاهبة لا محالة.»

قال: «وهل تخلو الدنيا من خلافة؟»

قال: «كلا يا مولاي.»

قال: «فمن أين نأتي بالخليفة؟ ومن يثبت سلاطيننا على مصر؟»

قال: «ألا يصح التثبيت إلا إذا كان من العراق؟ ألا يصح أن يكون من مصر؟ ألم تكن مصر هذه

خلافة زاهية منذ أقل من مائة سنة؟ ألم تكن أحسن حالا وأوسع جاها؟

و...»

فلم يصبر عليه ركن الدين حتى يتم كلامه فقال له: «أظنك تعني دولة الفاطميين، ولكن أولئك من

الشيعة.»

فقال: «وما ضر أنهم شيعة؟ أليسوا مسلمين من قريش؟ وإنما الفرق أن الخلافة يكون مركزها في

هذه البلاد؛ فيزداد عمرانها، وتتسع تجارتها، وتعمر أساطيلها، وتمتد فتوحها، وتصير العراق إمارة من إماراتها بدلا من أن تكون صاحبة الأمر عليها.»

وكان سحبان يتكلم وركن الدين شاخص إليه مستغرق في تتبع كلامه ليستطلع حقيقة ما يكنه

ضميره، وهو يعلم غرض الشيعة، فصدق من كلامه ما يوافق غرضه، ولم يبد ملاحظة ولا صرح بما جال

في خاطره وما زاد على قوله: «لقد أفدتنا يا سحبان جزاك الله خيرا.» ونهض يريد الانصراف،

فنهض سحبان واستأذن وانصرف، وقد أدهشه سكوت ركن الدين وتكتمه، وقال في نفسه: «إنه رجل لا

يؤمن جانبه.»

أما شجرة الدر فلم تكن أقل دهشة من سحبان، فلما خرج قالت: «يا ركن الدين قد آن لك أن

تتكلم، ولا أزيدك شيئا على ما سمعته عن تضعضع العباسيين في بغداد ولا عن حال السلطنة

المصرية، فإن سلطانها غلام سنه ثماني سنوات، والحكومة كلها في يد الوصي عليه؛ عز الدين.»

قالت ذلك وهي تتميز من الغيظ.

قال: «أراك غاضبة على عز الدين، لعلك غضبت لأنه سمح بإرسال شوكار إلى الخليفة لتكون عنده

في جملة المغنيات.»

قالت: «نعم، هذا هو سبب غضبي الرئيسي، ولي على عز الدين أمور أخرى تخصني.»

فقال: «وهل ذهبت شوكار راضية؟»

قالت: «كلا، إنها ودعتني باكية وهي تذكر ركن الدين، وأوصتني أن أقول لك إنها باقية على

حبك لا ترضى عنك بديلا ولو كان الخليفة نفسه، وأنا أكدت لها أنك لن تتخلى عنها. إن البطل

ركن الدين سيكون ركنا قويا لنا، أعني أنا وهي؛ لأني أصبحت الآن وحيدة، وهذا عز الدين قد

شغل بسواي وبمنصبه ونسي الصداقة. ولكن لا بأس ليكن كما يشاء والله مع الصابرين.»

فقال ركن الدين: «إذن شوكار ما زالت على حبها لي؟»

قالت: «نعم، ولا شك عندي أنك ستتفانى في سبيل إنقاذها والانتقام لها. لكن قل لي ما رأيك

فيما ذكره سحبان من حيث الخلافة الفاطمية؟»

قال: «لم يعجبني قوله. إن الرجل يطلب خلافة شيعية، وهذا لا يصح ولا يليق بنا. ولكنني لم

أجبه سلبا ولا إيجابا. ولا أقول شيئا الآن على كل حال، بل أترك ذلك إلى حينه والأمور

مرهونة بأوقاتها. أستأذنك يا سيدتي.» قال ذلك ونهض خارجا فشيعته شجرة الدر قائلة: «في حراسة الله.»

الفصل السادس

ركن الدين

خرج ركن الدين من بين يدي شجرة الدر مخلفا أثرا عميقا في قلبها. رأت منه في ذلك الموقف

ما لم تره من قبل، وعظم أمره في نظرها، وقد زادها تهيبا منه تكتمه ما يجول بخاطره، فما هدد

ولا توعد ولا نقم، ولكنها كانت تقرأ ذلك كله على أساريره وفي عينيه.

أما هو فسار توا إلى غرفته في القلعة، ولم ينبه أحدا إلى مجيئه، وأجل مقابلة الأمير عز

الدين إلى الغد. دخل غرفته وأقفل بابها وأخذ في نزع ثيابه وهو غارق في التفكير فيما سمعه في

ذلك اليوم من الأمور الغريبة، وهو لا يزال في مقتبل العمر قليل الاختبار. وتلك أول مرة

انتبه فيها إلى مطامع الرجال الكبار على أثر ما سمعه عن قلب السلطنة بمصر، وما هي عليه

الخلافة في بغداد، ولم يفته غرض سحبان من تقبيح الخلافة العباسية وتحسين الخلافة الفاطمية،

ولا غاب عنه قصد شجرة الدر من المبالغة في سيئات المستعصم والتحريض عليه، وأدرك ما في نفسها

من النقمة على عز الدين، وأنها إذا أرادت فوز ركن الدين فإنما تريده انتقاما من الذين

أساءوا إليها. مر كل ذلك في خاطره وهو يبدل ثيابه، ثم قعد على فراشه وهو لا يزال في

التفكير، فرسخ في ذهنه أن شجرة الدر وسحبان إنما حرضاه على طلب السيادة لا حبا فيه، بل

انتقاما لنفسيهما. ولم يكره ذلك ولا رآه غريبا ولا عده خداعا؛ لأنه كان عاقلا حكيما

ينظر إلى الأمور من حيث حقيقتها، فلم يكن يرجو سحبان مساعدة ليس له من ورائها مصلحة، لعلمه

أن الناس لا يأتون عملا بلا قصد، ولا يقدمون على أمر إن لم يتوسموا من ورائه نفعا لهم.

ومن زعم أنه يفعل الخير مجانا لكي ينفع الآخرين فقد أخطأ وكذب. فإذا علمنا هذه الحقيقة سهل

علينا أن نعامل أصدقاءنا معاملة حقة، فلا تتوقع منهم فوق المستطاع، ولا نستقبح منهم أن

ينظروا إلى مصلحتهم فيما يخدمون به مصلحتنا.

كان ركن الدين على بينة من هذه الحقائق، وأدرك غرض صاحبيه من ذلك التحريض، فقبله شاكرا،

وعزم على الانتفاع به، لكنه فضل كتمان مقاصده إلى حين الحاجة. فلما قعد على فراشة وهو وحيد في

تلك الغرفة، طفق يحدث نفسه قائلا: «أخذوا شوكار مني. أخذها الخليفة إليه في بغداد ليسمع

غناءها، وهي نعمة قل من ينالها من الجواري الحسان. أرادت شجرة الدر أن تهيج غضبي على

المستعصم لأنه فعل ذلك، وهل يلام لأنه طلبها وقد رفع قدرها وزادها نعما؟ لا يحق لي أن

أنقم عليه أو أعد عمله إساءة لي؛ لأنه لم يتعمد أخذ شوكار وهو يعلم أنها خطيبتي أو امرأتي.

وقد يقال إن هذا الخليفة ضعيف أو محب للهو، يجب قتله أو خلعه لأجل ذلك، وهذا معقول، ولكن من

يضمن أن خلقه لا يكون أكثر ضعفا منه؟ ومن يخاطر بنفسه في خلعه أو قتله وهو لا يرجو أن ينال

حظا لنفسه من السيادة؟ وقد أضحكني ما رأى ذلك الشيعي من إحياء الدولة الفاطمية أو غيرها

من العلويين بمصر. وما الفائدة لنا من إحيائها؟ متى صارت مصر خلافة لا يبقى مجال لطلاب

السلطنة؛ أي لا يبقى حاجة إلى السلاطين. أما إذا بقيت الخلافة العباسية في بغداد تثبت

السلاطين في مصر، فإن سلطان مصر يشبه أن يكون مستقلا، غير أن ذلك لا يمنع مجاراة الرجل

ومصانعته لعل في سعيه نفعا يأتي عن غير قصد منه. وإذا لم ننجح فلا خسارة من مسايرته.»

ولما بلغ إلى ذكر سلطنة مصر نهض من الفراش وقد هاجت مطامعه، وتمشى في الغرفة لحظة وهو

مطرق، ثم قال: «سلطنة مصر؟ أنها أفضل من خلافة بغداد. هل أطمع فيها أنا؟ نعم، ولكن لو قلت

ذلك للناس لاستجهلوني. وقد أكون مبالغا في مطامعي، ولكن يجب أن أسعى منذ الآن. احذر يا ركن

الدين أن تجعل أحدا يشعر بذلك.»

وسمع وقع حوافر جواد مار أمام غرفته، فانتبه لنفسه وتذكر سفر شوكار فقال: «هل أتغافل عن

شوكار لا أطلبها؟ إني أحبها، وإن كان ذلك الحب جاءني في أول الأمر تكلفا، لكنه تمكن من

قلبي، ويكفي أنها تحبني وتتوقع مني إنقاذها. هذا إذا ظلت هي على ودادي بعد دخولها قصر

الخليفة.» •••

كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، فاعتزم أن يقضى بقية يومه مستريحا، على أن يبكر في

الصباح ليقابل عز الدين ثم السلطان الجديد لتهنئته بما ناله، وانتظار ما يفعله. فتناول

العشاء واستراح قليلا فلم يشعر بحاجة إلى الرقاد لعظم ما جاش في صدره واستولى عليه الأرق.

فلما أسدل الليل نقابه، تزمل بعباءته وخرج يتمشى في فناء القلعة نحو الجبل، والجو صاح

والقمر قد تكبد السماء، وظهرت الطبيعة بأبهى ما يكون من الجلال والهيبة، ويحلو للمفكر في

مثل تلك الليلة أن يقف على جبل أو في واد أو حديقة يناجى نفسه بهدوء وسكينة، كأنه يعهد في

سره إلى القمر أو يخاطب الطبيعة ويباحثها.

وقد علمت ما كان فيه ركن الدين من الهواجس على أثر ما تزاحم في أفكاره من الأماني

والمطامع، فسار وهو ملتف بالعباءة فلم يعترضه الحرس، وتسلق الجبل في ضوء القمر حتى بلغ إلى

سطحه، فوقف والتفت إلى القاهرة وما بها من الحدائق، ووراءها النيل، ينعكس ضوء القمر على

مائه، ووراء ذلك الأهرام وقممها تناطح السحاب، وحولها بساتين النخيل والجميز لا يظهر منها

إلا أشباحها كالظلال، فقعد على صخرة وراءها بناء خرب أصله مسجد أو قلعة، ولبث هادئا ساكنا

كأنه يتأمل مناظر الطبيعة، وأفكاره تنتقل به من موضوع إلى موضوع، ونصب عينيه شوكار وأين هي؟

ويعترض تفكيره فيها مطامعه في السلطنة، وهل ينالها؟ وضوء القمر يكبر أشباح الفكر فتتعاظم

الأوهام حتى تظهر كالحقيقة.

وبينما هو ساكت مطرق إذ سمع حفيفا يشبه انسياب الثعبان على التراب فلم يخفه ذلك، لكنه

تنبه إلى انفراده واستغراقه في هواجسه، فهم بالنهوض وإذا هو يسمع قهقهة على مقربة منه،

فالتفت فلم ير أحدا، فأوشك أن يتوهم ذلك الصوت من أصوات الجان - وكانت هذه الخرافات رائجة

في تلك الأيام - لكنه ما لبث أن سمع وقع أقدام وراء تلك الخربة من الجهة الأخرى، فسكت لا

خوفا ولا تلصصا، لكنه لم يكن يريد أن يشعر أحد بخروجه في تلك الليلة من القلعة.

وأصاخ بسمعه فاستنتج من مجمل ما سمعه أن هناك أناسا يتسامرون، فساقه حب الاستطلاع إلى

التسمع، وإن يكن ذلك مخالفا لما فطر عليه من البسالة والأنفة، لكن حب الاطلاع على المخبآت

من جملة طبائع الإنسان، وهو لم يسع إلى التجسس وإنما سيق إليه مصادفة.

وقد زاده رغبة في التسمع أنه سمع صوتا يشبه صوت سحبان، وهو حديث العهد بسماعه في ذلك

اليوم. سمع ذلك الرجل يقول لمخاطبه: «إن سلافة هذه قد أدهشتني بدهائها ومكرها.»

فأجابه الآخر: «أظنك تعني قيمة قصر الملك الصالح، هل هي من دهاة النساء»؟

فقال سحبان: «مهما قلت فيها لا يمكن أن تحيط بوصفها، أما أنا فقد خبرتها بنفسي . أرأيت هذا

الانقلاب الذي جرى أمس والتبديل الذي حصل في السلاطين؟ أرأيت خلع شجرة الدر وتنصيب الملك

الأشرف؟ إنها هي وحدها السبب في ذلك كله.»

فقال الآخر: «هذه مبالغة منك يا سيدي، كيف يتأتى لها ذلك وهي هنا والخليفة في بغداد؟

لعلك توهمت هذا فيها لما رأيت عز الدين أيبك يتردد عليها حتى أفسدت ما بينه وبين شجرة الدر، ولكن هذا ...»

فقطع سحبان كلامه قائلا: «أنا أقول لك عن ثقة، إن سلافة وهي في القاهرة قلبت الحكومة

وبدلت السلاطين.» فقال: «وكيف ذلك؟» قال: «يظهر أن نفوذها هناك عظيم جدا وأن كلامها مسموع

في قصور الخلافة.»

فقاطعه الآخر قائلا: «صدقت لأنها هي في الأصل من جواري ذلك الخليفة وقد أهديت للملك

الصالح، ولكن قد يكون في قولك مبالغة.»

قال سحبان: «إني أقول لك شيئا خبرته بنفسي.» وخفت صوته وقال: «أنا أخذت كتابها بيدي إلى

بغداد، فلم يكن إلا مسافة الطريق حتى جاء الجواب بخلع شجرة الدر.»

فضحك الرجل وقال: «ما الذي أدخلك في هذه المهمة؟ وما هو شأنك مع هؤلاء الأتراك يا

سحبان؟»

قال: «لا يهمك أن تعرف تفصيل ذلك، ولكني وجدت هذه المهمة قد تساعدنا في مشروعنا، وكنت

أحسب خلع شجرة الدر على هذه الصورة يفضي إلى ثورة تهيئ لنا الأسباب المعلومة.» •••

فلما سمع ركن الدين هذا الحديث رأى فيه فائدة له، فاغتفر لنفسه تنصته، ومكث لسماع بقيته،

فسمع رجلا آخر يقول: «لقد أسأت يا سيدي بأداء هذه المهمة، فأنك أخرجت الدولة من يد امرأة

ضعيفة إلى يد رجل شديد، فلا يلبث أن يخلع ذلك السلطان الغلام ويقبض هو على الدولة بيد من

حديد، والحقيقة - على ما أرى - أنك قمت بهذه الخدمة طمعا في رضا سلافة. إنها في الحقيقة بارعة

الجمال.»

قال سحبان: «صدقت، إنها لجميلة، وربما خطر لي أن أنال رضاها، لكن المهمة في أصلها خدمة

للغرض المعلوم.»

فقال الآخر: «وهل نلت ما كنت تؤمله من رضاها؟»

قال: «لا أدري، إن هذه المرأة سر من الأسرار، أو هي لغز معمى لا يمكن حله، يلوح لي أنها

بلا قلب، أو هي ذات خلق خاص، أعترف لكم أني كدت أنال رضاها، ورأيت من تقربها وتلطفها ما أكد

لي حبها، ثم ما لبثت أن رأيتها وقد تغيرت بعد رجوعي من بغداد؛ إذ اختصت الأمير عز الدين

بحبها، وقد ملكت قلبه ولبه حتى شعرت شجرة الدر بذلك وغضبت عليه، لكن هذه أصبحت بعد خروج

الملك من يدها لا تستطيع غير العتاب والشكوى.»

فتصدى رجل للسؤال قائلا: «كل ما تقوله صحيح، وأزيد عليه أن السبب في اهتمام المرأة بخلع

شجرة الدر وتنصيب غيرها ليس إلا غيرة منها؛ لأن شجرة الدر صارت ملكة، وهي تحسب نفسها أحق

منها بذلك؛ لأنها كردية من قبيلة الملك الصالح، ففعلت ما فعلته انتقاما، وليس فيه شيء من

الدهاء لأنها نقلت الدولة إلى يد أخرى. وإذا صدقنا أنها فعلت ذلك بدهائها، فما الذي عاد

عليها من هذا العمل؟ ثم إني لم أفهم كيف توصل الخليفة في بغداد إلى خبر شوكار المغنية حتى

يطلبها؟»

فقال سحبان: «هي التي أوعزت إليه بأن يطلبها نكاية في شجرة الدر لأنها مغنيتها.»

فلما سمع ركن لدين اسم شوكار خفق قلبه وزاد ميلا إلى السماع، وحمد الله على تلك المصادفة

التي أسمعته هذا الحديث وهو في أشد الحاجة إلى معرفته لأنه كان غائبا عن مصر في أثناء تلك

قصر المستعصم، ولها عليها حقوق مختلفة، فكتبت إليها بما رأته، وتلك صاحبة النفوذ هناك

فأنفذته. دعنا منها إنها امرأة متلونة منافقة والسلام.»

فضحك سحبان وقال: «صدقت، إنها منافقة لأنها خدعتني، وأظنها ستخدع سواي، ولكن لا شك أنها

صاحبة نفوذ عظيم في قصر الخليفة. ما لنا ولها، هيا بنا.»

فقال آخر: «لا تطاوعني قدماي على الابتعاد عن ضوء القمر الجميل، ولكن قد آن وقت الرقاد

فلا حول ولا ...»

وسمع ركن الدين وقع خطواتهم وهم خارجون من تلك الخربة، فانزوى ريثما ابتعدوا، وعاد

التفكير فيما سمعه عن سلافة عن سر الانقلاب الذي جرى، فانجلت له أمور كثيرة يؤمل الانتفاع

بها.

عاد إلى غرفته يطلب الرقاد وقد أنهكه التفكير في هذه الأمور، فتوسد الفراش على أن ينهض في

الصباح لمقابلة الملك الأشرف وعز الدين مدبر المملكة. فلما أصبح، لبس ثيابه وذهب إلى الإيوان

فلقي عز الدين، فأخبره أنه وصل أمس لكن التعب منعه من القيام بهذا الواجب، فقدمه عز الدين

إلى الملك الأشرف، فقص عليهما نتيجة مهمته في دمياط وقد انتهت بإخراج الإفرنج من هناك بشروط

موافقة.

فأثنى عز الدين على همته وبسالته ووعده بالمكافأة، فشكر له تلطفه، ولم ير فيه ما كان يعلمه

من غيرته منه، أو لعله أحس بذلك بسبب ما خامره من المطامع وما سمعه من الأقوال، وعلى كل حال

فإنه بالغ في الكتمان ولبث يتوقع سنوح الفرص. •••

ثم عاد إلى التفكير في شوكار وهو لا يدري هل يبحث عنها أو ينتظر ريثما يتأكد بقاءها على

حبه؛ لأنه كان كثير الشك في ذلك لما ستلاقيه في قصر الخليفة من النعم. ولم يكن من ذوي

العواطف القوية الذين يضحون بمصالحهم المادية في سبيل الحب، ولكنه كان قوي العقل كبير

المطامع، ويغلب في أمثاله أن ينظروا إلى كل شيء من الناحية التي تنيلهم مطامعهم؛ ولذلك لم

يصدق أن شوكار ستبقى على وده بعد ذلك الانتقال، على أنه كان يشعر بميل شديد إليها وعطف عظيم

عليها، وكان يعزيه أنها هناك في نعيم لا خوف عليها من الإهانة، ولا يمس شرفها بما لا يبعث

على غيرته؛ لأنها جارية مغنية فقط. قضى برهة وهو يفكر فيما يعمل: أيسافر إلى بغداد للبحث

عنها، أم يبعث أحدا في طلبها؟ وشغل أيضا بمهام منصبه، لكنه لم يستطع الصبر على الفراق، وهو

لا يعلم ما يكون من حال شوكار هناك.

فأصبح ذات يوم وقلبه قلق على شوكار، وقد رآها في نومه على غير ما يريد، وهو غير قادر على

السفر إليها، فخطر له أن يكلف سحبان بذلك، وأن يطمئنه ويظهر له المسايرة في رأيه. فبعث إليه

فجاءه وهو مستبشر طمعا فيما يرجوه، فلما لقيه قال ركن الدين: «صدقت يا سحبان، إن هؤلاء

القوم لا يصلحون للخلافة وهم في هذا الفساد.»

قال: «ألم أقل ذلك يا سيدي؟»

قال: «نعم، وأنا أعرفه، وقد خبرته بالأمس مما فعلوه معي. لا أعلم إذا كنت قد سمعت بأخذهم

شوكار.»

قال: «كيف لا؟ سمعت، نعم سمعت، وهذا لا يفعله الخلفاء العلويون و...»

فقطع ركن الدين كلامه قائلا: «ولكن هل تعلم من هي شوكار؟»

قال: «نعم أنها جارية شجرة الدر ومغنيتها.»

قال: «وهي فوق ذلك خطيبتي.»

فأظهر الدهشة وقال: «خطيبتك؟ وأخذها منك؟ يا لله من هؤلاء القوم الظالمين؟»

قال: «لم يأخذوها وهم عالمون بذلك، ما لنا ولهم، وإنما يهمني الآن أن أعرف حال شوكار

هناك، وأنا لا أقدر على السفر، وأنت تسافر دائما في تجارتك، فهل تقضي هذه المهمة لصاحبك

ركن الدين؟»

فاستأنس سحبان بذلك التلطف وقال: «أقضيها على الرأس والعين، وأسافر في الغد لأجلها، قبحهم الله، إنهم مضيعون هذا الملك عن قريب.»

فقال ركن الدين: «أشكر الله سعيك يا سحبان، والأيام بيننا.»

فقال: «إن خدمتك يا مولاي واجبة علي، إني مسافر غدا ولا أسألك عما تطلبه، فإني أعرف كل

شيء، كن في راحة.» قال ذلك وخرج بعد أن ودع.

وعاد ركن الدين إلى شئونه وقد اطمأن باله نوعا، وصبر نفسه ريثما تنقضي المدة اللازمة

لذهاب سحبان إلى بغداد ورجوعه منها، وهي أكثر من شهر. لكن لم يمض أسبوعان على سفر سحبان حتى

جاءه رسول بكتاب من بغداد، وصل في المساء، فلم يصبر على تبليغ رسالته إلى الصباح. وكان ركن

الدين في تلك الليلة عند شجرة الدر، وقد أكثر من ترداده إليها ليسليها على ما أصابها من

الوحشة بعد وقوع الفتور بينها وبين عز الدين، ولم يدر أن ترداده يزيد تلك الوحشة.

كان تلك الليلة عند شجرة الدر وجاء الحاجب وقال : «إن بالباب رسولا يحمل كتابا إلى

الأمير ركن الدين ولا يريد أن يسلمه إلا بيده.»

فقال ركن الدين: «ليدخل.» ولم يطاوعه قلبه على الصبر، فوثب كالسهم حتى لقي الرسول وصاح

فيه: «ما وراءك؟»

فقال: «وهل الذي يكلمني الأمير ركن الدين بيبرس؟» قال: «نعم، من أنت؟ ومن أين أتيت؟»

قال: «أنا رسول إلى الأمير من فتاة تريد أن يصل كتابها إليه سرا.» فخفق قلبه وقال: «هاته.» فمد الرجل يده إلى جيبه وأخرج الكتاب ودفعه إليه، فتناول ركن الدين الكتاب ودخل إلى

القاعة وأخذ يقرؤه، وشجرة الدر تنظر إليه وتراقب حركاته وما يبدو في وجهه من التغير. ولم

يفرغ من قراءته حتى بلغ الغضب منه مبلغا عظيما، وشجرة الدر قلبها يخفق وعيناها شاخصتان

إليه. فلما فرغ من تلاوة الكتاب صاحت فيه: «ماذا قرأت؟ ماذا جرى؟»

فرمى الكتاب إليها، فتناولته وقرأته فإذا فيه:

من المسكينة شوكار إلى سيدها وحبيبها ركن الدين. اختطفوني من بين ذراعي شجرة الدر

وأنت غائب، ولم تجد مولاتي حياة لاستبقائي حتى حضورك، فبرحت القاهرة وقلبي فيها،

ولم أزل منذ برحتها وأنا أندب حياتي، لا أجد لي سلوى برغم ما كان يبذله صاحب الركب

من أسباب الراحة لي، وهم يستغربون البكاء من جارية طلبها أمير المؤمنين لتكون في

مجلسه، على أني ما لبثت أن وجدت بكائي كان في محله؛ لأني حين أشرفت على بغداد تغيرت

حالي؛ إذ أسلموني إلى قوم جاءوا من قصر الخليفة وكنت أحسبهم جاءوا ليستقبلوني، وعزمت

على أن أطلب إليهم أن يعيدوني إلى مصر، أو أوسط أحدا للخليفة ليأمر بإرجاعي بعد أن

أقص عليه خبري. لكنني لم أكد أقع في أيديهم حتى عاملوني معاملة الأسيرة، وساقوني

إلى حيث لا أدري. هذا وقد كان في الركب الذي حملني من مصر الخصي عابد البصري حامل

هذا الكتاب إليك، وكنت قد استأنست به وأحسست بعطفه علي، فاغتنمت فرصة كتبت فيها هذا

الكتاب على عجل ورجوته أن يوصله إليك، فأكرمه ما استطعت، وأستودعك الله، ولا أظننا

نلتقي في هذه الدنيا، وقد ختمت هذا الكتاب بدموعي.

وكانت شجرة الدر تقرأ وركن الدين يخاطب حامل الكتاب.

وسأله: «ماذا تعرف من التفاصيل؟»

فقال: «لا أدري يا سيدي سوى أني كنت في خدمة الركب الذي أتى بكتاب الخليفة، ولما عاد ومعه

هذه الجارية رأيت فيها لطفا، وكنت أنا المكلف بخدمتها. والمفهوم بيننا أنها محمولة إلى

أمير المؤمنين لتكون مغنية في قصره، وكنا نبذل جهدنا في خدمتها وراحتها، فلما وصلنا إلى

ضواحي بغداد جاءنا وفد من الجند قالوا إنهم قادمون من قصر الخليفة، وطلبوا إلينا أن نسلمهم

شوكار، فلم يسعنا إلى الطاعة، لكننا لحظنا أنهم ذاهبون بها إلى غير قصر الخليفة، فأشفقت

عليها وأخذت في تعزيتها، وسألتها عما تريد أن أصنعه فقالت: «لا أريد شيئا سوى أن توصل هذا

الكتاب إلى الأمير ركن الدين، وتسلمه إليه بيده»، وقد فعلت.»

فقال: «وأين هي الآن؟ وماذا تظن أنهم يفعلون بها؟ وما غرضهم من أخذها على هذه الصورة وهي

لا تعرفهم ولا علاقة لها بهم؟»

قال: «لا أدري يا سيدي، وأنا أيضا مستغرب هذه المعاملة.»

فأطرق ركن الدين، وأخذ يفكر فيما عسى أن يكون سبب ذلك، فلم يوفق إلى رأي، فقال: «والآن يا

عابد إذا دفعت إليك كتابا هل توصله إليها، وأين تجدها؟»

قال: «أبحث عنها جهدي، ولا أنفك حتى أجدها وأكون طوع إرادتها فيما تريده وأفديها بروحي، إنها يا مولاي تفدى بالروح للطفها وأدبها.»

فأثنى ركن الدين على مروءته وقال: «تعال في صباح الغد فأدفع إليك بالكتاب. تجدني في غرفتي

بالقلعة، هل تعرفها؟» فأجاب بإحناء الرأس أن «نعم» وانصرف. •••

وقف ركن الدين مطرقا وقد أخذته الدهشة، ثم انتبه لشجرة الدر فتحول نحوها، فرآها قد فرغت

من تلاوة الكتاب وتغير وجهها وظهرت أمارات الغضب في عينيها، فلما التفت بيبرس إليها بادرته

قائلة: «تلك هي أعمال الخلفاء الذين لم يعجبهم أن تتولى السلطنة امرأة! هذا المستعصم أمير

المؤمنين. ووالله لو أن امرأة سليطة تولت هذا الملك لدبرته أحسن من تدبيره، شغل نفسه

بالغناء واللهو، ثم يأخذ نساءنا من بين أيدينا ونحن صابرون!»

فأدرك ركن الدين أنها تستثير غيرته على شوكار للانتقام من المستعصم فقال: «ولكن ما أصاب

شوكار ليس من المستعصم.»

قالت: «ممن إذن؟ ألم يكن هو الذي بعث في طلبها إليه؟ وهب أن الذين اختطفوها الآن لم

يفعلوا ذلك بأمر الخليفة، ألا يدل وقوع ذلك على ضعف الرجل وقلة هيبته حتى يجرؤ الناس على

اختطاف مغنية آتية إليه في موكب حافل؟ على أنني أضع أكثر الحق علي.»

فقطع كلامها قائلا: «الحق كله على عز الدين، هذه هي الحقيقة، ولو شاء هو لاحتال في

استبقاء شوكار.»

فقالت: «صدقت، وهذا هو رأيي. لا أدري ما غير هذا الأمير؟ إن مطامع الدنيا تغير الناس. طمع

عز الدين في السلطنة فضحى كل شيء في سبيلها؛ ضحى أصدقاءه وخلانه و...» وغصت بريقها وسكتت.

لم يكن ركن الدين يجهل ما في خاطر شجرة الدر على حبيبها من الغيرة والنقمة، فأراد أن

يخالفها لاكتشاف ما يكنه ضميرها فقال: «لا أظنه فعل ما فعله طمعا في الملك؛ لأنه كان في نفس

هذا المنصب وأنت سلطانة. بل كان معك أقرب إلى السيادة والنفوذ منه الآن، ويظهر أنه لم ير

بدا من إطاعة أمر الخليفة فيما يتعلق بشوكار.»

فضحكت ضحكة اغتصابية وقد امتقع لونها من شدة التألم والغضب وقالت: «لعله أطاع بذلك غير

أمر الخليفة.» وبلعت ريقها وتشاغلت بمنديلها تمسح به فمها وجبينها.

فلحظ ركن الدين أنها تعني سلافة، فقال: «وهل تلومينه لأنه يبحث عن مصلحته؟ ليس في الدنيا

أحد لا ...»

فقطعت كلامه قائلة: «كلا، لا ألومه لذلك، ولكني ألوم غيره لأنه لا ينظر إلى مصلحته أيضا.

إن هذا الأمير ضحى بشوكار وركن الدين وشجرة الدر في سبيل مطامعه، ولم يبال، ونحن ما زلنا

نحافظ على عهده ونلتمس وده.» وتزحزحت من مجلسها وفي ملامح وجهها أنها لم تتم حديثها بعد.

فأراد ركن الدين أن يستزيدها بيانا، فقال: «أنا ناقم على هذا الأمير كما تعلمين، لكنني لا

أراه يستحق هذا الغضب منك؛ لأن ما جرى لك ولشوكار لم يكن هو فاعله، ولم ينل من فعله شيئا

جديدا لم يكن له وأنت سلطانة.»

قالت: «قد أحرجتني يا ركن الدين، فأستأذنك في كشف ما في قلبي. قد يتبادر إلى ذهنك أني

كرهت عز الدين لأنه أحب تلك الجارية الكردية - سلافة - وهي التي ساعدته على ما فعل، وكنت

أحسبها فعلت ذلك حبا فيه، ولكنني عرفت الآن أنه لم يكن يحبها، ولكنه خدعها كما خدعني، فلما

نال مرامه منها تخلى عنها. هل علمت بما عول عليه وأوشك أن يفعله بمشورتها ومساعدتها؟» قال: «كلا.» قالت: «قد عزم عزما أكيدا على أن يستقل بالسلطنة.»

قال: «أليس هو مستقلا بها الآن؟ أليس الملك الأشرف صورة لا معنى لها؟» قالت: «صحيح،

ولكنه سيخلعه ويطلب من الأمراء أن يبايعوه سلطانا بدله.»

فهز رأسه هز الإنكار وقال: «هذا لا يكون، وكيف يتأتى له ذلك والناس يحتجون؟ إنهم لا

يخضعون لملك ليس من آل أيوب.»

فقالت وهي تضحك ضحك الاستهزاء: «إنك ما زلت قليل الاختبار يا ركن الدين، لكنك لا تلبث أن

تعلم أن هؤلاء القوم لا رأي لهم ولا صوت، ينقضون اليوم ما قرروه بالأمس. والظاهر أن عز

الدين تمكن من إغراء المقربين له وأنت غائب وقبلوا مبايعته، وبلغني أنهم اختاروا له أحد

ألقاب الخلفاء الفاطميين بمصر، وهو «المعز»، فهل بعد ذلك شك؟ ولعله لو طال مكثك في دمياط

لأمضى هذا الأمر في غيابك، أو أظنه أمضاه من ذلك الحين. ألا تشعر أنه تغير معك عما كان

عليه من قبل؟»

فثارت الغيرة في نفس ركن الدين، وأوشك أن يبوح بما في خاطره، لكنه تجلد وتماسك. وقد فتح

أمامه بعد هذا الحديث باب جديد؛ فهو لم يكن بالأمس يتصور أنه يمكن لغير الأيوبيين أن

يستقلوا بالسيادة، فإذا هو يرى عز الدين استطاع ذلك ووافقه عليه الأمراء. فازداد رغبة في

السلطة، لكنه ما زال حريصا على كتمان ذلك المطمع خوف الفشل عملا بالحديث الشريف: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.» لكنه غلب عليه ظنه بعد أن سمع من حديث القوم عن

سلافة في تلك الليلة أن عز الدين لم يفعل ذلك إلا بنفوذها، فأراد أن يستطلع رأي شجرة الدر في

ذلك فقال: «ألا تظنين أن لسلافة دخلا في هذا الأمر؟»

قالت: «لا ريب عندي أنها ساعدته في ذلك؛ نظرا لنسبها الكردي وعلائقها الودية مع بعض

الأمراء أصحاب النفوذ من آل أيوب وغيرهم. ولعلها ارتكبت أمورا دنيئة في هذا السبيل ظنا

منها أنها اختطفت عز الدين من شجرة الدر. ولكن خاب ظنها؛ لأن هذا الرجل ليس لأحد منا، وسوف

ترى.» قالت ذلك وابتسمت وعيناها تلمعان.

ولحظ ركن الدين في عينيها معنى لم يكن فيهما من قبل؛ رأى الغيرة والنقمة والغيظ تتزاحم

فيهما، فقال: «لمن هو إذن يا مولاتي؟»

قالت: «أتريد أن أبوح لك بكل ما أعرفه عن هذا الخائن مرة واحدة؟ سألتني لمن هو، فأجيبك

أنه يزعم أنه لامرأة ثالثة.» قال: «من هي؟» قالت: «امرأة لا تعرفها، ليست في مصر.»

فاستغرب قولها وقال: «أظنك تمزحين؟» قالت: «كلا، إني أقول الصدق، إن عز الدين يزعم أنه

ساع في خطبة بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.»

قال وقد بدا الاستغراب في عينيه: «إن صاحب الموصل له مقام رفيع عند الخليفة، وهل تظنينه

يفوز بها؟»

وكان التأثر والغضب قد ملكا عليها أمرها، فقالت وهي تشير بيدها إشارة الإنكار: «لا، لا.

لن يفوز بها، إنه ليس لإحدى هؤلاء النسوة، بل هو نصيب الرابعة.» وأشارت بيدها إشارة رجل

بيده خنجر يطعن به آخر إلى جانبه؛ ففهم ركن الدين أنها تنوى قتله، وتأكد ذلك مما بدا في

عينيها من الاحمرار، فضحك وأظهر الاستخفاف بهذا الرأي، ونهض يريد الانصراف وهو يقول: «لا

أظن الأمر يبلغ بك إلى هذا الحد. قد انتصف الليل وآن لي الانصراف، أستودعك الله.»

فصاحت به: «ويلك يا ركن الدين، تذهب على هذه الصورة وتتركني على هذه الحالة؟ ماذا جرى

لك؟» قال: «ماذا أصنع يا مولاتي؟» قالت: «قد رأيت من أمرك عجبا. تكلمنا في أبواب كثيرة، وصرحت لك بأمور كثيرة كنت أكتمها عن كل إنسان، وأنت جامد كالصخر الأصم لا تقول شيئا. إذا

كنت تفعل ذلك عن دهاء فنعم الفعل، وإلا فإنك صلب بارد. وفي كل حال كنت أتوقع منك أن تقول

كلمة عن شوكار المسكينة التي ذهبت ضحية حبك، وهي تقاسي العذاب، وقد تفطر قلبي من كتابها.

ولو كنت خطيبها لركبت الساعة إلى بغداد ولم أرجع إلا وأنا منتقمة لها من ذلك الخليفة الظالم

الذي لا يهمه إلا التمتع بملذاته.» قالت ذلك وهي تتفرس في عينيه.

فكان لكلامها وقع السهام في قلبه وأوشكت أن تخرجه إلى التصريح بما ضميره، لكنه تراجع

وتمالك وتشاغل بالضحك وقال: «لله أنت من خطيب غيور شجاع! أما أنا فأظن عندي مثل ذلك، ولكنني

سأنظر فيه وأعمل ما يسرك وإن لم أقل شيئا.» قال ذلك وبرقت عيناه، وبان الحزم والجد في

جبينه، فتقدمت إليه ووضعت يدها على كتفه، وقالت: «هذا عهدي فيك، وقد فهمت من هذه العبارة كل

شيء. واعلم أني فاعلة ما يتمم عملك هنا؛ اقتل المستعصم وأنا أقتل عز الدين، وأنت السلطان

صاحب الأمر والنهي.»

فتجاهل ما سمعه وقال: «أتأذنين لي في الانصراف الآن؟»

فأشارت إليه مودعة، فخرج وهو ينتفض من الغضب، وقد تضاربت الأفكار في خاطره، ولم يعجبه

تصريح شجرة الدر بقتل المستعصم لاعتقاده أن مثل هذا الأمر الخطير لا ينجح إلا إذا ظل

مكتوما في خاطر صاحبه. •••

مشى ركن الدين وقد انتصف الليل وأخذ منه التأثر مأخذا عظيما حتى أصبح لا يرى طريقه من

فرط ما تجاذبه من الهواجس، وأسرع في خطاه رغبة في الاختلاء بغرفته لمناجاة نفسه، لكنه لم

يكد يصل إلى باب منزله في القلعة حتى تصدى له أحد الحراس وحياه، فرد التحية ومشى، فتقدم

إليه الحارس قائلا: «إن خادما في انتظار مولاي هنا منذ ساعتين.» وأشار إلى رجل واقف

بجانبه.

والتفت نحوه وقال: «من الرجل؟» وظنه لأول وهلة رسول شوكار جاء يأخذ جوابه إليها، فإذا هو

سواه.

فتقدم الرجل ودفع إلى ركن الدين كتابا مختوما، فتناوله وأمر خادمه أن يسرع إلى غرفته

ويضيء فيها المصباح، ففعل .

فدخل ركن الدين وحده وفض الكتاب أمام المصباح، وقد أدهشه ما فاح من رائحة الطيب، فترجح

لديه أنه من امرأة، فأخذ يقرأ فإذا هو من سلافة جارية الملك الصالح، فاستغرب ذلك وقرأ فيه: «سلافة جارية الملك الصالح وقيمة قصوره ترغب في مقابلة الأمير ركن الدين بيبرس ساعة وصول

كتابها هذا إليه، وحامل الكتاب يرشده إلى المكان.»

فوقع في حيرة، وتولته الدهشة، وأخذ يسأل نفسه ماذا عسى أن يكون غرضها من تلك المقابلة

وليس بينها وبينه سوى معرفة بسيطة. وتذكر ما سمعه عنها من سحبان، وما جرى من ذكرها بين يدي

شجرة الدر، وعلاقتها بعز الدين أيبك، فأصبح شديد الميل إلى تعرف هذه المرأة، ولعل التعرف

بها ينفعه في مشروعه.

ورآها تطلب إليه مقابلتها ساعة وصول كتابها، فقال في نفسه: «ما عسى أن يكون سبب هذه

السرعة؟» وبرغم ما كان فيه من التعب والقلق عزم على إجابة الدعوى حالا، فنادى الرسول إليه

فدخل فقال له: «هل المكان بعيد من هنا؟» قال: «كلا يا سيدي إنه قريب جدا.» قال: «وهل أنت

هنا من زمن طويل؟» قال: «منذ نحو ساعتين.» قال: «ولماذا انتظرت كل هذه المدة؟» قال: «لأن

مولاتي صاحبة الكتاب أمرتني ألا أعود إلا بالجواب.»

فازداد ركن الدين دهشة واستغرابا وصمم على الذهاب، فلبس ثيابه وخرج، والرسول يمشي بين

يديه، وقد أخذ القلق منه مأخذا عظيما، ومر بباب القلعة فعرفه الحراس ولم يعترضوا سيره.

خرج إلى القاهرة والطريق مظلم إلا من بعض المصابيح بأبواب المنازل، وما زال ماشيا

والرسول معه حتى وصل إلى باب كبير وقف الرسول عنده واستوقف الأمير ريثما طرق الباب، ففتحت

طاقة فيه وأطل منها عبد خصي يسأل عن الطارق، فأومأ إليه الرسول فوسع له ولرفيقه، فدخل ركن

الدين إلى حديقة مظلمة، لولا شموع مضيئة لكان الظلام حالكا. على أن ذلك النور الضعيف زاد

المكان وحشة؛ لأنه جعل ظلام الأشجار تظهر متكاثفة متلبدة. فلما رأى نفسه في ذلك المكان ندم

على مجيئه، وتوهم أشياء كثيرة، بعضها يوجب القلق، ولكنه تجلد ومشى بقدم ثابتة لا يبالي ما قد

يتهدده، وهو لم يتعود الخوف، لكنه خاف الفضيحة لعلمه بما بين صاحبة هذا المنزل وعز الدين من

العلائق.

وكان الرسول قد تقدمه لينبئ بوصوله، فما كاد ركن الدين يتوسط الحديقة حتى عاد الرسول

وأشار إليه أن يتبعه، فتحول به إلى قاعة منفردة قد أضيئت فيها الشموع على منائر في وسطها،

وفرشت أرضها بالبسط والوسائد، وأدهشه ما شاهده بين الأثاث من الآنية التي كان يراها في قصور

الملك الصالح قبل هدمها وتخريبها، وتأكد أن عز الدين جاء سلافة بهذا الرياش، لأنه هو الذي

خرب تلك القصور واستأثر بأنقاضها ورياشها.

استقبلته سلافة بباب القاعة وقد لبست أثمن ما عندها من الحلي والثياب، ولم تتنقب إلا

قليلا، وكان قد تنسم رائحة الطيب قبل أن يراها، فلما تلاقت عيناها زاد ندمه لمجيئه؛ لأنه

توهم شركا يخاف الوقوع فيه.

أما هي فاستقبلته بالسلام والترحيب قائلة: «قد أزعجناك أيها الأمير.»

قال: «العفو يا سيدتي، إني مسرور من هذه الفرصة، فعسى أن أستطيع أداء خدمة أو قضاء طلب.»

فمدت يدها للسلام عليه فمد يده وصافحها فوجد أناملها باردة كالثلج وفيها رعشة أثرت فيه،

لكنه تشغل بالثناء على ترحابها، ثم مشت به وهي قابضة على يده حتى وصلت إلى مقعد في صدر

القاعة، فأشارت إليه أن يجلس، فجلس وقد اقشعر بدنه من لمسها، فأفلتت يده وجلست بين يديه على

وسادة، وهي تنظر إليه وترحب به، وهو ينتظر أن تفاتحه بما دعته من أجله، فلم تزد على الترحيب

والمؤانسة. فلما أبطأت عليه قال: «جئت طوعا لأمرك، فهل من خدمة أقضيها لك؟»

قالت: «بل أنا في خدمتك يا ركن الدين، ولعلك لم تكن عالما بوجودي قبل هذه الليلة ولم أخطر

ببالك. وأما أنت فلم تبرح من فكري لحظة، وأنا أتتبع خطواتك منذ أعوام.» قالت ذلك واحمرت

وجنتاها وبرقت عيناها، وكانت جميلة فزادها ذلك جمالا.

أما ركن الدين فلم تعجبه هذه الفاتحة لأنه في شاغل عن المغازلة، وكان يسمع بجمال هذه

المرأة ويعرف عنها بعض الشيء في حياة الملك الصالح، ولم يكن أمرها يهمه، ولا سيما في تلك

الليلة وهو في ذلك الاضطراب. فلما سمع قولها أطرق وقال: «العفو يا مولاتي، كنت أسمع بمنزلتك

الرفيعة عند مولانا الملك الصالح، ولكن الأحوال لم تأذن بالتعارف.»

قالت وهي تتظاهر بالخجل والحياء: «هذا صحيح بالنظر إليك وحدك، أما أنا فقد عرفتك جيدا،

وطالما راقبت دخلوك قصر الروضة وخروجك منه، وكثيرا ما كنت أسهر الليل بطوله أنتظر مرورك في

الحديقة لأراك من وراء الستائر.»

فاستغرب ركن الدين هذه المشاكاة وتجاهلها وقال: «إن ذلك فضل منك يا سيدتي، وأتأسف لأني لم

أكن أعلم به.»

فقالت: «ألم تعلمه الآن؟ أرجو الإغضاء عن جسارتي يا ركن الدين ولا تكن قاسيا.»

فلما سمع هذا التعريض أجفل وأسف لمجيئه وقال: «العفو يا سيدتي، لم أكن أتوقع أن أسمع هذا

وأنا أعلم أن مولانا الأمير عز الدين يتردد إلى هذا المكان وهو صاحبه.»

فتنهدت وقالت: «مولاك أو مولاي الأمير، لا يستحق هذه الحظوة، دعه وشأنه، ما لنا وله؟»

فظن ركن الدين أنها تريد أن توقعه في الفخ لتستخدمه في مهمة لها كما فعلت بسحبان، فصمم

على الرفض وسرعة التخلص، فقال: «ألهذا دعوتني يا سلافة في هذا الليل؟»

فأجابته وعيناها ذابلتان وقالت: «وهل هذا أمر قليل الأهمية في نظرك يا حبيبي؟»

فنهض وهو يقول: «ليس قليل الأهمية، ولكنني في شاغل عنه الآن يا سيدتي.» وهم بالاستئذان في

الانصراف.»

فنهضت ووقفت في طريقه وقالت: «ما الذي يشغلك عني؟ لم يبق الآن ما يشغلك يا قاسي القلب،

أين القاهرة من بغداد؟»

فأدرك أنها تشير إلى شوكار وأخذها إلى بغداد، فنفرت نفسه منها وقال: «ما زلت في شاغل،

أرجو يا سيدتي أن تأذني في انصرافي ناشدتك الله.»

فأمسكت يديه بكلتا يديها وقالت: «تمهل يا ركن الدين، لا تسرع في الرفض وانتبه لنفسك،

واعلم أن سلافة وحدها تقدر أن تنيلك مرامك. ما لك وللغناء؟ أنت في حاجة إلى من يضع يده بيدك،

وإذا ألقيت الوقود في النار نفخ فيها وأشعلها حتى ينضج الطعام.» ونظرت في عينيه وابتسمت،

فعلم أنها تشير إلى تفضيل نفسها على شوكار، فقال: «بالله دعيني أنصرف لأني في شاغل ذي بال.»

قالت: «أنا أعلم بشواغلك، أما شوكار فلا سبيل إليها أبدا و...»

فلما سمع تصريحها فجأة

اجتذب يديه من يديها وقد غضب وقال: «ما الذي حملك على ذكر هذه الفتاة الآن، ما لنا ولها؟»

قالت: «كيف لا أذكرها وهي سبب قلقي وعلة شقائي، لكنها الآن بعيدة عنا.»

فقال: «إذا كانت بعيدة الآن فإنها ستكون بعد قليل قريبة بإذن الله.»

قالت: «من قال لك ذلك فقد خدعك. إن شوكار أصبحت في غير هذا العالم يا ركن الدين، وقد

نصحتك فانتصح.»

فاقشعر بدنه عند سماع هذا الكلام وحملق فيها وقال: «أطلب إليك أن تكفي عن هذا القول

وتدعيني وشأني، دعيني أذهب بسلام.» قال ذلك وقد مال إلى تصديق قولها لكثرة ما عرفه من

دهائها وعلاقاتها ببغداد ونفوذها هناك، وبخاصة لأنها لم تستقدمه إليها إلا في الليلة التي

جاء فيها ذلك الكتاب من شوكار تشكو فيه الخطر، فقام في ذهنه أن سلافة تعرف حقيقة حال شوكار،

فقعد وأشار إلى سلافة أن تقعد وأظهر الجد وقال: «يا سيدتي أرجو أن تصغي لما أقوله لك، وقد

علمت من كثيرين بما لك من المنزلة العالية والكلمة النافذة في قصور أمير المؤمنين ببغداد،

فأرغب إليك أن تساعديني في أمر يهمني هناك.»

فقطعت كلامه وقالت: «إني طوع إرادتك في كل ما تريد، ولا أنكر عليك ما لي من الكلمة

النافذة، ولعلك تعلم أن ما حدث من العزل والتنصيب بمصر إنما كان على يدي.»

فلم يخامره شك فيما تقوله، واعتقد أنها تقدر أن تفعل كل ما ادعته وهو طامع في السيادة،

لكنه أحس بشيء حال بينه وبين تلك المطامع، وأصبح همه إنقاذ شوكار فقال: «أشكر لك تفضلك، ولا

ريب عندي في صدق ما تقولين، ولا أظنني أستغني عن يدك في بعض هذه الأمور، لكنني أطلب الآن

أمرا واحدا، فهل تقضينه لي؟»

قالت: «أقضيه على الرأس والعين.»

فقال : «أريد أن أسترجع شوكار من بغداد إلى هنا.»

فتغيرت سحنتها وقطبت حاجبيها، ونظرت إليه شزرا وصاحت: «لله أنت من أمير عاقل! أبعد ما

ذكرته لك، تعود فتسألني استرجاع هذه المغنية من بغداد، وقد قلت لك إنها ليست هناك؟»

فقال: «أين هي؟ في مصر؟» قالت: «ولا في مصر إنها غير موجودة في مكان. ألم يأتك خبرها؟»

فلما سمع سؤالها أجفل وتحقق أنها عالمة بما أصابها، فصاح فيها: «لم يجئني خبر بسوء أصابها

كما تقولين.»

قالت: «إنها لن ترجع إليك أبدا، ولو علمت أنها ترجع لأعدتها على أعقابها بيدي، وهل قذف

بها إلى تلك الديار غيري؟»

فاعتدل في مجلسه واستغرب تصريحها وقال: «أنت أرسلتها إلى هناك؟ ما الذي كان يضرك لو بقيت

هنا؟ إنها لا تزاحمك في نعمة.»

فنهضت وهي تشير بأصبعها إليه وقالت: «إنها تزاحمني عليك يا ركن الدين!» وغصت بريقها وبان

الهيام في عينيها.

فظنها تتقرب إليها تزلفا لغرض تريد أن يقضيه لها فقال: «بالله يا سلافة لا تطيلي تعذيبي.

إذا كنت تريدين مني خدمة أقضيها لك قضيتها حبا وكرامة، وإنما أطلب منك أن تساعديني في

استرجاع شوكار.»

فنظرت في وجهه نظر المتفرس وقالت: «ويلي منك يا رجل ويا لشقائي! أترامى عليك وأصرح لك بما

في قلبي، وأنت تصم أذنيك عني، مع علمك أن أكبر أمرائكم يتمنى رضاي؟» ثم أمسكت عن الكلام لأن

الدموع أوشكت أن تغلبها وحولت وجهها عنه خجلا.

فأشفق عليها وقال: «إني مقدر تنازلك حق قدره، وأشكرك عليه شكرا جزيلا، لكنني طلبت منك

خدمة أنت قادرة عليها و...

فقطعت كلامه قائلة: «إني رهينة أمرك في كل شيء إلا في هذا. يهون علي أن أجعلك سلطانا على

مصر، وأما استرجاع تلك المرأة فلا يمكن، ألم تفهم بعد؟»

وكان ركن الدين صاحب مطامع، ولم يكن شديد التعلق بشوكار، فكان المتوقع فيما تعرضه عليه

سلافة أن ينصاع لها ويستعين بها في تحقيق مطامعه، لكنه بعد ما سمعه منها ضد شوكار أحس بميل

جديد إلى هذه، سيما أن إرسالها إلى بغداد إنما كان بسببه، كما صرحت له الآن سلافة، فأصبح في

حيرة، وأطرق يفكر فيما رآه وسمعه وفيما مر به في ذلك الليل من الغرائب، واستعظم ما سمعه من

تصريح سلافة وتحببها له، وحدثته نفسه لحظة أن يسايرها لأنها قد تساعده في نيل مطامعه، لكنه

تذكر كتاب شوكار الذي جاءه في ذلك المساء وما فيه من دلائل التعلق به، فأبت نفسه أن يساير

عدوتها اللدودة.

وبقي مطرقا يفكر وسلافة تنظر إليه وتراعي حركاته وتكاد تلتهمه ببصرها، ورفع نظره إليها

فرأى في عينيها معنى لا يعبر عنه بالكلام، وأحس بحرج الموقف، ولم ير بدا من تأجيل الكلام

إلى فرصة أخرى؛ لأنه لفرط ما انتابه من التأثيرات المتضاربة أحس أن عقله قد أصيب بالكلال،

فأحب أن يؤجل الحديث ريثما يستريح وينظر بماذا يجيب.

فنهض وقد بانت الحيرة في عينيه، ونظر إلى سلافة وابتسم لها ابتسامة شكر وقال: «أشكر لسيدتي

حسن ظنها بي، فإني لا أستحق شيئا من هذا الالتفات، وأستأذنها في الانصراف.» قال ذلك وانحنى

مودعا ومد يده ليصافحها.

فأبعدت يدها عنه، وخبأتها وراء ظهرها، وتراجعت ولم تجب بفيها، لكنها أجابت بنظرة أفصح من

الخطاب أنها عاتبة آسفة لسوء حظها معه، وأن قلبها لا يطاوعها على الفراق. فخطا خطوة أخرى

نحوها وقال كالمستعطف: «بالله يا مولاتي ائذني في انصرافي الساعة؛ فقد تعبت وأصبحت في حاجة

إلى الرقاد.»

قالت وهي تهز رأسها: «لله ما أسوا حظي! أشكو لك غرامي وأنت تشكو حاجتك إلى النعاس؟!»

قالت ذلك وتحولت عنه ومشت خطوة، ثم التفتت نحوه ورمته بنظرة كالسهم أصاب صدره، وإن لم يؤثر

فيه كثيرا وقالت: «سر يحرسك الله، سر إلى فراشك أيها الأمير، ولا تظن فشلي هذا يذهب

هدرا.» ودخلت مخدعها مسرعة.

وانصرف ركن الدين، وقضى معظم الطريق وهو يردد كلامها ويفسر نظراتها ويعلل حركاتها، وقد

عظم أمرها في عينيه، ولا سيما بعد أن تذكر ما سمعه عن نفوذها في بغداد، وأصبح في خوف على

شوكار منها، ولم يبق عنده شك أن شوكار إنما أصابها ما أصابها في سبيله؛ فهو السبب في شقائها،

وأن وجودها في بغداد أصبح بعد هذه المقابلة أكثر خطرا. وخيل إليه أن سلافة لا تلبث أن تبذل

جهدها في إيصال الأذى إليها بسببه، فأحس بالتبعة التي تحملها بمجافاة سلافة؛ لأنه سيبعثها

على تعمد الأذى لشوكار، وشعر بقشعريرة وقف لها شعره.

وكان قد دخل باب القلعة ودنا من غرفته، ففتحها له الخادم وأضاء المصباح، فأخذ في خلع

ثيابه، ثم وقع نظره على كتاب شوكار، فأعاد قراءته فكان تأثيره في هذه المرة أشد من تأثيره

الأول كثيرا، وغلبه العطف على شوكار، وأيقن أنه لا يرتاح باله إلا إذا نجاها من ذلك الضيق،

وهو لا يقدر أن يعهد في هذا الأمر إلى أحد، ولا سيما بعد تهديد سلافة، فأخذ يفكر في السفر

إلى بغداد.

وبينما هو في ذلك، إذ سمع أذان الفجر فتوسد الفراش التماسا للراحة، وكان نومه مضطربا

متقطعا، ولم تبرح صورة شوكار من خاطره لحظة. ولما نام رآها في الحلم حزينة باكية، تعاتبه

لأنه شغل عنها بسلافة، فأثر هذا الحلم في خاطره تأثيرا شديدا. ولما أفاق من نومه وطن

عزيمته على الأخذ بناصرها.

وأصبح في اليوم التالي ورسولها ببابه يطلب جوابه على كتابها، فأدخله إليه وسأله عن سفره

إلى بغداد وكيف يكون، وكان ركن الدين قد سافر إليها مرة، وعرف أهم طرقها وأحيائها، ثم زوده

بكتابه إلى شوكار وبالغ في إكرامه وملاطفته، فسأله الرسول إذا كان عازما على السفر إلى

بغداد.

فقال: «سأنظر في ذلك.» وصرفه بعد أن عرف منه المكان الذي يجده فيه إذا سافر إلى هناك.

أما سلافة فلا تسل عن غضبها لما لقيته من تردد ركن الدين؛ لأنها كانت تحبه من كل قلبها،

وكانت تحسب مكاشفتها إياه بحبها كافية لتجعله أسير هواها، فإذا هو يتردد ويظهر ميله إلى

شوكار، وهي لا تستطيع أن تتصور وجودها لأنها تزاحمها على حبه، وكانت قد علقت به وهو لا

يعلم، وتحينت فرصة لمفاتحته في أمرها، ولكنها رأت شجرة الدر اجتذبته لنفسها، فكان ذلك في

جملة ما حملها على مقاومتها، وبلغها أمر خطبته شوكار فجعلت رسالتها إلى بغداد تتضمن التخلص

من الاثنتين معا، فأنزلت شجرة الدر عن العرش، وأبعدت شوكار إلى بغداد. وتقربت إلى عز الدين

لتفسد ما بينه وبين شجرة الدر، عدوتها ومناظرتها، وأفلحت في ذلك، ولم يبق لإتمام سعادتها إلا

أن تسترضي ركن الدين ليكون لها.

وكانت الأخبار تأتيها من بغداد متواصلة، فوصلها في صباح ذلك اليوم خبر ما أصاب شوكار في

بغداد، فتسلحت به بحيث يقطع ركن الدين كل أمل في بقائها، فيتحول إليها، وعزمت على بذل جهدها

في إسعاده وتقديمه، ووطنت نفسها على الاكتفاء به، فلما رأت منه ما رأته، غضبت وانقلب حبها

إلى حقد، وعزمت على مناوأته أن لم يرجع إلى صوابه ويسترضيها!

فلنترك القوم في مشاغلهم بمصر وننتقل إلى بغداد.

الفصل السابع

في بغداد

بلغت بغداد أقصى عمرانها في أيام المأمون، حتى امتدت أبنيتها وبساتينها إلى نحو 16000

فدان. وقد كانت مدنا متلاصقة.

وهي واقعة في الجانب الغربي لنهر دجلة، ولا تزال المدينة التي بناها المنصور هناك باقية

بشكلها المستدير.

أما في زمن روايتنا، في القرن السابع للهجرة، فقد تبدل حالها وانتقلت أكثر عمارتها إلى

الجانب الشرقي من حيث قصور الخلافة. وامحت مدينة المنصور، وتدهورت حالتها الاجتماعية بعد أن

كانت في القرون الأولى من بنائها؛ أم المدائن، ومهبط التجارة، ومجتمع العلماء والشعراء، وموئل

طلاب الثروة والجمال. على أنها بعد أن ضعف شأن الخلافة فيها، تسربت إليها الدسائس وقامت

الفتن بين أهلها، وأهمها الشقاق بين أهل السنة والشيعة، فلم تكن تمضي سنة لا يقع فيها بين

الطائفتين قتال تتوسط الحكومة في شأنه. وكانت هذه سنية، فكان الضغط يقع غالبا على الشيعة،

وكانوا يقيمون في الكرخ والكاظمية وهم صابرون على ما يكابدونه من الاضطهاد، والحكومة مع ذلك

توليهم مصالحها وتعهد إليهم في تدبير شئونها.

وكان هذا الشقاق سببا في سقوط بغداد ودخولها في حوزة التتر على يد هولاكو، وذلك طبيعي في

تاريخ الدول. وإذا تدبرت أسباب الانقلابات السياسية التي تنتقل بها السيادة من دولة إلى

دولة، وجدت معظمها يرجع إلى انقسام أبناء البلاد فيما بينهم بالمشاحنات الدينية أو الأغراض

السياسية، حتى يستولي القنوط على الفئة الضعيفة إذا غلبت على أمرها، فتستنجد بالغرباء ليأخذوا

بناصرها، ثم لا يزالون يتحينون الفرص حتى تصير الدولة إليهم. وتكاد لا تجد انقلابا سياسيا

في تلك العصور يخرج سببه عن نحو ما تقدم. •••

وكان على دجلة جسران موصلان بين شرقي المدينة وغربيها، وكل منهما مبني من أخشاب مفروشة

على سفن مستديرة الشكل، وأهمها منصوب بين حي قصر عيسى والرصافة، ينتقل عليه الناس والدواب.

وكان على ضفاف دجلة في البر الشرقي قصور الخلفاء وأهم أبنية بغداد، وأشهرها قصر التاج

والقصر الحسني، والمدرسة المستنصرية - التي بناها المستنصر بالله والد المستعصم بالله الذي

تدور في زمانه حوادث هذه القصة - والمدرسة النظامية، وقصر الريحانية، وقصر الفردوس. وأقربها

من طرف الجسر الشرقي قصر لا اسم له كان يقيم فيه مؤيد الدين بن العلقمي وزير المستعصم،

وكان من أهل الكفاءة والدهاء، ولكنه كان نصوحا مخلصا يرى ما في الدولة من الاضطراب

ويبذل جهده في النصح للخليفة وتنبيهه إلى ما يعود بالصلاح عليه وعلى الدولة. وكان المستعصم

ضعيف الرأي لكنه حسن الظن بوزيره، فكان يصغي لنصائحه في أكثر الأحيان.

غير أن ذلك لم يكن ضامنا للخير منقذا من الخطر؛ لأن الرأس إذا كان مختلا اضطربت سائر

الأعضاء، ويغلب في مثل هذه الحال أن ينقاد إلى المتملقين وذوي الأغراض من أهل الدولة أو

العصبية، فيغتنموا فرصة ضعفه ويعيثوا في الأرض فسادا لإرواء مطامعهم، وهو لا يسمع فيهم

لوما ولا يصغي إلى انتقاد.

تلك كانت حال المستعصم في ذلك الحين، حتى أصبح ألعوبة بين أيدي أعوانه ورؤساء قصوره؛ لأنه

كان منغمسا في الترف شديد الكلف باللهو واللعب وسماع الأغاني، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك

ساعة، وكان ندماؤه وأعوانه منهمكين معه في الملاذ لا يرجون له صلاحا.

وزاد الطين بلة أن هولاكو التتري حفيد جنكيز خان كان قد أسس دولة عرفت بدولة أيلخان ، أو

مغول الفرس ، فلما استقر له الأمر في فارس طمع في بغداد، وأخذ يستعد للحملة عليها. فاتفق أنه

وهو يحارب الإسماعيلية في فارس ويحاصر قلاعهم، كتب إلى المستعصم يستنجده، وأراد هذا أن ينجده، فمنعه أمراؤه من ذلك مخافة أن يكون قصد هولاكو الخديعة لتخلو بغداد من الرجال، فيملكها

بسهولة. ثم فتح هولاكو تلك القلاع وبعث إلى المستعصم يعاتبه، فأشار عليه الوزير ابن العلقمي

أن يسترضيه بالهدايا والأموال، فأطاعه وأخذ في تجهيز هدية من الجواهر والمماليك والجواري،

فاعترض الداودار - قائد الجند - وطعن في نية الوزير وقال: «إنه يروم تسليم الدولة إلى التتر.»

فكف الخليفة وأرسل هدية يسيرة. فغضب هولاكو وبعث إلى الخليفة أنه لا يرضيه إلا إذا أتى هو

بنفسه للاعتذار، أو أن ينيب عنه الوزير أو الداودار، فأرسل إليه أناسا لم يقبل هولاكو

نيابتهم، واتخذ ذلك ذريعة للحملة على بغداد.

ولم يدرك المستعصم حقيقة غرضه، ووقع ابن العلقمي في حيرة من أمره، فكان يكثر التفكير في

مصير هذه الحال، ويرى الخطر محدقا بالدولة فينصح ويحذر بلا جدوى. وكانت رسل هولاكو تأتيه

سرا تحمل إليه كتب التحريض على الخروج إليه أو مطاوعته في تسليم بغداد، ويعده الوعود

الكثيرة. وهو يتردد ويصبر لعل الخليفة يصغي لنصحه، وكان إذا لقي المستعصم وخاطبه في ذلك، وعده أن يعمل برأيه ثم لا يلبث بعد أن يفارقه حتى يرجع عن وعوده بما يدسه بعض الأعوان من

الدسائس على ابن العلقمي ويتهمونه بالخيانة لأنه شيعي.

وكان كبار الشيعة من الجهة الثانية يحومون حول ابن العلقمي يشكون إليه ما يقاسونه من

الاضطهاد والعسف من ابن الخليفة، حتى أصبحوا لا يأمنون على أموالهم ولا على أعراضهم، وهم

يقيمون في الجانب الغربي من بغداد، وأكثرهم في الكرخ والكاظمية، وابن العلقمي يخفف عنهم

ويعدهم خيرا، لكنه كان يتجنب الاجتماع بهم جهارا خوفا من وقوع الشبهة عليه، فلم يكن يأذن

لأحد منهم أن يزوره إلا خلسة؛ لأن جواسيس المستعصم مبثوثون حوله يعدون عليه أنفاسه. •••

أصبح ابن العلقمي ذات يوم وقد عظم الأمر على نفسه، ونفر من العمل وهو لا يرى فيه مصلحة له

ولا للدولة، فاعتكف في منزله، وكان في قصره شرفة مرتفعة تطل على دجلة والجسر والرصافة

والكرخ جميعا، كان قد بناها لهذا الغرض، فصعد إليها وأمر الخدم ألا يزعجوه كأنه مريض لا

يقدر أن يقابل أحدا.

صعد إلى الشرفة وقد التف بعباءة خفيفة واعتم بعمامة صغيرة، وكانت الشرفة كالمصطبة أو

المنظرة عليها الوسائد والطنافس وبعض أدوات التسلية لمن شاء من زائريه، وبينها رقعة من

شطرنج موضوعة على وسادة فجلس بجانبها، وكانت هذه اللعبة كثيرة الشيوع في بغداد، تلذ لأصحاب

العقول المفكرة، ولا سيما الذين يهتمون بالسياسة ويحتاجون إلى الحيل العقلية، وهو يومئذ في

تردد واضطراب، فأخذ ينظر في تلك الرقعة ويتسلى بنقل أحجارها على سبيل التجربة، فلم تجد نفسه

راحة في ذلك.

فانتقل إلى دكة في صدر المنظرة تطل على بغداد، وكان الجو صافيا فألقى نظره إلى تلك

المدينة التاريخية يخترقها نهر دجلة المبارك، وعلى ضفتيه العمائر من القصور والمدارس

والمستشفيات والمساجد والحمامات والبساتين والترع والجسور والطرق والدروب والأسواق، مما يشغل

الخاطر. واستحضرت ذاكرته تاريخ بناء هذه المدينة، وسبب بنائها منذ خمسمائة سنة ونيف، ومن

توالوا عليها من الخلفاء، وما تقلب عليهم من الأحوال، وما بلغت إليه في أيام الرشيد من

أسباب الحضارة، يوم كانت عاصمة الإسلام في أقطار الأرض، تجبى إليها الأموال من معظم العالم

المعمور، من تركستان إلى المحيط الأطلانطي، ويتوافد إليها ملوك الأرض يخطبون ود صاحبها

ويتزلفون إليه.

ثم صدمته فجأة نكبة البرامكة، وما كان من ذلهم بعد عزهم، وهم أصحاب الفضل الأول في تلك

الحضارة، وما عقب ذلك من الفتنة بين الأمين والمأمون ومن قتل في سبيلها من الأنفس؛ إلى آخر

ما حدث من تقلبات السياسة حتى صارت الدولة العباسية إلى التقهقر.

وبينما هو يفكر في كل هذا إذ سمع لغطا في داره كأنه لجاج وجدال، فأصغى فسمع رجلا يطلب

أن يقابله والخدم يقولون له: «إن مولانا الوزير في شاغل عن المقابلة.»

فاستأنس بذلك الصوت وظن أنه يعرف صاحبه ، فجذب حبلا بجانبه متصلا بالطبقة السفلى من

القصر، فدق جرسا هناك - وهي إشارة الاستدعاء عندهم - فجاءه غلام من غلمانه، فسأله سبب

الضوضاء فقال: «إن رجلا غريبا يطلب أن يرى مولانا، ولم يصغ إلى قولنا.»

فقال: «قد سمعت صوته وأظنني عرفته، لا بأس من إدخاله.»

فعاد الغلام بعد قليل ووراءه رجل عليه ثياب الفرس ووجهه فارسي، فحالما رآه مؤيد الدين

عرفه فرحب به وقال: «مرحبا بسحبان.»

فأكب سحبان على يد الوزير يهم بتقبيلها، فمنعه الوزير من ذلك وصافحه وأجلسه بجانبه، وأمر

الخادم بالانصراف وقال: «منذ متى جئت؟» قال: «جئت بغداد مساء أمس يا سيدي.»

قال: «من أين أتيت؟» قال: «من القاهرة.» قال: «أذكر أني رأيتك هنا من عهد غير بعيد.»

قال: «نعم يا مولاي كنت هنا وسافرت ثم عدت، حين نفدت بضاعتي لأشتري سواها، وتعب السفر لا

يهمني كثيرا.»

فابتسم مؤيد الدين وقال: «انقطعت للتجارة يا سحبان؟»

فضحك ضحكة اغتصابية وقال: «وهل ترى فائدة من سواها أيها الوزير؟»

فأدرك ابن العلقمي أنه يشير إلى الوزارة التي هي عمله، فقال: «صدقت، لا فائدة من سواها،

ولا خير في أعمال الحكومة، حتى الوزارة، فإن صاحبها متعب القلب بلا فائدة، مضت أيام الوزارة

الحقيقية و...» وسكت كأنه خاف التصريح بما في خاطره، فقال سحبان: «الوزارة أرقى مناصب

الدولة، والوزير هو صاحب الحل والعقد، لكن يشترط أن ...» وبلع ريقه وسكت وهو يخرج منديله

ليتشاغل به.

فقال مؤيد الدين: «ماذا يشترط يا صاحبي؟ هل تحسب وزير اليوم كما كان في صدر هذه الدولة؟»

فقطع سحبان كلامه قائلا: «بل ينبغي أن يكون اليوم أقدر منه في تلك الأيام لضعف الخلفاء.»

فهز مؤيد الدين رأسه وقال: «ولكن هؤلاء الضعفاء لا يسمعون نصيحة؛ لأنهم يصغون إلى خدمهم

وخصيانهم.»

قال: «أليس عندك علاج لهذا الضعف يا سيدي؟» قال ذلك وبان الجد في عينيه، فقال مؤيد

الدين: «وأي علاج تعني؟» قال: «أعني علاج هذا الضعف، هذا الرجل عضو فاسد، والجراح يشير

بقطع العضو الفاسد لئلا يجر الفساد إلى سائر البدن.» وحدق في وجه الوزير يستطلع رأيه.

فأكبر ابن العلقمي هذه الجسارة بين يديه، فنظر إليه نظر المنكر العاتب، وقبل أن يقول كلمة

تصدى سحبان وقال: «إنك تعد قولي جسارة أو وقاحة، سمه كما تشاء، ولكنني أقول ما أشعر به، ونحن

مشتركان في الأمر، وبيدنا مفاتيح النصر لا ينقصنا غير الحزم، تشبه إذا شئت بخلفاء صدر هذه

الدولة وكفى.»

فالتفت مؤيد الدين إلى ما حوله كأنه يحاذر أن يسمعهما أحد، ثم نظر إلى سحبان قائلا: «لا

أوافقك على ما تقول، ولم أفهم ما تشير إليه.»

قال: «أجلك عن أن يفوتك مرادي، ولكنك ترى من السياسة أن تتجاهل، إني أشير إلى ما فعله

الرشيد بجعفر، ألم يقتله ويقتل البرامكة لأنهم شيعة، ولأنه خاف أن يكون منهم سوء على

سلطانه، وقد أساء بقتلهم إلى دولته وإلى نفسه. أما أنت فإذا انتقمت للشيعة بهذا الحزم فإنك

تنجي هذه البلاد من الخراب.»

فاستعظم مؤيد الدين هذا التصريح وقال: «دعنا من هذا الكلام يا صاحبي؛ إذ لا فائدة منه،

وأرى أنك متألم من أمير المؤمنين أو بعض أهله فأردت ...»

فقطع سحبان كلامه قائلا في تأثر ظاهر: «كلا، لا أقول ما أقوله عن غضب أو نقمة، وليس بيني

وبين هؤلاء علاقة شخصية، لكنني غضبت لقومي وملتي، غضبت للنفوس التي تقتل والأعراض التي تمزق

لا لشيء سوى حبها للإمام علي وسائر أهل البيت.»

ولم يكن مؤيد الدين أقل منه غضبا ونقمة، لكنه كان حذرا متأنيا فقال: «خففت من حدتك يا

سحبان، ودعنا الآن من هذا الحديث، إن الأمور مرهونة بأوقاتها.»

قال: «لا أرى وقتا أنسب من هذا، إن هذا الأمر إذا كان مرهونا بوقت فهذا هو وقته. اسألني وأنا أجيبك.»

قال: «لا أجهل ما يجول في خاطرك، لكنني لا أرى هذا وقته.»

قال: «لا أظنك فهمت مرادي تماما، عندي مشروع آخر غير الذي تعرفه، غير هولاكو ...»

فلما سمع الوزير هذا الاسم أجفل لأنه ما برح نصب عينيه منذ أشهر، وهو سبب تردده، فقال: «ما هو؟»

قال : «أشكر لك إصغاءك يا سيدي، الأمر الذي عندي يوصلنا إلى المطلوب رأسا؛ أعني أننا نحيي

الدولة العلوية في بلد ظل مقر العلويين نحو مائتي سنة.»

فقال: «أظنك تعني مصر، أين نحن منها؟ وقد تسلط عليها الأتراك و...»

قال: «أنا أعلم منك بحالها؛ لأني جئت من هناك أمس، وأنا لا أسافر وأجيء للتجارة، لكنني أريد

حياة قومي ونصرة الأئمة المظلومين. أنا في مصر منذ أعوام، وقد عرفت دخائلها، وهي في يدي كما

أشاء.»

فضحك ابن العلقمي وقال: «ما أوسع أحلامك! وما أكثر أوهامك! كيف خيل لك الغرور هذا، حتى

توهمت مصر في قبضة يدك، وهي فوق ذلك سنية المذهب، ورجال دولتها كلهم من الأتراك السنيين؟»

قال: «أنا أعلم ذلك يا سيدي، ولكنهم منقسمون على السيادة، وطالب السيادة الآن رجل حازم

ناقم على السلطان الحاضر في مصر؛ لأنه ساءه بأمر له ارتباط بقلبه، فهو يبذل جهده في غرضنا،

وهو ناقم أيضا على خليفتك هذا لأنه أخذ خطيبته منه، ولا يلبث أن يأتي للانتقام، فإذا

ساعدناه على قتل هذا الخليفة وبايعناه سلطانا على مصر، أطاعنا في إعلان الخلافة الفاطمية

بمصر، فنعود إلى عزنا ونتخلص من هؤلاء الظالمين.» وأبرقت أسرته كأنه نال ذلك فعلا، فقد كان

من أهل الخيال وأصحاب الأوهام الذين يستسهلون الصعب ويتوهمون وقوع المحال، إذا تصور أحدهم

أمرا يتمنى حدوثه تذرع إلى تصديقه بأوهى الأسباب، وأغضى عما يعترضه من العقبات أو يحول دون

الحصول عليه من الموانع الطبيعية، وهذه الفئة من الوهميين كثيرة، وبخاصة في بلاد المشرق.

ولعل الفرق بين النجاح والفشل إنما هو في تقدير الحقيقة حق قدرها والاحتياط للحوادث قبل

وقوعها.

أما مؤيد الدين فإنه كان من أهل التدبير والحزم، ينظر في العواقب ويتدبرها ولا تأخذه

الأوهام، ولولا ذلك لم يصل إلى منصب الوزارة في دولة مذهبها غير مذهبه، وبين قوم يكرهون

الشيعة ويفتكون بهم. فلما سمع كلام سحبان استخف برأيه، وبخاصة لأن ابن العلقمي لم يتطوح

بمطامعه إلى هذا الحد، لعلمه بعجز الشيعة عن النهوض، ولكنه كان يكتفي بأن يبدل خليفة بخليفة،

فلم يشأ أن يفاتح سحبان بهذا الأمر وعمد إلى الاختصار في الحديث فقال: «سننظر في ذلك في وقت

آخر.»

فأحس سحبان بما يضمره من احتقار رأيه، فقال: «يظهر أنك لم تكترث لقولي، أو لعلك استبعدته،

ولو عرفت الأسباب التي عندي لوافقتني.»

قال: «نعم يا صديقي، رأيت مطمعك بعيدا يكاد يكون محالا.»

وكان سحبان يحترم رأي مؤيد الدين، فقال: «إذا كان رأيي ضعيفا فأسمعني رأيا خيرا منه، أم

أنت ترى أن نبقى في هذا الذل إلى الموت ونحن سكوت؟»

قال: «كلا، لا ينبغي أن نبقى كذلك، لكن علينا أن نفكر ونقيس ونحتاط لا أن نرمي الكلام على

عواهنه ونطلب المحال.»

قال: «إذن يا سيدي ما هو الممكن من ذلك، وما هي الطريقة للنجاة؟»

قال: «لقد أحرجتني واضطررتني للكلام يا سحبان، ولم أكن أحب التصريح بما في خاطري الآن،

فأعلم أننا نحن الشيعة لا ينبغي لنا أن نطمع في إعادة دولتنا اليوم؛ لأن الأسباب لا تساعدنا

على ذلك، ولكن لا بد من أن يأتي يوم يتمكن فيه أبناؤنا منه. أما الآن فيكفينا تغيير هذا

الخليفة الضعيف المشتغل باللهو والغناء بخليفة عاقل حازم ينصفنا؛ هذه هي الخطة التي يجب أن نضعها

نصب أعيننا.»

فأطرق سحبان وهو يعمل فكرته، وقد استصغر نفسه واستضعف رأيه، وكان مع قربه من التوهم سريع

التقلب سهل الانقياد، فاستصوب رأي ابن العلقمي، وقال: «صدقت يا سيدي، إنك في الحقيقة وزير

مدبر عاقل. قل لي ما هي المعدات التي أعددتها لتنفيذ هذا المشروع؟»

فنهض مؤيد الدين وهو يظهر أنه مل الحديث، أو أنه لا يريد التصريح بأفكاره لسحبان، ووجه

التفاتة إلى جسر بغداد القائم على السفن المستديرة، فإذا هو يعج عجيجا بالناس على غير

المعتاد، وقد تزاحمت عليه الأقدام، وأكثر المشاة يركضون كالهاربين من حرب، فلم يستطع أن

يتبين الوجوه، لكنه توسم في الأمر شيئا مهما، والتفت نحو سحبان فرآه أكثر منه دهشة، وكان

أحد منه بصرا، فصاح: «ألا ترى يا مولاي؟ ألا ترى؟ هؤلاء أجناد الخليفة لعلهم عائدون من حرب

يجرون وراءهم الأسرى والسبايا.»

فقال وقد أجفل: «وأي حرب؟»

قال: «لا أدري، ولكنني أرى جندا وهذه راياتهم أمامهم، وإذا صدق ظني فأني أرى راية

الداودار في مقدمتها، وقد ذكرني ذلك بما كنت أراه من تعدي هؤلاء الأجناد على قومنا في

الكرخ والكاظمية.»

فحدق مؤيد الدين في المارة فلم يستطع أن يتحقق شيئا، وإذا هو يسمع ضوضاء في داره أشبه

بالعويل منها بالصياح، فأطل من نافذة تشرف على فناء الدار، فرأى جماعة من النساء يبكين

ويعولن وقد تلطخت أثوابهن بالدماء والتراب، ومعهن شيخ أحنى ظهره الكبر وهو يتوكأ على عكاز

ويبكي، فتفطر قلبه لهذا المنظر، ولكنه لم يعرف القوم، وكان سحبان واقفا بجانبه ينظر إلى

الدار، ولم يكد يتفرس قليلا حتى صاح: «وا أبتاه!»

فأجفل ابن العلقمي وقال: «من هذا؟ لعله أبوك؟»

قال: «هو أبي يا سيدي، أعهده مقيما في الكرخ بسلام وأمان، ماذا جرى له؟» قال ذلك

واستأذن في النزول، فنزل ومؤيد الدين في أثره.

ولم يكد سحبان يصل إلى الدار حتى سمع أباه يقول: «أين الوزير، أن مؤيد الدين؟» ولما وقع

بصره على مؤيد الدين صاح فيه: «أنت وزيرنا ويصيبنا ما أصابنا؟ إذا كان ذنبنا أننا نحن أهل

البيت الكرام، فقد قبلنا العقاب على الرأس والعين، والله يجزي كل نفس بما فعلت.»

وكان سحبان قد وصل إلى أبيه وقال له: «أبي ماذا جرى، ماذا أصابكم؟ كيف خرجتم من البيوت

على هذه الصورة؟»

فالتفت الشيخ إلى ابنه، ولما تبينه ألقى عصاه وأكب عليه وقبله، وأخذ في الشهيق والبكاء

وقال: «ولدي سحبان؟ أنت هنا؟ متى جئت؟ آه يا ليتك جئت عندنا قبل مجيئك إلى هنا. لا، بل أراك

أحسنت بابتعادك عنا لئلا تصاب بما أصيب به إخوتك.»

فاقشعر بدنه وقال: ««إخوتك»؟ ماذا أصابهم؟ من فعل بكم ذلك؟» قال: «ألا تعلم ممن تأتي

مصائبنا؟ إنها تأتي من ...» والتفت حوله وهو خائف وعيناه يغشاهما الدمع وقال: «أنت تعلم

ممن.»

فقال: «لعل هؤلاء الجنود المارين على الجسر كانوا عندكم .»

فصاح: «إننا هاربون منهم، وجئنا إلى هنا نلتجئ إلى مولانا مؤيد الدين.» والتفت إلى الوزير

وقال: «آه يا سيدي، أنقذنا من هذا العذاب، أخرجنا من هذا البلد.» والتفت إلى سحبان وقال: «إنك تفر من هذه المصائب كل سنة وتنجو بنفسك وتتركنا وإخوتك في هذا الخطر. يا إلهي متى نخلص

من هذا العذاب؟»

فأجابه سحبان وهو يرتعد من الغضب: «عن قريب إن شاء الله.»

والتفت إلى مؤيد الدين فرآه واقفا يسمع ويتجلد، وقد أومأ إلى النساء أن يدخلن دار

الحريم، ونظر إلى الشيخ وتلطف في خطابه وقال: «تفضل يا عماه واجلس هنا، خفف ما بك وقص علي

ما جرى.»

قال ذلك وقعد وأقعد الشيخ بين يديه، وسحبان واقف لا يريد أن يجلس من شدة الغضب، فأخذ

الشيخ يقص حديثه فقال: «أنت تعلم يا مولاي حالنا مع هؤلاء القوم، وكيف يناوئوننا ويعذبوننا

ونحن صابرون ننتظر الفرج، لكنهم لم يرتكبوا مثل ما ارتكبوه هذه المرة من القتل والسبي،

فإنهم لم يبقوا على الأموال والأعراض.» وغص بريقه وشفتاه ترتعشان، فتشاغل بالبحث عن عصاه.

فتأثر مؤيد الدين من منظره، ونظر إلى سحبان فرآه يمسح عينيه ويخجل أن يراه الناس باكيا،

فتجلد وأخذ يخفف عن الشيخ فقال: «يا عماه، هون عليك، لكل شيء نهاية، والله مع الصابرين. ثم

ماذا جرى؟» قال: «لا تسألني يا بني عما جرى فإنه يفتت الأكباد، يكفي ما ترونه.» وجعل يمسح

عينيه، وأنامله ترتجف، فأجابه سحبان: «قد تعودنا هذه الشدائد منهم، ولكن ...» فقاطعه أبوه

قائلا: «لا، لا، ها أنا ذا قد أدركت الشيخوخة في هذا البلد مع هؤلاء القوم، وشاهدت نكبات

عديدة ليس فيها واحدة مثل هذه؛ كانوا يعتدون على بعض المارة أو يتهمون بعض الرجال بأمر

يسوغون به لأنفسهم مصادرة ماله أو إهانته، أما الآن فإنهم دخلوا المنازل بلا حجة ولا سبب،

وداسوا مخادع النساء، وارتكبوا الفاحشة وقتلوا الأطفال. دعني لم أعد أستطيع الكلام، ولا أبالي إذا مت، وإنما أطلب من الله أن يبقيني حيا لأرى زوال هذه الدولة.» ثم أسرع تنفسه وأوشك

أن يغمى عليه، فرشوه بالماء، وبادر ابنه إليه فأعانه حتى أدخله غرفة استراح فيها، وذهب توا

إلى دار الحريم وكلف بعض الخصيان أن يجمعه بأخته، وكانت مع النساء. فجاءت وهي تبكي وتندب

وقد قطعت شعرها، فقال لها: «أخبريني يا صفية ماذا جرى لكم؟ هل أصيب أحد منكم بسوء؟ أين

إخوتك؟

فضربت كفا بكف وقالت: «لا أدري هل هم أحياء أم أموات؟ ويلاه! أين كنت فلم تشاهد المذابح؟

إنهم دخلوا مخدعي وأوشكوا أن يمسوني، أعوذ بالله ...»

فاقشعر بدنه من هذا التعبير، ولم ير بدا من التجلد بين يديها، فقال: «الله منتقم يا أخية،

وسوف ينتقم من القوم الظالمين.» وتحول إلى الدار فلم يجد مؤيد الدين هناك، فسأل الخدم عنه

فقالوا إنه في حجرته يلبس ثيابه، فعلم أنه عازم على الذهاب إلى قصر الخليفة في هذا الشأن،

فسره أنه غضب وود ألا يفلح في مهمته لعله يعمل بمشورته ويعزم على التخلص من هذه الدولة.

وذهب إلى أبيه فرآه قد صحا واستراح، فجلس إليه وأخذ يخفف عنه ويسأله عن تفصيل ما جرى، فلم

يزدد إلا دهشة وغضبا لما سمع، لكنه أخذ يهون على أبيه بأنه سينتقم له، وإن الله لا بد أن يبيد الظالمين، ونحو ذلك من

عبارات التعزية، وقد تعودها الشيعة في بغداد لكثرة ما توالى عليهم من الإحن. •••

لبس مؤيد الدين قلنسوته وقباءه الأسود، ثم ركب بغلته إلى قصر التاج ليرى الخليفة ويشكو

إليه ما فعله جنده مما لا يحتمل، والغلام يركض بين يديه. فمر بالمدرسة المستنصرية والقصر

الحسني حتى وصل إلى قصر التاج، فدخل بساتينه والخدم يوسعون له. فلما وصل إلى بابه الأكبر

ترجل ودخل مسرعا، والغضب باد في محياه، حتى إنه لم يحسن رد التحية على من لقيه في طريقه من

الخاصة.

فلما بلغ باب العامة مشى الحرس بين يديه، فسأل صاحب الباب عن الخليفة، فقال: «إنه جالس في

منظرة المسناة، فهل أستأذن لمولاتي الوزير؟» قال: «هل هو وحده هناك؟» قال: «عنده بعض الخاصة

والمغنين.» فشق عليه ذلك لأنه طالما فكر فيه وتكدر منه، فقال له: «استأذن لي عليه، أو قل له

إني أحب لقاء أمير المؤمنين حيثما يشاء.»

فذهب الغلام وعاد وهو يقول: «لا يرى أمير المؤمنين بأسا من دخولك إلى المنظرة.» فلم تعجبه

هذه الدعوة لأنه كان يحب أن يراه على حدة، لكنه لم ير بدا من الطاعة، فدخل من دهليز إلى

دهليز، والخصيان يوسعون له حتى أطل على المنظرة، وهي كالعريش أو «الكشك» تشرف على دجلة،

فوقها قبة من الخشب مزخرفة بالنقوش والتذهيب الجميل. وأرض المنظرة مفروشة بالبسط الثمينة

عليها الرسوم البديعة، وفوق البسط الوسائد المطرزة، وفي وسط المنظرة مائدة عليها ألوان

الفاكهة والحلوى، والمستعصم في صدر المكان قد اتكأ على مرتبة عالية كالسرير، وعليه ثوب أبيض

مذهب يشبه القباء، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية القيمة

المتخذة للباس الملوك، وكأنه يتعمد بذلك تقليد زي الأتراك. وكان المستعصم أسمر اللون، مسترسل

اللحية، ربعة القوام، لا بالطويل ولا القصير، ظاهر الحياء، لين الكلام، سهل الأخلاق، إلا أنه

ضعيف البطش قليل الخبرة بأمور المملكة مطموع فيه. وبين يدي المنظرة دجلة يجرى وفيه الزوارق

المعدة لركوب الخليفة متى شاء.

فاستعاذ مؤيد الدين من هذه المقابلة، وود لو أنه لم يأت في تلك الساعة، لكنه لم يسعه إلا

إلقاء التحية بالاحترام اللائق، فأشار إليه المستعصم أن يجلس على وسادة بالقرب منه وقال: «مرحبا بوزيرنا الهمام.»

فتأدب في الجواب وتقديم الاحترام، والتفت إلى الحضور فلم يجد بينهم من يحترم مجلسه أو

يعتد بوجوده، وإنما هم طائفة من خاصة الخليفة العائشين في داره، وقيم القصر، وأستاذ

الدار، ويعرف بالصاحب، وله قدر كبير عند الخليفة ويدعى له على المنابر بعد الدعاء للخليفة،

وقلما يظهر للعامة، اشتغالا بما هو بسبيله من أمور تلك الديار ومراقبتها والتكفل بها

وتفقدها ليلا ونهارا.

وما كاد الوزير يجلس حتى أشار الخليفة إلى المغني أن يعيد ما غناه، وراح يظهر طربه

الشديد، متجاهلا ما يقتضيه منصب الخلافة من الوقار، وكان أعوانه يعرفون ذلك فيه فيعده

بعضهم لطفا وظرفا، ويعده الآخرون ضعفا وتهاونا، وهذا هو رأي مؤيد الدين فيه، على أنهم

أجمعوا على حسن طوية الخليفة، ولعل ذلك من أسباب ضعفه التي جعلت سبيلا لأرباب الدسائس

إليه. •••

كان مؤيد الدين يسمع الغناء وهو مطرق يفكر فيما جاء من أجله، وينتظر أن يسأله الخليفة عن

شأنه. فلما أتم المغني دوره التفت المستعصم إلى الوزير وقال: «هل سمعت أشجى صوتا وأرق

نغما؟ أن هذا اللحن يطربني كثيرا، وهناك لحن آخر قريب منه لم أجد من يجيده في بغداد، وقد

بلغني عن مغنية في دار سلطان مصر تجيده فبعثت في استقدامها لكنها لم تصل إلي.» قال ذلك وسكت

وقد انقبض وجهه، ثم استطرد قائلا: «وكنت معتزما أن أبعث إليك منذ أيام لأخبرك بذلك،

وأستعينك في البحث عن هذه المغنية؛ لأني على ثقة من أنها وصلت إلى بغداد، لكن بعض اللصوص

أخذوها من الركب الآتي بها من مصر، فهل تبحث عنهم؟» فأشار مؤيد الدين مطيعا وقال: «لا بد من

البحث عن كل لص ومعاقبته؛ إذ لا يليق أن يتجرأ أحد على جريمة في أيام مولانا أمير المؤمنين

أيده الله.» وأحب أن يتطرق إلى ما جاء من أجله، فتصدى له أستاذ الدار وقال: «أن تجرؤ اللصوص

على خطف مغنية محمولة لمولانا أمير المؤمنين لأمر لم يسمع بمثله، وهو يدل على ضعف سلطة

الحكومة وقلة هيبتها في عيون الناس، وكان المرجو من الوزير - حفظه الله - ألا يترك سبيلا إلى

مثل ذلك.»

فوقع هذا الكلام وقوع السهم في قلب مؤيد الدين، ولم يطق صبرا على السكوت عنه، وعلم أن

الأستاذ الخصي يريد أن يظهر لدى مولاه في مظهر الغيور على مصالح الدولة، فاستثقل ذلك منه،

وعده جسارة خارجة عن حدود اللياقة في مجالس الخلفاء، فالتفت إليه وقال: «صدقت يا أستاذ، لا

ينبغي أن يقع مثل ذلك، وتبعته تلقى على الوزير إذا كان الأمر راجعا إليه، فإن أرواحنا فداء

أمير المؤمنين في الذب عن الدولة وبذل الجهد في طاعته، ولكن هذه الأمور وأمثالها تقع

أحيانا ولا حيلة للوزير في دفعها.» ثم حول بصره إلى المستعصم وقال: «وكثيرا ما يقع هذا

ونتلافاه بدون أن يبلغ إلى سمع مولانا أمير المؤمنين، حتى الجند فإنهم يرتكبون أمورا لا يليق

بهم ارتكابها، ولا أدري هل يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم.» قال ذلك وتغير وجهه، وظهر للخليفة

أنه يحمل شكاية يريد إيصالها فقال له: «لا ينبغي أن يقع شيء من ذلك إلا بإذن منا أو من

وزيرنا أو من أستاذ دارنا. وهل وقع شيء من هذا القبيل قريبا؟»

قال الوزير: «أرفع إلى سمع مولاي أمير المؤمنين أن جماعة من أهل الكرخ أتوني الساعة وفيهم

الشيوخ والنساء يبكون ويندبون، وقالوا إن شرذمة من الجند نزلوا عليهم ونهبوا منازلهم وقتلوا

من وقف في طريقهم وارتكبوا الفاحشة وغير ذلك.»

فتصدى أستاذ الدار وقال وهو يهز رأسه هز الاستهزاء: «أهل الكرخ؟ أهل الكرخ تعودوا هذه

الشكاية فلا يمضي عام أو شهر إلا سمعناها منهم.»

فاستقبح مؤيد الدين تعرضه ووقاحته، واستغرب اعتراضه، فقال وهو يخاطبه: «تعود أهل الكرخ

الشكوى لأن الجند تعودوا أن يؤذوهم و...»

فقطع الأستاذ كلامه وقال: «وإن لم يؤذوهم، فإنهم يحبون الشكوى. هذه عادة الشيعة.» ونظر إلى

الحضور وضحك ضحك الاستخفاف.

فأثر ذلك في خاطر ابن العلقمي تأثيرا سيئا جدا، وحول وجه عن الرجل وهو يقول: «لم أكن

أظن أحدا يجسر على هذا القول في حضرة مولانا أمير المؤمنين.» وسكت.

فتصدى المستعصم للكلام وقال: «لا أستحسن ما جرى بينكما، ولا حق للأستاذ أن يتكلم بهذه

اللهجة، فإذا اشتكى أهل الكرخ أو غيرهم فعلينا أن ننظر في شكواهم وننصفهم.» ووجه خطابه إلى

مؤيد الدين وقال: «ماذا جرى أيها الوزير؟»

فاتجه هذا نحو الخليفة وقال: «بلغني يا مولاي أن شرذمة من الجند سطت على الكرخ في هذا

الصباح وأمعنت في أهله قتلا ونهبا، وقد رأيت جماعة من المصابين وفيهم الشيوخ والنساء

والأطفال فلم أشأ أن أفعل شيئا قبل أن أستطلع رأي مولاي.»

فقال الخليفة وهو يظهر الاهتمام: «إن هذا منوط بالداودار قائد الجند، فينبغي أن نسأله عما

بعثه على ذلك، لعل له عذرا.» وصفق فجاء الحاجب، فأمره أن يستقدم الداودار حالا.

وعاد الخليفة فأشار إلى المغني أن يعود لغنائه، واقترح عليه لحنا غناه وهو يعزف على

العود، فطرب الجميع، إلا ابن العلقمي؛ فإنه كان يغلي من الغضب وهو يتجلد.

وبعد قليل جاء غلام وقال إن الداودار بالباب، فأمره الخليفة أن يذهب به إلى دار العامة

ينتظر حضوره. ثم نهض وأشار إلى الحضور بالانصراف، وأومأ إلى الوزير أن يتبعه، فسار في أثره

نحو دار العامة، وهي قاعة الاستقبال الخاصة بالأعمال.

ودخل الخليفة أولا غرفة الألبسة، وجاء صاحب الثياب فألبسه ما تعود لبسه إذا جلس لمقابلة

الناس: العمامة الكبرى والجبة وغيرهما. ثم أقبل على دار العامة من باب داخلي، وهي مفروشة

أحسن فرش بالستائر والنمارق والأرائك، يقلدون بها ما كان من أسباب البذخ في صدر الدولة

العباسية. فلما دخل الخليفة القاعة جلس على سريره، وأومأ إلى ابن العلقمي أن يقعد، ثم أمر

الحاجب أن يدخل الداودار. وكان ابن العلقمي قد سري عنه، فدخل الداودار وألقى التحية ووقف

متأدبا، فقال له الخليفة: «يقول وزيرنا - حفظه الله - إن الجند سطوا على الكرخ وقتلوا ونهبوا؛ هل أنت عالم بذلك؟» قال: «نعم يا مولاي.» قال: «وتقول نعم؟ وكيف أذنت بوقوعه؟»

قال: «فعلته بأمر من مولاي الأمير أبي بكر نجل مولانا أمير المؤمنين.»

قال: «إذا قال لكم أحمد - أبو بكر - اقتلوا الناس قتلتموهم بلا سبب.»

قال: «لم أسمح بإرسال الجند إلى الكرخ بلا سبب، لكن مولاي أبا بكر قال إن جماعة من أهل

الكرخ خطفوا جارية من جواريه وخبئوها عندهم، فذهبت للبحث عنها عند صاحب الشأن فمنعونا من

الدخول وجردوا علينا السلاح، فأمرني الأمير بالدفاع والتفتيش، وقد فعلت.»

فقال الخليفة: «ذهبتم للتفتيش عن جارية أخذت من بيت أحمد فقتل بسببها عشرات من الناس،

فلوا فعلت مثل فعلكم بسبب الجارية المغنية التي أخذت مني لحدث مثل هذا وأعظم منه. إن هذا لا

يليق بنا. أين أحمد؟»

فأجابه الداودار: «أظنه في قصره يا مولاي.» فقال: «ادعه إلي حالا.»

فلما شاهد مؤيد الدين غضب الخليفة على ابنه استبشر بنجاته من تطاوله وتدخله في أمور

الدولة، ونظر إلى المستعصم فرآه مطرقا والغضب يتجلى في وجهه، لكنه لم يتبين من ذلك الغضب

حزما وعزيمة - وتلك كانت علة الخليفة - لم يكن ينقصه حسن القصد، وإنما كان ينقصه الحزم. فظل

مؤيد الدين صامتا مطرقا حتى دخل الحاجب وأنبأ بمجيء الأمير أحمد، فأمر الخليفة بدخوله. •••

دخل أبو بكر، وهو شاب في مقتبل العمر، قد أخذه الغرور، تمازج حركاته خيلاء لا تظهر إلا

على الأدمغة الفارغة، ولا سيما في أوائل الشباب؛ فقد كان في حوالي السنة العشرين من العمر، وتلك هي سن الغرور في كل شاب؛ إذ يتوهم صاحبها أنه بلغ الكمال في كل شيء؛ إذا مشى حسب الناس

ينظرون إليه إعجابا بجماله أو بسالته، وإذا قال قولا توقع أن يكون له وقع الوحي على

القلوب، فإذا آنس منهم فتورا أو احتقارا غضب وأنحى عليهم باللائمة ورماهم بالجهل أو الحسد

لأنهم بخسوه حقه، وبأنهم إنما فعلوا ذلك تقليلا من فضله. ونحو ذلك من غرور الشباب.

فإذا كان ذلك شأن الشباب على اختلاف طبقاتهم، فكيف بأبناء الملوك والخلفاء الذين لا يسمعون

إلا التحبيذ والإطراء؟ وبخاصة إذا كان في الشاب خفة وصغار مثل أحمد هذا الذي زاده غرورا أن

أباه أطلق سراحه من محبسه على غير المعتاد عند الخلفاء قبله، فأصبح لذلك لا يحسب للعواقب

حسابا، بل هو لا يدرك حقائق الأمور، وإنما يهمه أن تنفذ كلمته وينال مشتهاه مهما يكلفه

ذلك.

دخل أبو بكر وألقى التحية، وتلفت يمينا وشمالا فوقع بصره على مؤيد الدين، فنظر إليه

باحتقار، ومؤيد الدين لا يبدي ملاحظة. وقعد أبو بكر قبل أن يأذن له أبوه في القعود فقال له

المستعصم: «يا أحمد أنت أمرت الداودار بالهجوم على أهل الكرخ؟»

فأجاب وهو يبتسم نكاية في مؤيد الدين: «نعم يا أبي.» قال: وكيف ذلك؟ ولماذا؟» قال: «لأن

جارية من جواري هربت من قصري واختبأت في منزل أحدهم، ولا شك أنهم حملوها على الفرار وخبئوها،

فبعثت من يأتي بها فشتموا رسولي وضربوه، فأمرت الداودار أن يؤدبهم فتمردوا عليه، فاضطر -

للدفاع عن نفسه - أن يضربهم وقد فعل، وما المانع من ذلك؟»

فقال المستعصم: «المانع أنه لا يليق أن تحدث مذبحة يقتل فيها عدة رجال من أجل جارية، وأنت

تعلم أن في قصورنا ألوفا من الجواري، فلو طلبت مني عشر جوار بدل الجارية لكان ذلك أهون علي

مما أسمعه، والجواري كلهن سواء.»

فاعتدل في مجلسه وهو يصلح منطقته بدلال وأنفة وقال: «إذا كانت الجواري سواء، وفي قصورنا

ألوف منهن، فما الذي حمل أمير المؤمنين على أن يبعث في طلب جارية من سلطان مصر.»

وكان مؤيد الدين يلاحظ ما يتقلب على وجه المستعصم من الملامح ليرى ما يكون تأثير قول ذلك

الغلام فيه، فإذا به لما سمع اعتراض ابنه غلب عليه ضعف العزيمة وعمد إلى الاسترضاء وقال: «أنا لم أطلب تلك الجارية من سلطان مصر إلا لتفردها بغناء أصوات لا يستطيعها سواها، وأما ...»

فقطع أحمد كلام أبيه بكل وقاحة واستخفاف وقال: «وما أدرك أن تكون جاريتي هذه غير ممتازة

بمناقب لا توجد في سواها؟ وما أجدرني أن أقتدي بوالدي وهو أمير المؤمنين، قدوة سائر

المسلمين.»

فحمل المستعصم هذا القول محمل التهكم، وخجل من أن يسمعه أمام مؤيد الدين والداودار ولا

يرد عليه فقال: «أهكذا تجيبني يا أحمد؟ وهل يحق لكل واحد أن ينال ما يناله أمير المؤمنين؟

إن عملك هذا لا يرضيني.»

فهز أحمد رأسه وقال: «يكفي أن يرضيني أنا. وهل أعمال أبي ترضي كل إنسان؟ لا يطلب من المرء

أن ترضي أعماله كل الناس.»

وبعد أن كان المستعصم قد صرح بإنكاره تهكم ابنه حمله ضعفه على المغالطة، وتناسى تهكمه

فابتسم وقال: «وبعد تلك المقتلة هل ظفرت بالجارية؟»

قال: «كلا، ما زالت مختبئة، ولا بد من العود إلى البحث عنها.»

قال: «لا يا ولدي، لا تبحث عنها هكذا، وسأكلف أنا وزيرنا مؤيد الدين أن يتحرى عنها حتى

يقف على مكانها ويعيدها إليك .»

فنظر أبو بكر إلى مؤيد الدين لحظة ثم حول وجهه عنه نحو الداودار وقال: «إذا لم يقف على

مكانها فنحن نقدر على إخراجها من مخبئها، ولو كانت في جيب الوزير أو بين أهله.» ثم نهض وقال: «أستأذن سيدي الوالد في الانصراف الآن لأني على موعد مع بعض القواد للخروج إلى الصيد.» وخرج

ولم ينتظر إذن والده، وأومأ إلى الداودار أن يتبعه فتبعه، والمستعصم ينظر إلى ابنه وهو خارج

وقد بان اليأس في وجهه، ثم حول بصره إلى مؤيد الدين وتنهد وقال: «صدق القائل: «وإنما

أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض».» ودمعت عيناه.

فأطرق مؤيد الدين وهو يتعجب من ذلك الضعف، ولبث في انتظار خطاب الخليفة حتى سمعه يقول: «يا مؤيد الدين، إنك وزيري وموضع ثقتي، وقد رأيت ما أظهره أحمد من الاستخفاف بقولي، وأظنني أخطأت بإطلاق سراح أولادي، فخالفت بذلك تقاليد أجدادي. لو كان أحمد كما كان أبناء

الخلفاء قبله لكنا في غنى عما نحن فيه.» وتشاغل بإصلاح لحيته، فلم يشأ مؤيد الدين أن يخوض

في هذا الموضوع خوفا من تغلب عاطفة الحنو في نفس الخليفة مما قد يحول غضبه إليه، وبخاصة أنه

يعلم ضعفه من جهة ابنه هذا. فقال المستعصم: «نطلب من الله أن يهدي هذا الغلام إلى صوابه،

أنت أب تعرف قلوب الآباء، فأتقدم إليك أن تساعدني في البحث عن جارية أحمد، وأن تعوض على أهل

الكرخ خسائرهم. وإني آسف لما وقع وعسى ألا يتكرر.» ثم تنحنح وهم بالنهوض وهو يقول: «لا

يبرح من بالك أيضا أن تبحث عن الجارية شوكار، المغنية التي استقدمناها من مصر وخطفها اللصوص

قرب بغداد.»

فنهض مؤيد الدين وطأطأ رأسه طائعا وقال: «إني عبد أمير المؤمنين، وفقني الله في خدمته، ولكنني ...»

فقطع الخليفة كلامه قائلا: «أنا أعلم أن أحمد لم يكن ينبغي له أن يقول ما قاله، لكنه لا

يزال شابا قليل الاختبار، ولا يلبث أن يهتدي إلى الصواب.» وتحول كل منهما في طريقه. •••

خرج مؤيد الدين بن العلقمي من قصر التاج وركب بغلته عائدا إلى قصره وهو غارق في التفكير،

تتنازعه عوامل مختلفة، لكن الخوف متغلب عليها كلها.

ولما دنا من قصره رأى في موقف الدواب بغلتين إحداهما بغلة سحبان، وقد عرفها، والثانية لم

يكن قد رآها من قبل، فتقدم غلامه إلى الباب وقرعه، ففتح على سعته ودخل مؤيد الدين ببغلته إلى

مدخل الباب وترجل هناك، فتناول الغلام زمام البغلة وساقها إلى مكانها، ومشى مؤيد الدين وكان

البواب يسرع بين يديه، فقال له: «من هو صاحب البغلة الأخرى المربوطة هنا؟»

قال: «إن صاحبتها امرأة جاء بها سحبان من وقت قريب، وهو في انتظار مولانا الوزير في

الشرفة.»

قال: «قل له يأتي إلى غرفتي، من هي المرأة التي معه؟»

قال: «لا أدري يا سيدي، لكنه بعد خروجك أخذ أباه وأخته إلى الكرخ ثم عاد الساعة ومعه هذه

المرأة وأظنها جارية.»

وكان مؤيد الدين قد دخل غرفته وأهل بيته يعلمون أنه إذا دخلها لا يدخل عليه أحد إلا بإذن

خاص، وسأله الطاهي: هل يريد الطعام فقال: «هيئ لي مائدة مختصرة أدخلها إلى هنا، وليأت سحبان

للأكل معي.»

ودخل فبدل ثيابه، ولم يكد يفرغ من اللبس حتى جاء سحبان وفي وجهه أمارات البشر، وكان قد

فارقه واليأس غالب عليه، فاطمأن مؤيد الدين بعض الشيء، وابتسم ابتساما لم يتعد شفتيه وقال: «ما وراءك يا صاحبي؟» قال: يظهر أنك غضبت مما شاهدته في قصر التاج، ليس عند القوم ما

يفرح.» وابتسم.

فقال مؤيد الدين: وهل عندك شيء يفرح يا سحبان؟ بالله قل إن صدري قد ضاق مما أراه وأسمعه.

تقدم كل معي.»

فأتى على دعوته وتناول سكباجة وتشاغل بتقطيعها وهو ينظر إلى وجه الوزير ويقول: «لدي خبر

يسرك ويوجب استغرابك ودهشتك.»

ومال مؤيد الدين إلى استطلاع ذلك الخبر، فتوقف عن المضغ وقال: «ما ذلك؟ قيل لي إنك جئت

ومعك امرأة، من هي؟» ثم عاد إلى المضغ.

فضحك سحبان وبادر إلى قطعة من السكباجة أدناها من فيه وهو يقول: «هي طلبة الأمير أحمد، وهي

الجارية التي فتك بأهل الكرخ من أجلها.»

فقال: «كيف ظفرت بها؟ الحمد لله على ذلك قد خلصنا من شر هذا الغلام، أين كانت؟»

قال: «كانت مخبأة عند جيراننا، وأختي عالمة بذلك، لكنها كتمته واحتملت الخطر من أجل

كتمانه كما علمت، لأنها رأت الجارية تكره أن تعود إلى أحمد هذا، فلما جرى ما جرى وعدت أمس

مع أهلي، قصت علي أختي خبر هذه الجارية وأرتني إياها، فأتيت بها إلى هنا.»

قال: «حسنا فعلت؛ لأن الخليفة ألح في التوصية بأن نبحث عن هذه الجارية ونعيدها إلى ابنه

حذر طيشه، وقد حيرني هذا الوالد بضعفه وحنوه.»

فقال سحبان: «لكن الجارية لا تريد أن تعود إليه.»

قال: «هي وشأنها، نحن ندفعها إلى الخليفة ونتخلص من تبعة أمرها.»

قال: «إنها أشد كرها للخليفة، ولا تريد أن يعرف بوجودها هنا.»

قال: «وكيف ذلك؟ لم أسمع أن الجواري يرفضن التقرب من الخلفاء.»

قال: «لهذه الجارية شأن خاص لا يعرفه أحد في بغداد سواي.»

قال: «لله أنت! ما أكثر ما تعرفه!

قال: «لا أعرف ذلك لذكاء خاص أو لكرامة أو ولاية، ولكن الأسفار تعلم الإنسان أشياء

كثيرة.» قال: «وما علاقة ذلك بالأسفار؟» قال: «إني رأيت هذه الجارية بمصر وعرفت حديثها، وهو

ذو شجون، لو عرفته لتولتك الدهشة من غرائب الاتفاق.»

فازداد رغبة في الاستطلاع وقال: «قل يا سحبان، لا صبر لي على الإطالة.» قال: «ألم تسمع

شكوى الخليفة من جارية طلبها من سلطان مصر وخطفت قبل وصولها إلى قصره؟ إنها هي هذه الجارية

نفسها.»

قال بدهشة: «هي نفسها الجارية التي فرت من ابنه إلى الكرخ؟» قال: «نعم يا سيدي هي بعينها، هي شوكار جارية شجرة الدر التي سمع الخليفة برخيم صوتها

وجودة صنعتها على العود، فبعث إلى سلطان مصر يطلبها منه. وقبل دخولها بغداد سطا عليها بعض

الناس بحجة أنهم قادمون من قصر الخليفة لحملها إليه وفروا بها. وتحدث أهل بغداد بذلك زمنا

ثم سكتوا، وكان الباعث على ذلك السطو أن أبا بكر لما سمع بالجارية القادمة إلى أبيه رأى أنه

أولى بها، فبعث من قبله أناسا أخذوها من القادمين بها بدعوى أنهم آتون من قصر التاج

لاستقبال مغنية أمير المؤمنين، فلما صارت في أيديهم أخذوها إلى قصر أعده هذا الشاب لمثل هذه

الحاجة، وكان أهل قصر التاج في انتظارها. ثم علموا أنها أخذت خلسة لكنهم لم يعلموا أين هي،

وما زالوا يجهلون ذلك إلى الآن.»

فاستغرب مؤيد الدين وقاحة ذلك الشاب وقال: «وماذا فعلت شوكار بعد ذلك؟ ألم تستطب مقامها

عند هذا الشاب؟»

قال: «إن هذه الفتاة لا يطيب لها المقام في غير مصر؛ لأنها مخطوبة لأمير من أمراء

المماليك.»

قال: «مخطوبة؟ وبعث الخليفة يأخذها من خطيبها؟»

قال: «لم يعلم الخليفة أنها مخطوبة، وإنما يعلم أنها جارية شجرة الدر الملكة السابقة، وأنها

تحسن الغناء، فطلبها من السلطان الجديد فلم يسعه مخالفة الأمر.»

قال: «من هو خطيبها؟» قال: «هو ركن الدين بيبرس البندقداري.» قال: «ركن الدين بيبرس؟ إنه

بطل باسل ورجل حكيم، اجتمعت به مرة في مصر ونحن شابان وتكاتبنا غير مرة، إني أعرفه شجاعا لا

يصبر على الضيم، فماذا هو فاعل؟»

قال: «إنه يكاد يتقد غيظا، ولا أخفي على مولاي أنه أسر إلى أمر هذه الجارية وأنا في مصر،

وقد تعجلت السفر إلى بغداد في سبيل خدمته، لعلي أقف على خبر خطيبته، وكان قد جاءه كتاب منها

تنبئه فيه باختطافها من رجال الخليفة، ولم تكن تعرف من اختطفها، وربما جاء هو بنفسه للبحث

عنها.»

فأطرق مؤيد الدين مدة وهو يفكر في حال ذلك الخليفة وابنه، وفي اشتغالهما باللهو عن الملك

وقال: «هل تظن ركن الدين يأتي إلى بغداد؟»

قال: «لا يبعد أن يأتي، والآن إذا أذنت فلتبق شوكار عندنا ريثما يأتي هو أو نكتب إليه عن

نجاتها وننتظر رأيه فيها.»

قال: «وكيف استطاعت الفرار من قصر أبي بكر وهي غريبة هنا؟»

قال: «ساعدها على ذلك خصي كان في خدمتها يعرف أهل المنزل المجاور لمنزلنا، فحملها إليه

بحيلة، ولما علم أبو بكر بذلك جاء الكرخ كما علمت، لكنه لم يستطع الوقوف على خبرها، ولما

علمت اليوم بوجودها أتيت بها إلى هنا لأرى رأيك فيها.»

فأخذ مؤيد الدين يفكر فيما سمعه وهو حذر يقظ، فخاف أن يكون في بقاء تلك الفتاة عنده باعث

على سوء الظن به، لعلمه بوجود الجواسيس حوله فقال: «انظر يا صاحبي، إن أمر هذه الفتاة أهمني

كثيرا، وقد فرحت بنجاتها من الأسر، وأحب استبقاءها، لكني لا أرى أن تبقى في منزلي.»

فبادره سحبان قائلا: «صدقت، وأنا لا أطلب ذلك، وإنما أستشيرك في الأمر، وأحب أن يعلم

بيبرس أن نجاتها كانت على يدك، وهو قائد عظيم ننتفع برأيه وحزمه في الأمر الذي تكلمنا فيه،

ولا بد من الوصول إليه. إن هذا القائد وعدني وأنا في مصر أنه يستطيع أن يقلب هذه الحكومة

ويقتل الخليفة ويقيم لنا الدولة العلوية الشريكة بمصر، وعند ذلك ...»

فأسكته مؤيد الدين بالإشارة وهمس في أذنه قائلا: «لا تتطرف في أفكارك يا أخي، دعنا من

التخيلات إلى الممكنات.»

فتعجب سحبان من إنكاره ذلك عليه لأنه كان يعتقد إمكانه، ويعتقد أن ركن الدين وعده به، مع

أن ركن الدين لم يبد في هذا الشأن غير السكوت. ولكن سحبان كان كثير التعويل على الأوهام

فيبني من الحبة قبة، بينما مؤيد الدين كان على عكس ذلك، فلما أنكر عليه قوله اضطر سحبان إلى

السكوت والتظاهر بالاقتناع وقال: «هب أن أملي بعيد، ألا ترى في مجيء ركن الدين نفعا لنا؟»

قال: «قد يكون حضوره نافعا لنا إذا أحسنا استخدامه، ولا محل للكلام في ذلك الآن.»

فقاطعه قائلا: «ما لي أراك لا تجد محلا للكلام. هب أنني وافقتك على رأيك، واكتفيت بإبدال

خليفة بخليفة؛ ألا يجوز أن نبحث في هذا؟

قال: «يجوز يا صاحبي، وتراني في حيرة من أمر هذا الخليفة؛ تارة أراه معتدلا يمكن إصلاحه،

وآونة أقطع الأمل في إصلاحه. سنفكر في ذلك.»

قال: «افرض أن المستعصم هذا يمكن إصلاحه، أترى الإمام أحمد بن الظاهر أهلا ليقوم

مقامه؟»

فبغت مؤيد الدين لهذا الاقتراح؛ لأنه طالما فكر فيه ولم يخطر له أحد سوى الإمام أحمد أهلا

له، لكنه لم يكن ليبوح به لأحد، فلما سمع اقتراح سحبان أجفل وظهرت البغتة في عينيه، وزادتا

لمعانا وقال: «لا بأس به، لكنه محبوس في قصر الفردوس كما تعلم ولا سبيل إليه.»

قال: «متى تم رأينا على أمر لا يقف الحبس في طريقنا، وإنما أطلب إليك أن تصرح لي برأيك، يكفيني منك تكتما، إن التكتم حسن لكنه إذا زاد على حده يفشل صاحبه. قل لي ألا ترى الإمام

أحمد أهلا ليقوم مقام المستعصم.»

قال: «إنه نعم الخلف، ولكن دون الوصول إليه خرط القتاد، وسننظر في الخطوة الأولى، وأفضل

إصلاح حال المستعصم؛ لأن ذلك يغنينا عن التغيير والتبديل.»

قال: «وأنا أدعوك إلى إصلاحه.» وتحفز للنهوض وقال: «أما تريد أن ترى شوكار وتأذن لها في

تقبيل يدك؟»

قال: «لا بأس من ذلك، وإن كنت أرى أن تسرع بإخراجها من هذا المنزل.»

قال: «تقبل يدك وتذهب حالا.» ونهض ومشى ثم عاد ومعه شوكار، وكانت قد تغيرت سحنتها من فرط

ما قاسته من العذاب والهموم، فلم يفرج همها إلا في ذلك اليوم لما رأت سحبان وطمأنها على ركن

الدين، وأنه بعثه للتفتيش عنها، وأصبحت تتوقع سرعة الرجوع إلى مصر أو وصول ركن الدين إلى

بغداد. فلما دخلت على مؤيد الدين أكبت على يده تقبلها، وقد غلبها البكاء وبللت كفه بالدموع،

فاجتذب يده من يدها وقال: «لا باس عليك يا بنية، لا تخافي، إن أمير المؤمنين لا يظلم أحدا،

وإن الله لا يتخلى عن أحد.»

فأطرقت برأسها حياء وهي واقفة وقالت: «أحمد الله الذي وسط هذا الشهم في إيصالي إليك، وأنا

لا أطلب شيئا غير إرجاعي إلى مصر.» وغصت بريقها.

فقال مؤيد الدين: «ستعودين في خير إن شاء الله.» وتحرك من مقعده ونهض، وأومأ سحبان إلى

شوكار أن تتبعه، وودع مؤيد الدين شاكرا ومشى، فتبعته شوكار، فأسرع إلى إخفائها في منزل لبعض

أهله في الكاظمية.

الفصل الثامن

مؤيد الدين وهولاكو

أما ابن العلقمي فما كان يخلو بنفسه حتى صعد إلى الشرفة ، والشمس قد مالت إلى المغيب،

وتوسد فراشا على مقعد يطل على دجلة، وقد تاقت نفسه إلى الوحدة والتفكير فيما هو فيه من

مشاغل. فلما سمع أذان المغرب نهض للصلاة في مسجد بالقرب من منزله، وهو يتوقع أن يرى في

الصلاة راحة. وليس للمؤمنين في ساعة القلق سبيل إلى الراحة والطمأنينة خيرا من الصلاة

والدعاء إلى الله أن يهديهم سواء السبيل وينقذهم من المخاطر.

أحس مؤيد الدين حاجته إلى الراحة فأسرع إلى المسجد وأخذ يصلي، فلما فرغ رأى شيخا من

الصوفية راكعا بالقرب منه وسمعه يتمتم بالصلاة فلم يهتم به، ثم رآه يزحف نحوه، وكدرته

وقاحة ذلك الصوفي وظنه مصابا في عقله، فالتفت إليه شزرا وزجره بلطف، فازدجر الرجل هنيهة

وأظهر أنه يصلي، فعاد مؤيد الدين إلى صلاته ودعائه، واستغرق في التوسل إلى الله أن يهديه

سبيل الرشاد.

ولما فرغ نهض وتحول نحو الباب فوجد أناسا واقفين للسلام عليه، فحياهم ومشى، ولما وصل إلى

المنزل إذا بذلك الصوفي واقف بجانب الطريق وبيده مسبحة وهو يتمتم كأنه يدعو، فلما دنا مؤيد

الدين منه تقدم الصوفي المسبحة في يده وهو يبتسم وقال: «إني أستطلع الغيب وأنبئك بما تفعله

يا مؤيد الدين.»

فلما سمع ذلك أجفل لأنه قيل له بلحن الأمر وفيه صيغة العجمة، فعلم أن مخاطبه غير عربي

وأنه ليس من الفقراء المتسولين، وأنه لأمر ذي بال تعرض له في الطريق على هذه الصورة، فألقى

الرجل نظرة متفرس، وتأمل لباسه ووجهه، فرأى عليه قلنسوة الصوفية وجبة الصوفية وفي يده مسبحة

الصوفية، لكن سحنته غير سحنتهم، ولحيته غير لحيتهم، فأجاب قائلا: «من أنت يا رجل؟»

قال: «إني بصير بخفايا القلوب، قادر على تفريج الهموم، أكشف لك ما خفي عليك وأرشدك إلى

الطريق السوي، وإن لم تصدقني فجرب.»

فأومأ إليه أن يتبعه، وأشار إلى البواب أن يدخله إلى غرفته الخاصة، ودخل هو وقد شغل خاطره

بهذا الدرويش، ومال كل الميل إلى الاسترشاد برأيه، وهو يعتقد الكرامة بأصحاب الكرامات،

وتمنى أن يكون هذا منهم. وبعد قليل دخل الدرويش وقد أدخل إحدى يديه بكم الأخرى وقبض

بالأنامل المطلقة على مسبحة أخذ يعد حباتها، فأشار إليه مؤيد الدين أن يقعد، وسأله إذا كان

يحتاج إلى طعام فقال «لا»، فأومأ إلى الخادم أن يخرج ويغلق الباب وراءه ففعل. ثم نظر إلى

الدرويش وتفرس في وجهه فلم يذكر أنه يعرفه، ولم ير في وجهه سحنة التصوف، فقال له: «أرشدنا

بعلمك يا شيخ.»

قال: «أرني يدك مفتوحة.»

ففتحها وأراه باطنها، فنظر فيها مليا ثم قال: «أنت تفكر في أمر عظيم الأهمية شديد الخطر

عليك وعلى أهلك وسائر عشيرتك.» فأشار مؤيد الدين برأسه أن «نعم».

فأعاد الدرويش النظر إلى كف الوزير كأنه يقرأ كتابا مخطوطا، ثم رفع بصره إلى مؤيد

الدين وقال: «إن المشكلة التي أنت واقع فيها يسهل التخلص منها إذا شئت.»

فقال: «وكيف ذلك؟» قال: «ينبغي أولا أن تنظر إلى مصلحة نفسك وقومك، ولا تتقيد باعتبارات

وهمية لا قيمة لها إلا عند ضعفاء القلوب. فهل أنت من هؤلاء؟»

فاستغرب مؤيد الدين اقترابه من الحقيقة بهذه السرعة، وأحب زيادة الإيضاح فاستل يده من بين

أنامل الصوفي وقال: «قل قبل كل شيء ما اسمك؟» قال: «اسمي رسول إلى مؤيد الدين.» ففرح لأن

ظنه كان في محله؛ أي إن الرجل ليس صوفيا، فقال له: «من أرسلك؟» قال: «صديق نصوح يريد بك

وبأهلك خيرا، لكنك لا تعرف كيف تنتفع بالفرص التي تقع لك.»

فعلم مؤيد الدين أن الرجل رسول متنكر فقال: «أفصح يا رسول الخير، من أين أنت آت؟ لا

تتهيب.» فقال: «إني رسول من خاقان عظيم لا يلبث أن يأتي بلادكم ويفتحها عنوة ولا قبل لكم

بدفعه.»

فعلم مؤيد الدين أنه يشير إلى هولاكو التتري؛ لأنه جاءه منه غير كتاب من قبل يدعوه إلى

مشايعته على الخليفة المستعصم ويعده ويمنيه، ولكنه هو يتردد، فتجاهل وقال: «من تعني؟» قال: «أعني مولاي الخاقان هولاكو، ألا تعرفه؟ قد كتب إليك مرارا يدعوك إلى التخلص من هذا

الخليفة الضعيف عشير النساء والمغنين وأنت لا تجيب، فأمرني أن آتيك مرشدا ناصحا. ولا يخفى

عليك أن مثلي لا يدخل هذا المدخل، ويتعرض لهذا الخطر، إلا إذا كان قد باع نفسه في سبيل

الحق. فأنا أدعوك باسم مولاي أكبر السلاطين أن تكون معه على هذا الطاغية فتخلص أنت وقومك

الشيعة من الظلم والعسف، وتكون لك المنزلة الأولى عند صاحب هذا البلد حينئذ، لا تكن ضعيفا،

ما لي أراك مطرقا كأن نفسك تحدثك باعتبارات تقدر لها قيمة لا تستحقها، وكأنك تقول في سرك

لا يليق بك أن تخلف ظن مولاك الخليفة فيك. لعله لم يخلف ظنك فيه؟ أنا هنا منذ أيام، وقد

اطلعت على ما جرى بينك وبينه وبين ابنه، ورأيتك تتململ وتتذمر، وإنما ينقصك الحزم فتنقذ

نفسك وأهلك وعشيرتك، وإلا فأنتم هالكون لا محالة.»

فأكبر مؤيد الدين هذا التهديد من رسول غريب ولكنه رأى في وجه ذلك الرسول هيبة وجرأة لا

توجدان في عامة الناس، فقال: «أهد مولاك شكري لما عرضه علي، وقل له إن طلبه لا سبيل إلى

إجابته، وقد رأيته يعرض بعجز هذه الدولة عن مقاومته، لقد أخطأ كل الخطأ؛ لأن جندنا لا يغلب

من قلة ولا من ضعف، ونحن على ثقة من الفوز إذا نشبت الحرب بيننا وبينه.»

فضحك الرجل وقال: «أتيت إليك على أني منجم يقرأ الأفكار، وها أنا ذا اقرأ فكرك الآن من وراء

ما تقول، إنك تقول غير ما تعتقد، أنا أعرف كل ما تحاول إخفاءه من اضطراب الجند وفساده، فأصغ

لهذا النصح، واعلم أننا لا نكلفك تعبا ولا خطرا، ولا نطلب منك أمرا عظيما، إن البلد نحن

فاتحوه لا محالة، فإذا توسطت معنا قللت من القتل والفتك، لأننا نحب أن ينحصر الأذى في صاحبه

المسبب لهذه الشرور، ولا ذنب لرعايا، وبخاصة الشيعة الذين قضوا الأجيال المتوالية وهم

يتحملون أنواع العذاب من هؤلاء الخلفاء، ومن هذا المهذار. وقد يصعب عليك أن ترجع عما قلته

الآن وزعمته في الدفاع عن مولاك المستعصم، فأنا لا أكلفك الرجوع الساعة، ولكنني أرشدك إلى

الصواب وأترك لك الوقت الكافي للتفكير. وأما مولاي الخاقان هولاكو، فإنه فاعل ما يريده، ولا

يلبث أن يأتيكم كتابه بالإنذار والتهديد، فإن لم تصغوا إلى مطالبه، حمل عليكم وفعل ما يشاء.

وثق أنه الغالب الظافر، فإذا كنت تحب بلدك وأهلك فابعث إلى مولاي الخاقان كلمة بأنك على

ولائه فتنجو وتكون لك الكلمة النافذة والصوت الأعلى ... أظنني أطلت الكلام عليك فاعذرني.» قال

ذلك ووقف ومده يده إلى جنبه واستخرج لفافة في أسطوانة من القصب وقدمها له وهو يقول: «وهذه

رسالة من مولاي إليك لا تفتحها إلا بعد خروجي.» قال ذلك وخرج.

فدهش مؤيد الدين لما شاهده من ذلك الرسول، وظل ينظر إليه حتى رآه خارجا من باب الدار،

وقد أثر كلامه فيه تأثيرا شديدا، وعاد إلى غرفته وفض الرسالة وأخذ يقرأ فيها.

اعلم يا مؤيد الدين أن الرسول الذي خاطبك هو الخاقان هولاكو نفسه، وقد بذل لك

النصيحة فانتصح، ولا تطمع في تعقبه فإنك لا تجد إلى ذلك سبيلا. وكان في وسعي أن

تبقى على اعتقادك ولا تعرف من هو مخاطبك، لكني أحببت نصحك فانظر في أمرك. وابعث

برسالتي إلي كما قلت لك قبلا.

فأعاد مؤيد الدين قراءة تلك الورقة وقد تولته الدهشة وأوشك أن يكذب بصره وسمعه لغرابة ما

شاهده، وأطرق هنيهة وهو يخاطب نفسه قائلا: «هولاكو نفسه خاقان التتر، وفي خدمته مئات

الألوف من الرجال لا يثق بأحد منهم في مهماته فيأتي بنفسه متنكرا تحت هذا الخطر لكي

يخاطبني، وكان في إمكانه أن يبعث رسولا ولكن الهمة العالية والحرص على الملك يدعوانه إلى

ذلك. لا ريب أن هولاكو يعرف أسرارنا كما نعرفها نحن، ويعرف عدد جندنا وعلاقة قوادنا

بخليفتنا. يعرف كل شيء. أين ذلك من خليفتنا المشتغل باللهو والغناء عن أمور الدولة، ويهمه

العثور على شوكار المغنية أكثر من دفع العدو عن بغداد؟ هذه علامات الزوال. هكذا كان حال

الروم لما قام العرب لفتح بلادهم، كان خلفاؤنا وقوادنا العظام من الصحابة وغيرهم يتولون

أمروهم بأنفسهم، لا يعولون على أحد ولا يشتغلون بغير الجهاد، وكانوا قليلين فغلبوا جيوش

القياصرة والأكاسرة.»

ثم أطرق وتراجع وندم على ما خطر له وقال لنفسه: «لا، لا. إن الدولة العباسية باقية أبد

الدهر، لا تزول من الأرض، وإنما هي في حاجة إلى الإصلاح، إلى خليفة آخر.»

وكان الليل قد أسدل نقابه، فوضع تلك الورقة تحت الوسادة وطلب العشاء، ثم ذهب إلى الفراش

مبكرا ليرتاح مما مر به في ذلك اليوم، وتوالت عليه الخواطر المتضاربة لكن ولاءه للخليفة ظل

غالبا على عقله. وكان ليله مأهولا بالأحلام، ولم يفق في اليوم التالي إلا على ضوضاء طلبة

المستنصرية وهم خارجون لصلاة الضحى.

وأحب البقاء في الفراش لأعمال الفكر فيما شغل خاطره. والإنسان في الصباح قادر على

التفكير، وتفكيره أقرب إلى الصواب من سائر الأوقات، فلم يزدد إلا ثباتا على الولاء للخليفة

والرغبة في إصلاحه، فارتاح باله لأنه استقر على رأي، وليس أتعب للإنسان من التردد بين

رأيين، فنهض من فراشه وأخذ في لبس ثيابه، ولم يبق في ذهنه إلا مسألة شوكار. وكان يود أن

يسلمها إلى الخليفة ويتخلص من القيل والقال لو لم يحل سحبان دون ذلك، وعذره مقبول؛ فخطر له

أن يبعث في طلب سحبان ليكرر له الوصية بإخفاء مكان تلك الفتاة، لكنه توقع مجيئه من تلقاء

نفسه.

مضى ذلك النهار ولم يبرح مؤيد الدين منزله التماسا للراحة وقضاء بعض المهام الخاصة، وجاء

الغروب وأقبل العشاء ولم يأته سحبان فهم بالذهاب إلى الفراش، وقبل أن ينزع ثيابه تذكر

الكتاب الذي دفعه إليه درويش الأمس، ورأى أن يعدمه لئلا يقع في يد أحد فيجعله وسيلة للإيقاع

به، فتذكر أنه وضعه تحت الوسادة، فافتقده هناك فلم يجده، فأخذ يبحث عنه في جيوبه فلم يقف له

على أثر، فخفق قلبه لئلا يكون قد سمع حديثهما أمس جاسوس وسرق الكتاب وأخذه إلى الخليفة. •••

وبينما هو في ذلك إذ سمع قارعا يقرع الباب الخارجي بعنف، فأجفل ومكث ينتظر الخبر، وإذا

بالبواب يدخل وهو يقول: «إن سحبان بالباب ومعه رفيق، هل يدخلان؟»

فاطمأن باله وارتاح إلى قدوم سحبان في تلك الساعة لعله يخفف عنه بعض الشيء، وأحب أن يعرف

من هو رفيقه. ولم تمض لحظة حتى أقبل سحبان وهو يبتسم وألقى التحية، ثم تنحى وقدم رفيقه

باحترام وأشار إليه أن يدخل، فنظر مؤيد الدين إلى ذلك الرفيق فإذا هو ملثم لا يظهر من وجهه

إلا عيناه وما يحيط بهما، ورأى السواد غالبا على لونه كأنه عبد حبشي ملثم، ورآه يمشي

الهوينى، وسحبان واقف باحترام، فاستغرب مؤيد الدين ذلك فقال: «من هو رفيقك يا سحبان؟»

قال: «ستعرفه الساعة يا سيدي.» وتقدم حتى أقعد ذلك القادم على كرسي في صدر الغرفة، وأشار

إليه أن يتفضل بإزاحة اللثام، ومؤيد الدين ينظر إليه من جانب المصباح، فأزاح الرجل اللثام،

وحالما وقع نظر مؤيد الدين عليه اختلج قلبه في صدره وصاح: «مولاي الإمام أحمد بن الظاهر؟

من أين أتيت به يا سحبان؟» وأكب على يده يقبلها، وكان الإمام أحمد أسمر اللون لأن أمه

حبشية.

فضحك سحبان وقال: «أتيت به طوعا لأمرك.»

فصاح مؤيد الدين: «ويلك! متى طلبت إليك إحضار مولانا إلى هنا؟ كيف تأتى لك ذلك وهو محبوس

وعلى قصره الحراس والجواسيس؟ إن شئونك كلها غريبة يا سحبان!»

قال: «إنك لم تطلب إلي إحضاره، لأنه لم يخطر لك استطاعتي ذلك. لكن الحديث الذي دار بيننا

أمس يدل على أنك تحب أن تراه وتستوثق من رضاه.»

فقال: «صدقت، لم يخطر لي أنك تستطيع ذلك، وكيف أقدمت على هذا الخطر؟ لله أنت من شجاع

مقدام! وإنما ينقصك التؤدة والتبصر.»

فقال: «ما ينقصني تكمله أنت بحكمتك ودهائك!»

وتوجه مؤيد الدين نحو الإمام أحمد، وكان يومئذ في إبان الكهولة وقد ظهرت السكينة عليه،

وقعد بين يديه على وسادة باحترام ووقار وأخذ يرحب به. فتقدم سحبان وقال: «إني رجل متسرع،

ولا أحب المطاولة أو التسويف، وأكره التردد، وقد أعجبني منك أمس ثقتك بمولانا الإمام أحمد،

وأن رأيك فيه وافق رأيي وهذا دليل الصواب، والآن ها هو ذا صاحب الشأن لم أكلمه في شيء بعد،

وإنما سعيت في إنقاذه من السجن.»

فقال: «وكيف استطعت ذلك، ما هذه الجرأة؟»

قال: «استطعته بمعونة الله، وعسى أن أستطيع ما هو أهم منه، وأرى هذا الإمام العاقل العادل

خليفة يتولى أمورنا بدلا من ذلك ال...»

فتصدى الإمام أحمد للكلام قائلا: «لا تقل شيئا يا بني، إن الخليفة المستعصم بالله لا

بأس به لولا تسلط ابنه على رأيه ورغبته في اللهو، وهذا ما يمكن ملاقاته، فلا تحولوا قلوبكم

عنه ...»

فقال سحبان: «نعم الرجل أنت يا سيدي، أما خليفتنا فلا أمل لنا في إصلاحه، ولا بد من

تغييره، ومولانا الإمام أحمد أولى بالخلافة منه لأنه أهل لها من كل وجه، وهو أخو المستنصر - رحمه الله - ولا يخفى عليك ما أتاه المستنصر من الأعمال الشاهدة بحسن السيرة والتقوى والرغبة

في العمران ...»

فقاطعه الإمام قائلا: «لو علمت أنك جئت بي لأسمع منك ما سمعته لفضلت البقاء في سجني،

إننا في طاعة أبي أحمد المستعصم ابن أخي. وإذا أخطأ فعلينا نصحه وكفى.»

فلم يستغرب مؤيد الدين حذر الإمام وإنكاره وما ظهر من تسرع سحبان، وإن كان يعتقد رغبته في

الخلافة أكثر من رغبتهما، وإنما هي التؤدة والدهاء وحسن السياسة لا بد منها في مثل هذه

الحال. فالتفت إلى الإمام وقال: «إن صديقي سحبان يعبر بعمله عن شعور كل مسلم، ولا سيما قومنا

الشيعة العلوية، فإنهم قاسوا في أيام ابن أخيك هذا مر العذاب مما لا يمكن إخفاؤه، وإن كنت

لا أرى التسرع في الأمر إلى هذا الحد وعلى هذا الشكل؛ لأننا لم نخط خطوة واحدة في سبيل ما

نحن فيه.» والتفت إلى سحبان وقال: «أخرجنا مولانا الإمام من قصره، فأين نضعه الآن؟ وإذا عرف

الخليفة غدا أنه ليس في قصر الفردوس فلا يتهم به سوانا والجند في يده يفتك كما يشاء.»

فقطع سحبان كلامه قائلا: «لا تخف، إني أعود به إلى قصره الليلة، وقد دبرت ذلك بحيث لا

يشعر به أحد. وإنما جئت به لتطلعه على غرضنا بناء على قولك إنه يكفينا الآن إبدال خليفة

بخليفة، واتفق رأينا على أن مولانا الإمام أحمد أولى العباسيين بذلك.» والتفت نحو الإمام

وقال: «وأرغب إلى مولانا أن يرفع كل حجاب بيننا وبينه ويكفينا مئونة المجاملة والحذر؛ فإني

لا أحب إلا الصراحة. ونحن الآن نطلب من مولانا أن يجيبنا عن هذا السؤال. «إذا استطعنا قلب

الحكومة وأردنا تنصيب خليفة، فهل يقبل الإمام أحمد أن تكون الخلافة إليه؟ وهل يعدنا خيرا،

ولا سيما من جهة الشيعة ومعاملتهم؟»»

وبرغم ما رآه مؤيد الدين من التسرع في عمل سحبان، فإنه وافقه على هذا الاقتراح ورأب

الصواب فيه، وعلم أن المشروعات الكبرى تفتقر إلى الإقدام والحزم مثل حاجتها إلى التروي

والتؤدة. فأطرق وهو ينتظر ما يقوله الإمام فإذا به يقول: «إن الخلافة يا أولادي إذا أتتني

لا يمكنني التخلف عنها خوفا على مصالح المسلمين، وإذا أبيت فإني أرتكب خطأ أو معصية، وإذا

صرت خليفة فأول واجب علي إجداء العدل وإنصاف المظلومين من آل بيت الرسول، صلوات الله وسلامه

عليه.»

فقال مؤيد الدين: «بارك الله في مولانا، وإذا وفقنا الله إلى ما نبغيه فإنما يكون لصالح

المسلمين، ونشكر لمولانا قبوله القيام بتلك المهمة، وإنما آسف لأن صديقي سحبان كلفك مشقة

الخروج إلينا فضلا عن الخطر.»

فتصدى سحبان قائلا: «لا مشقة هناك ولا خطر، ويمكن بقاء الإمام خارج قصره عدة أيام ولا

يشعر أحد بغيابه، لأني وضعت في مكانه رجلا كثير الشبه به. استطعت ذلك بما بيني وبين قيم

ذلك القصر من الصداقة، وهو راغب في قلب هذه الخلافة أكثر من رغبتنا؛ لأن هذا الخليفة وابنه

لم ينج أحد من أذاهما. كن مطمئنا يا صاحبي، وإذا كنت خائفا من التجسس عليك فها نحن أولاء

ذاهبون عنك الساعة.» وتحفز للوقوف، وهم الإمام أحمد بأن ينهض، فنهض مؤيد الدين باحترام

وقال: «إن مولانا الإمام قد شرف منزل مملوكه، وأطلب إلى الله أن يمن علينا بصيرورة الأمر

إليه ويوفقنا إلى القيام بخدمته.»

خرج الضيفان وخرج مؤيد الدين لوداعهما، ولما عاد إلى غرفته عاد إلى التفكير في كتاب

هولاكو وكيف أضاعه، وعاد إلى التفتيش عنه في كل مكان حتى كل دماغه وتوالت عليه الأوهام

والمخاوف، لعلمه أن يعون الجواسيس لا تنام عن استطلاع أخباره والوشاية به، فتولاه القلق،

وذهب إلى فراشه فلم يستطع الرقاد وعاد يفكر في ذلك الكتاب وأين هو. وكان يعترض هذه الهواجس

تفكيره في الإمام أحمد وسحبان وهولاكو وما هو فيه من القلق على قومه وعلى نفسه، وتعاظمت

مخاوفه وهو تحت الغطاء؛ لأن الظلام يكبر الأوهام ويعظم الأشباح، وأفاق في الصباح وقد أخذ

التعب منه مأخذا عظيما.

وليس على الإنسان أشدة وطأة من التردد بين أمرين مهمين لا يدري أيهما يتبع، ويغلب أن يكون

سبب التردد تنازعا بين العقل والقلب، فمتى غلب أحدهما انتهت الأزمة واستقر الرأي وهذا

الخاطر. وكان مؤيد الدين يتنازعه عاملان: أحدهما يدعوه إليه عقله وهو أن فساد الحكومة ذاهب

بالدولة إلى الخراب ولا يرجى صلاحها إلا بإبدال الخليفة، ولا يستطاع ذلك إلا بيد قوية قاهرة

مثل يد هولاكو، ويخامر هذا الحكم العقلي شعور قلبي فيه انتقام من ابن الخليفة وثأر للعلوين

من أهل السنة. والثاني يدعوه إليه قلبه أو ضميره إذ يبكته على هذا العمل؛ لأنه خيانة لمولاه

الذي أقسم على طاعته.

على أن ضياع كتاب هولاكو أحدث عاملا آخر شديد الوطأة على قلب مؤيد الدين، إذ ترجح لديه

أن يدا أخذت ذلك الكتاب عمدا، ولا يلبث أن يصل إلى عدوه الذي يتجسس عليه فيجعله حجة ضده

ويتهمه بالمؤامرة مع أعدائه. ثم تذكر فحوى الكتاب فلم يجد فيه ما يبعث على تهمة المؤامرة

لكنه يد على مخابرة جارية بين عدو البلاد ووزيرها.

فلما تصور ذلك خيل له أن الخليفة إذا علم به يأمر بالقبض عليه أو يقتله، ولا سيما إذا دخل

ابنه أبو بكر في ذلك، فلا تبقى له حيلة في النجاة، فمن الحزم أن يتدبر الأمر ويتلافى الشر

قبل وقوعه أو يستعد له على الأقل. وتذكر ما وعده به هولاكو من الحسنات إذا هو أطاعه وكتب

إليه بالمجيء، فخطر له أن يبعث إليه في ذلك، فاشمأزت نفسه من هذا الخاطر، ثم اعترضه ما يهدده

من الخطر إذا ظل ساكتا فاشتد تحيره، فنهض من فراشه وأخذ يتشاغل بلبس ثيابه وهو غارق في

التفكير، فغلب عليه الدفاع عن حياته وهم بالكتابة إلى هولاكو، فأمر قيم الدار أن يأتيه

بغلام من عبيده، فأتاه بشاب أصله من رقيق تركستان وقد دخل قصر الوزير من عهد غير بعيد وليس

فيه نباهة، فلما وقف الغلام بين يديه تفرس فيه، ثم أمر القيم أن يحلق له شعر رأسه ففعل.

وجاء الغلام ورأسه كأنه صفحة بيضاء. وكان ذلك القيم قد ربي في بيت مؤيد الدين وله إطلاع

على مكنونات قلبه، وهو شديد الغيرة عليه، وقد أدرك غرضه من طلب ذلك الغلام على هذه الصورة.

فلما عاد به ناده مؤيد الدين قائلا: «ألم تفهم مرادي؟» قال: «نعم يا مولاي، إني رهين

الإشارة.» قال: «إلي بالإبر والكحل وأغلق الباب وراءك.»

فذهب وعاد بالإبر والكحل وأغلق الباب، وقعد على مقعد وأمر الغلام أن يجثو أمامه بحيث يصبح

رأسه بين يديه. ثم تقدم مؤيد الدين وبيده ورقة قد كتب عليها كلمات قليلة، وأومأ إلى القيم

أن ينقشها على رأس الغلام بالإبر وبذر عليها الكحل كما يفعل الوشامون، فتناول القيم الورقة

وقرأ فيها: «تعال إلينا بقوتك وجندك.» فأدرك أنها رسالة إلى هولاكو، وكان من أشد الناس

عداوة للخليفة وحاشيته؛ لأنه شيعي وقد أصابه شيء من أذاهم، فأخذ في نقش الرسالة على رأس

الغلام، وهو لسذاجته كالبهيمة لا يفهم شيئا، فلما فرغ القيم من ذلك نظر إلى مؤيد الدين

وابتسم، فأشار إليه أن يحتفظ بذلك الغلام حتى ينبت شعره ويغطي تلك الكتابة، فإذا ظل على

اعتزامه استقدام هولاكو أرسل الغلام إليه. ويكفي أن يقال لهولاكو إن هذا الغلام قادم من

مؤيد الدين فيحلق رأسه ويقرأ عليه ثم يقتله. فإذا رأى العدول عن إرسالها استبقى الغلام عنده

وشعره يكسو رأسه، لأنه لم يزل إلى تلك الساعة مترددا، وضميره غالب على إرادته وهو يرجو أن

تصلح الشئون بالمسالمة.

وأحس مؤيد الدين في تلك الساعة براحة، وعاد إلى شواغله وهي كثيرة، أهمها النظر في أمور

الدولة. فركب بغلته إلى قصر التاج للنظر فيما جاء به البريد أو ما حدث من الأمور العامة،

وكان يفكر طول الطريق في الكتاب الضائع ويراقب حركات القوم هناك ليتحقق ما كان من أمره،

فلما لم ير ما يبعث على سوء الظن اطمأن باله وعاد إلى منزله وقد ذهب قلقه.

الفصل التاسع

بين المستعصم وهولاكو

مضت على تلك الحال أيام، وقد نسي مؤيد الدين أمر الكتاب وهولاكو، ولم يسمع عن ابن الخليفة

شيئا يسوءه؛ فظن خيرا وتوهم أن ذلك الشاب رجع عن غيه بعد أن أحس بحرج المركز والخطر الذي

يهدد المملكة بسبب الانقسام. لكنه أصبح ذات يوم وقد جاءه رسول المستعصم يدعوه سريعا، فركب

بغلته وهو يفكر فيما عسى أن يكون سبب هذه الدعوة العاجلة، وتذكر الكتاب الضائع، فخاف أن

يكون لتلك الدعوة علاقة به، فتجلد حتى أتى قصر التاج، ودخل على الخليفة وهو جالس في ديوان

الخاصة وعنده ابنه أبو بكر والداودار، فاستعاذ بالله من ذلك الصباح، لكنه دخل وألقى السلام،

فرد المستعصم التحية ودعاه إلى الجلوس، ثم رفع إليه كتابا كان بجانبه على السرير فتناوله

مؤيد الدين وقرأه وإذا فيه:

من الخاقان العظيم هولاكو سلطان السلاطين إلى المستعصم بالله العباسي. أما بعد

فأننا قد مللنا المماطلة ونحن صابرون. أما آن لك أن ترعوي وتعرف قدرنا؟ بعثنا إليك

نستعينك على الإسماعيلية الفتاكين القتلة، ونحن لا نخافهم على أنفسنا كما نخافهم

عليك فأبيت، فدلنا ذلك على سوء رأيك، فبعثنا نعاتبك على عملك فأجبتنا جوابا

باردا لا يشفي غليلا، وشفعته بهدية هي أولى أن تهدى إليك كأنك تظننا في حاجة إلى

المال، ولم ترسل إلينا رسولا يخفف من غضبنا. وقد كنا نقنع منك برسول عاقل، أما

الآن فلا يرضينا إلا أن تأتي أنت بنفسك أو ترسل إلينا وزيرك أو قائد جندك للاعتذار،

وإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك، والسلام.

وما فرغ الكتاب حتى أخذ منه الأسف مأخذا عظيما، ونظر إلى الخليفة فرآه مطرقا يفكر،

فظنه قد اعتبر ولا يلبث أن يطاوعه في استرضاء هذا الفاتح التتري، فإذا هو قد وقع بصره إليه

وقال: «كيف رأيت أيها الوزير؟» قال: «الرأي لمولاي أمير المؤمنين.»

قال: «هل أعجبتك وقاحة هذا التتري، وما جزاؤه عندك؟»

فلما سمع هذا التعبير استغربه، وشعر أن الخليفة لم يقدر مركزه حق قدره، فقال: «أستأذن

مولاي في أمر لا بد لي من التصريح به؛ إن هذا الرجل أصبح الآن شديد البطش، وقد علمنا من

جواسيسنا أنه فاز في حروبه مع الفرس وغيرهم، وأصبح جيشه عديدا، وعنده العدة والمئونة، وإذا

لم نجبه جوابا حسنا حمل على بغداد، فالذي ...»

فتعرض أبو بكر للكلام باستخفاف وقال: «يحمل على بغداد؟ وهل ينال غير الخزي والفشل إذا حمل

عليها؟»

فازداد مؤيد الدين أسفا ولم يجبه، لكنه وجه كلامه إلى الخليفة وقال: «فالذي أراه أن

نسترضيه ريثما تتأهب.»

فقال الخليفة: «بماذا نسترضيه؟ إنه يطلب مني أن أذهب إليه بنفسي أو أرسل إليه الوزير أو

الداودار، ألم يكن الأولى أن نتلافى الأمر قبل تفاقمه؟»

قال الوزير وقد أعجبه إذعان الخليفة للحقيقة: «كان ينبغي ذلك، ولم يقصر العبد في أداء

النصيحة في المرة الماضية لما جاء كتاب هولاكو هذا؛ فقد شرحت لمولاي ما نخافه من هؤلاء،

ورغبت إلى أمير المؤمنين أن يبعث إليه بالهدايا الفاخرة من الجواهر والمماليك والجواري، فإن

القوم يرضيهم ذلك، فاعترض الداودار يومئذ، واتهمني بالضعف، وظنني أفعل ذلك ممالأة للعدو،

وأطاعه مولاي فأرسل هدية حقيرة أغضبت هولاكو فكتب ما كتب.»

وكان الداودار جالسا فلما سمع ذكر اسمه تصدى للكلام قائلا: «أظن الوزير يريد منا أن

نذعن لهذا الطاغية ونسترضيه بكل ما عندنا، ولو فعلنا ذلك لم يزدد إلا عتوا وطمعا.»

فقال الخليفة موجها خطابه إلى الداودار: «وماذا يرى قائدنا الآن، هل يذهب إليه بنفسه كما

يطلب؟»

قال وهو يظهر الأنفة والعظمة: «نعم أذهب إليه محاربا إذا شاء مولاي.»

فاستغرب ابن العلقمي غرور هذا القائد، وهو يعلم عجزه عن ذلك، مع فراغ الخزانة من الأموال،

حتى اضطر الخليفة أن يقتصد من أعطيات الجند. وكان مؤيد الدين قد أشار عليه بذلك لجميع مالا

يرضي به التتر لعلهم يعودون بلا حرب. وكان جيش بغداد 100000 فارس، فسرح منه 80000 واستبقى

عشرين ألفا والداودار يعلم ذلك؛ فهل يحارب التتر بهذا العدد؟ أما الخليفة فلم يكن يجهل

هذه الحقيقة، فأجاب الداودار قائلا: «كيف تخرج لمحاربتهم وليس عندك إلا عشرون ألفا؟»

قال: «صدق أمير المؤمنين، إن هذا العدد لا يكفي الآن لكننا نجند سواهم.»

فقال: «هل يسهل التجنيد؟»

قال: «كيف لا؟ إن المال الذي أشار الوزير باقتصاده من أعطيات الجند يكفي للتجنيد. سامح

الله الوزير، إنه أخطأ بأخذه بهذا الرأي ولم نستفد منه إلا نقمة الجند علينا.»

فأراد الخليفة أن يدفع عن الوزير، فتصدى أبو بكر وقال: «وما الذي يهم الوزير رضي الجند أو

غضبوا؟! إنما يهمه ألا يغضب هولاكو.» •••

فكان لهذا الكلام وقع شديد على نفس ابن العلقمي، وتذكر كتابه الضائع فخاف أن يكون لهذا

الكلام علاقة به، فأغضى عن وقاحة ذلك الشاب إلى مخاطبة الخليفة، ثم أجاب الداودار فقال: «إن

ما أشرت به من قبل لا أزال عليه حتى الآن، وما جمع لدينا من المال المقتصد لو استرضينا به

هولاكو لرضي وكفانا مئونة الحرب. أما الآن وأنت قائد الجند، فإذا كنت ترى جندنا قادرا على

الحرب، فالرأي راجع لأمير المؤمنين.»

فنظر الخليفة إلى ابن العلقمي وقال: «هل هذا هو رأي الوزير فيما نحن فيه؟»

قال: «نعم أرى أن نسترضي هولاكو بما أمكن غير الحرب.»

قال الخليفة: «إنه يطلب أن أذهب أنا إليه أو أنت أو الداودار.»

قال: «يرسل المولى من شاء منا.»

فقطع أبو بكر أحمد كلامه قائلا وهو يضحك متهكما: «أظن الوزير يتمنى أن يذهب هو بهذه

المهمة لزيارة صديقه الخاقان.» وقهقه ضاحكا.

فاستغرب المستعصم هذا القول، ونظر إلى ابنه نظرة توبيخ على هذا المزاح، فوقف أبو بكر

وأظهر الجد وقال: «إنني أقول الحق يا أبي، اسأل الوزير، ألم يكن بينه وبين هولاكو صداقة

ومراسلة ؟»

فأجفل الوزير وترجح عنده أن أبا بكر مطلع على شيء مما بينه وبين هولاكو، فأظهر اشمئزازه من

ذلك الحديث والتفت نحو الخليفة معاتبا، فالتفت الخليفة إلى ابنه وقال: «لا محل لهذا الكلام

يا أحمد الآن.» فمد أبو بكر يده إلى جيبه وأخرج كتابا دفعه إلى أبيه وقال: «وهذا الكتاب

يشهد بذلك.» فتناول المستعصم الكتاب وقرأه، ثم نظر إلى مؤيد الدين فرآه مطرقا، فقال له: «أتعرف هذا الكتاب؟» فرأى من الحزم أن يتجلد فنظر إلى الكتاب وقال: «أعرفه يا مولاي وقد

كان معي وسرق مني.»

فرماه المستعصم إليه وقال: «إنه يؤيد كلام ولدنا، ويدل أيضا على أن بينك وبين هولاكو

تزاورا.»

فالتقط مؤيد الدين الكتاب وقال: «نعم يا سيدي، لكن هل يدل على أني متفق معه على عمل، أم

هو يشكو من رفض مطالبه؟»

فقال أبو بكر: «ولكن على كل حال يظهر مما في آخره أن المخابرة بينكما قديمة. ألم يكن يجدر

بك أن تطلع أمير المؤمنين على ذلك. ما أدرانا بما دار بينكما؟ والأرجح أنك متفق معه على

تسليم البلاد إليه، وإنما اختلفتما في كيفية تسليمها. ليس هذا شأن الوزير المخلص لمولاه كما

تدعي.»

فتحير مؤيد الدين بماذا يجيب، وهم بالكلام فرأى الخليفة يشير إليه أن يسكت، وقد بان الغضب

في وجهه ثم قال: «صدق أبو بكر، لم أكن أتوقع منك ذلك مع ثقتي بك. كان ينبغي أن تطلعني على ما

يدور بينك وبين عدونا قبل الآن.»

فأراد ابن العلقمي أن يدفع عن نفسه، فأشار إليه المستعصم أن يسكت وقال: «طالما دافعت عنك

وكذبت ما ينقلونه لي والتمست لك الأعذار، أما الآن فظهر لي أن كلامهم هو الصواب، ولا أفهم

لسكوتك عن اتصال هولاكو بك معنى سوى أن لك في ذلك غرضا أو مطمعا، ولولا ذلك لأطلعتني على

ما دار بينكما.»

فلم يطق مؤيد الدين صبرا على السكوت فقال: «لم أر فائدة من إطلاع مولاي على ما يكدره،

وإنما يطلب مني أن أحافظ على الولاء له وأدافع عن مقام الخلافة . فهل في هذا الكتاب ما يدل

على خيانة؟ فإذا كان فيه شيء من ذلك فالعبد رهين أمر مولاه.»

فاعتدل المستعصم في مجلسه وقال: «حسنا. وهل كان في إطلاعي على مكان تلك الجارية ضرر

أيضا؟»

فاستغرب مؤيد الدين قوله وقال: «أي جارية يا مولاي؟» قال: «جارية أبي بكر الذي ذبح أهل

الكرخ بسببها.» قال: «وما شأنها فيما نحن فيه؟»

فقال الخليفة: «ما كنت أظنك تجهل شأنها، ألم تكن تعلم أن مقتلة الكرخ إنما جرت بسببها لأن

أبا بكر علم أنها مختبئة هناك وأنكروها عليه؟» قال: «بلى!» قال: «وقد قلت لنا يومئذ أنك لا

تعرف عنها شيئا.» قال: «نعم.» قال: «كيف تقول ذلك وهي مخبوءة في منزلك؟» فأجفل مؤيد الدين

عند سماع ذلك وقال: «مخبوءة في منزلي؟» قال: «نعم. أو منزل بعض أهلك في الكاظمية. وقد

استرجعها أبو بكر أمس بهمة الداودار.»

فتذكر مؤيد الدين شوكار وأن سحبان أخذها من عنده ليخبئها في الكاظمية، ولما تذكر ذلك سري

عنه لأنه سيفوز بها على أبي بكر لعلمه أنها جارية المستعصم وقد خطفها أبو بكر لنفسه، فقال

وهو يظهر الاستخفاف: «هل أمير المؤمنين واثق بما قيل له؟»

قال: «هذا أبو بكر، وهذا الداودار، وقد أتيا بها أمس من الكاظمية.»

قال: «هل رآها أمير المؤمنين؟» قال: «لا. لم أرها ولكني لا أشك في صدقهما.»

ووقف أبو بكر وهو يظهر الغضب وقال: «وهل أنا كاذب؟» فقال له مؤيد الدين: «لا أعلم ولكنني

أعلم أني غير كاذب. وبما أنك وجهت إلي تهمة الخيانة فيقتضى أن تثبت قولك بالبرهان. فإذا

أثبته فإني مذعن لحكم مولاي.»

فقال أبو بكر: «لا حاجة إلى إثبات ذلك فإنه ثابت عندنا جميعا.»

وجلس وراح يتشاغل بفتل شاربيه ويظهر الازدراء، وقد خاف أن يلح مؤيد الدين في طلب الجارية

ليراها أبوه فيفتضح أمره، وندم على ذكر هذه الجارية لأبيه، لكنه لم يكن يعلم أن مؤيد الدين

مطلع على تاريخها.

أما مؤيد الدين فازداد تمسكا بقوله ووجه كلامه إلى الخليفة وقال: «هل من ضرر إذا أمر

مولاي أمير المؤمنين بإحضار الجارية لنراها ونطلب شهادتها؟»

فقال: «لا ضرر من ذلك.» والتفت إلى أبي بكر وقال: «أين هي؟» فأظهر الاشمئزاز من ذلك الطلب

وقال: «ما الداعي لاستقدام جارية إلى ديوان أمير المؤمنين؟ وما هي أهميتها؟»

قال مؤيد الدين: «إنها ذات أهمية كبرى؛ لأن الوزير متهم بالخيانة والكذب بسببها، فالمطلوب

إثبات ذلك.»

فنهض أبو بكر وهو يظهر عدم المبالاة وقال: «ليس أمر هذه الجارية مهما، وإنما المهم كتاب

هولاكو، وقد اطلع عليه والدي وكفى.»

قال ذلك وتحول وخرج بلا استئذان وأبوه ينظر إليه، وقد سره خروجه لئلا يفرط منه كلام

يسيئه، لكنه كان يحب بقاءه ليتحقق أمر تلك الجارية فناداه وقال: «أحب أن تتم أمر البحث في

أمر الجارية.» فقال: «لا أهمية لها، وأنا أسامح الوزير على خطيئته بشأنها.» فقال الوزير: «أما أنا فلا أسامح نفسي. أحب أن تأتي الجارية وتثبت الخيانة علي أو على غيري، وطلبي هذا

حق.»

فما زاد أبو بكر على أن ضحك ومشى وأبوه يتبعه بنظره.

أما مؤيد الدين فالتفت إلى الخليفة وقال: «يأمر مولاي باستقدام الجارية إلى هنا، وهذا

الداودار يعرفها لأنه كان مع الأمير أبي بكر لما أخرجاها من منزل بعض أهلي في الكاظمية كما

يقول.»

فالتفت الخليفة إلى الداودار كأنه يأذن له في الكلام، فقال مخاطبا الوزير: «وهل أنت في شك

من قول مولانا أبي بكر؟» قال: «لا شك عندي في قوله ولا قولك، لكني ألتمس من مولاي الخليفة أن

يأمر باستقدامها.» فأشار الخليفة إلى الداودار قائلا: «لا أرى بأسا من استقدامها فافعل.»

ولم يكن الداودار يعرف علاقة هذه الجارية بالخليفة؛ ولذلك لم ير بأسا من إحضارها، فنهض وهو

يقول: «أنا ذاهب بأمر مولاي لاستقدام الجارية بدون أن أستأذن الأمير أبا بكر.» قال الخليفة: «افعل.» فخرج الداودار وظل ابن العلقمي جالسا يفكر فيما وفق إليه من التغلب على عدوه،

والخليفة مطرق لا يتكلم. ولم يمض كثير حتى عاد الداودار لأن المنزل الذي وضعوا فيه شوكار

كان قريبا من قصر التاج.

دخل الداودار ووقف وقفة الظافر وقال: «إن الجارية بالباب، هل أدخلها يا مولاي؟» قال: «لتدخل.»

فدخلت ومؤيد الدين ينظر إلى الباب بلهفة مخافة أن يكون قد جاء بجارية أخرى غير شوكار.

فلما وجد أنها هي انشرح صدره. أما شوكار فوقفت مطرقة، فخاطبها الخليفة قائلا: «ألم تكوني

مخبوءة في الكاظمية وجاء بك قائدنا هذا أمس؟» قالت: «بلى يا مولاي.» قال: «ومن خبأك هناك؟

اصدقيني.» قالت: «وهل يجسر أحد على الكذب في حضرة أمير المؤمنين، خبأني رجل اسمه سحبان.»

قال: «ألم يكن الوزير مؤيد الدين الذي خبأك؟» قالت: «كلا يا مولاي، ولم يكن يعرف أني

مختبئة هناك.» قال: «ألا تعرفين وزيرنا قبل الآن؟»

فتحيرت في الجواب وتلعثمت لأنها توسمت من وراء تلك الأسئلة سوءا يريده الخليفة بالوزير، وهي لم تر من الوزير إلا الخير، ولا تحب مع ذلك أن تقص خبرها على الخليفة فأرتج عليها. فوقف

مؤيد الدين وقال للخليفة: «يتفضل مولانا بالسؤال عن اسمها، ومن أين أتت إلى بغداد، وما سبب

مجيئها.»

فقال الخليفة: «وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟» قال: «سيرى مولانا أنه ذا علاقة كبرى بذلك،

وسيكشف له عن أمور جليلة.» فقال الخليفة: «ما اسمك؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا؟» ففهمت شوكار من

تعرض ابن العلقمي لهذا الأمر أنه يريدها أن تقول الحقيقة، فقالت: «اسمي شوكار، وقد جئت من

مصر لأكون مغنية في قصر أمير المؤمنين.»

فلما سمع الخليفة قولها أجفل وخفق قلبه؛ إذ ترجح له أنها المغنية التي كان قد أضاعها، فنظر

إلى مؤيد الدين ثم إلى الداودار وقد تولته الدهشة وأعاد السؤال عليها قائلا: «أنت شوكار

جارية شجرة الدر؟»

قالت: «نعم يا مولاي، إني شوكار جارية شجرة الدر.» قال: «من أخذك مني؟ وأين كنت كل هذه

المدة؟»

قالت: «أخذني ابنك الأمير أبو بكر وأخفاني عنده.»

قال: «ألم تكوني أنت الجارية التي حدثت مقتلة الكرخ من أجلها؟»

قالت: «أنا تلك الجارية يا مولاي، وكنت قد فررت للنجاة بنفسي.»

قال: «وكيف أخذك ابني وأنت محمولة إلي؟»

قالت: «لما وصلت مع الركب إلى قرب بغداد جاءنا جند قالوا إنهم قادمون من قصر أمير

المؤمنين ليأخذوني إليه، فدفعني الركب إليهم فأخذوني إلى قصر عرفت بعد ذلك أنه للأمير أحمد

أبي بكر ...»

فأخذ الغضب من الخليفة مأخذا عظيما، وندم الداودار لأنه تصدى لحمل الجارية إلى هناك،

وأصبح خائفا على أبي بكر من غضب أبيه، فوقع في حيرة، وأعاد النظر إلى تلك الجارية بدهشة.

وظل مؤيد الدين ساكتا وقلبه يرقص فرحا لفوزه، أما شوكار فقد عدت انتقالها من بيت أبي بكر

إلى بيت الخليفة فرجا، وإن كانت تفضل الانتقال إلى مصر. •••

وحينما تحقق الخليفة الواقع صفق، فجاءه غلام فأومأ إليه أن يأخذ شوكار إلى قصر التاج

ويسلمها إلى القهرمانة ويوصيها بها خيرا، والتفت إلى الداودار وقال: «قد سمعت الآن أن

الذين أعانوا أحمد على هذه الجريمة من الجند. أيليق ذلك بالأجناد؟ أليست هذه خيانة منهم؟»

فاعتبر الداودار هذا التوبيخ موجها إليه لأنه القائد العام، فاضطر في سبيل الدفاع عن

نفسه أن يشكو ابن الخليفة، فقال: «لم يفعل الجند ذلك بأمري، وإنما فعلوه بأمر الأمير أحمد أبي

بكر، وهل نستطيع أن نخالف له أمرا؟»

قال: «كيف لا؟ أتطيعون ابني في سبيل معصيتي، وأنا لا أزال حيا؟»

وتحرك في مجلسه من شدة الغضب وأخذ يلهث وينفخ ويصر على أسنانه، فخيل لمؤيد الدين أن أبا

بكر لو كان حاضرا لأمر الخليفة بقتله، وود لو أنه يحضر، وإذا بالخليفة يقول للداودار: «أين

أحمد الآن؟» قال: «لا أعلم يا مولاي.» قال: «إلي به حالا أينما كان.» فخرج الداودار، ونظر

الخليفة إلى مؤيد الدين نظر الاعتذار لأنه شك فيه وقال: «لقد أسأنا الظن بك يا وزيرنا.

جوزيت خيرا، لماذا لم تطلعني على خبر هذه الجارية من قبل؟»

قال: «لأني لم أعرف بها إلا منذ أيام قليلة، وقد قلت للذي قص علي خبرها أن يخبئها في مكان

أمين ريثما نطلع أمير المؤمنين على أمرها في فرصة مناسبة لا يدري بها الأمير أبو بكر؛ لأننا

لو أردنا أن نفعل ذلك بعلمه لما نجونا من الأذى، وهو ابن أمير المؤمنين والجند طوع إرادته.»

فهز الخليفة رأسه وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون. إني أخطأت بإطلاق سراح ابني هذا، ولو

كان محجورا عليه كما كان الأمراء قبله لما كان في مثل هذه الأخلاق، ولما جر علينا هذه

البلايا. لأحبسنه ولأحجرن عليه ولأعلمنه كيف يكون مطيعا، قبحه الله من ابن عاق!»

وبينما هما في ذلك إذ سمعا ضوضاء بالباب عرفا منها صوت أبي بكر وهو يقول بلحن الغضب: «أما

كفاه من في داره من النساء حتى يطمع في جاريتي؟! دعني أدخل.» وإذا بالحاجب يدخل وهو يقول: «إن مولانا أبا بكر ابن أمير المؤمنين بالباب، هل يدخل؟» فقال: «هل جاء وحده؟» قال: «نعم.»

قال: «وكيف ذلك، أليس الداودار معه؟» قال: «لا.» ولم ينتظر أبو بكر الإذن له في الدخول،

فدخل والغضب باد في محياه، فلما رآه أبوه داخلا استعاذ بالله وابتدره قائلا: «ما هذا يا

أحمد، أهكذا يدخلون على أمير المؤمنين، أين التربية ووقار الخلافة؟»

فجلس دون أن ينتظر الإذن، وقال: «تسألني عن التربية وأنا ابن أمير المؤمنين وقد ربيت في

حجره؟ ولعل ذلك من أسباب شقائي؛ يحسدني الناس على أن الخليفة أبي، ولو علموا كيف يعاملني

لأشفقوا على.» قال ذلك واختنق صوته كأنه يجهش بالبكاء.

فلما سمع المستعصم إجهاشه ولحظ شيئا يتلألأ في عينيه كالدمع، خمد غضبه وتغلب حنانه، وإن

لم يكن هناك ما يدعو إلى الحنان والإشفاق؛ وذلك لأن المحبة الأبوية لا تذعن للحقوق ولا

تعترف بقواعد المنطق ولا تطلب البراهين، وإنما هي حاكم مستبد أكثر أعماله لا تنطبق على

القوانين، وكثير منها يناقض المنطق ويخالف أحكام العقل. الأب يحب ابنه ويغار عليه، ويرى فيه

حسنات لا يراها الآخرون، وهو لا يحبه لأنه يرجو منه نفعا، أو لأنه يستحق المحبة لفضائل فيه

أو حسنات أتاها، وإنما يحبه عفوا، يحبه لأنه ابنه، ويزداد حبه له كلما شقي في تربيته،

ويزداد عطفه عليه إذا رآه حزينا. إن الوالدين ليس أدعى إلى تحريك شفقتهما من أن يريا

ابنهما باكيا وإن كانا في أشد حالات الغضب، كأن دموعه تقع على نار ذلك الغضب فتطفئها

ويتصاعد دخانها فيغشى ما هناك من دواعي النقمة، فلا يريان غير بواعث الشفقة والعطف.

وكان المستعصم من أضعف الآباء قلبا وأكثرهم حنانا، فأوشك أن ينسى أسباب غضبه على ابنه

لكنه تجلد وقال: «أبمثل هذا تخاطب أباك؟ هل يحق لك الشكوى من أبيك وقد منحك ما كان يشتهيه

أبناء الخلفاء قبلك؟ كانوا مسجونين وأنت حر طليق ولك الأمر والنهي، ألم تر الداودار؟

قال: لا، لم أره. لكنهم قالوا لي إنه أتى قصري وحمل جاريتي فلم أطق الصبر على ذلك، فجئت

لأشكو إليه عمله. فإذا أنت تمن علي بالحرية التي وهبتني إياها، وأي حرية هذه وقد ضننت علي

بجارية مع كثرة الجواري في قصرك ولكن ...»

فقطع المستعصم كلامه قائلا: «لم أضن عليك بجارية، لكنني عتبت عليك لأنك اختطفت جارية

آتية من مصر باسمي.»

فقال وهو يحول وجهه استخفافا: «آتية من مصر باسمك؟ إنك لا ترى بأسا من اقتناء مئات

الجواري وتبعث في طلبهن من الأطراف، وابنك الشاب إذا أخذ جارية منهن اتهمته بالعقوق وشددت

النكير عليه. لو كنت ابن أحد العامة لم يفعل أبي معي فعل أمير المؤمنين.» قال ذلك وغص بريقه

وأظهر أنه ضاق صدره من الإجهاش وأنه إنما يمسك نفسه عن البكاء حياء ثم قال: «ومع ذلك أنت

أمير المؤمنين ولك الحق في أمور ليس لسواك الحق فيها. ونحن عبيدك وكل ما هو لنا طوع إرادتك.

ولا يزال عندي بضع جوار أخر أبعث الداودار ليحملهن إليك. يا ليتك أبقيتني أسيرا ولم ترني

نور الحرية. إن المولود في الظلمة لا يعرف لذة النور ولا يأسف لفراقه، وإذا كنت قد ندمت على

إطلاق سراحي، فها أنا ذا بين يديك؛ احبسني أو اقتلني، والقتل خير لأني أريحك من المتاعب.»

وأظهر أنه لم يعد يستطيع التماسك عن البكاء وأخذ في الشهيق، وأوشك أبوه أن يشاركه في ذلك.

أما مؤيد الدين فكان جالسا يسمع ويرى وقد أدهشه ما رآه من الانقلاب في عواطف المستعصم،

فذهب فرحه بالفوز عبثا، واكتفى بالنجاة من الغضب، وود الخروج من ذلك المجلس، ولكن لا يجوز

له أن يستأذن قبل أن يرى الخليفة راغبا في صرفه على عادة الخلفاء والملوك. فأخذ يتحرك في

مجلسه ليوجه التفات الخليفة إلى صرفه، وقد يكون الخليفة أكثر رغبة منه في ذلك.

لكن حركته لفتت انتباه أبي بكر فتحول نحوه وعاد إلى الكلام فقال: «أنا لا أشك في حب أبي،

ولكن الذنب كله على هذا الوزير، الذي شب على كرهنا لأنه علوي ولا يرى لنا الحق في الخلافة.»

ووجه خطابه إلى أبيه وقال: «وأني لأستغرب صبر والدي على رجل يكرهنا ويسعى في خلع خلافتنا

ويخابر ألد أعدائنا سرا، وأغرب من ذلك أنه صدق دفاعه عن نفسه.» ومد يده إلى كتاب هولاكو،

وكان ما زال في يد مؤيد الدين، فاختطفه منه بخشونة وفتحه وقال وهو ينظر فيه: «صدق دفاعه، وظنه

بريئا من المواطأة مع عدونا وهو يقول له في هذا الكتاب إنه صديقه، ويشير عليه بإرسال

الرسالة كما قال له قبلا، ألا يدل هذا على سبق المخابرة في شأن الخيانة؟ ومع ذلك فإن قول

ابن العلقمي العلوي مصدق وقول أحمد مكذب.» وعاد إلى البكاء.

فتفطر قلب أبيه لبكائه، ورأى مؤيد الدين في وجهه الانصياع إلى رأي ابنه، فأسقط في يده

وتحقق أن سعيه ذهب سدى، وود لو أنه يختفي من المجلس لئلا يسمع تأنيبا من الخليفة نفسه،

فإذا هذا يقول: «سأنظر في أمر أحمد والجارية في فرصة أخرى. أما من حيث مخابرة العدو فقد صدق

أحمد يا مؤيد الدين. كيف صبرت على مخابرة ذلك العدو مدة ولم تخبرنا؟ إني واثق بأمانتك، ولكن

للثقة حدودا تقف عندها ... لا، لا، لا أزال على ثقتي بك وإن خالفني أحمد. إنه قال ما قاله

الآن من غضب.»

فقطع أحمد كلام أبيه قائلا: «لا، لا أقول من غضب، أنت تعرف سوء رأيي في هذا الوزير من

قبل، وقد تحقق ظني فيه اليوم.»

فلم يشأ الخليفة أن تنتهي الجلسة على هذه الصورة؛ لأنه يعتقد اقتدار وزيره ويرى نفسه في

حاجة إليه، لكنه لم يستطع أن يغالب عواطفه الأبوية ويجدل ابنه، فأحب إقفال باب الكلام، فأبدى

إشارة الصرف، فوقف مؤيد الدين واستأذن في الانصراف وهو ساكت يفكر.

خرج الوزير وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما حتى أخطأ الطريق من الديوان إلى موقف الدواب

حيث كان غلامه في انتظاره، ثم انتبه لنفسه فركب بغلته وسار قاصدا منزله وهو لا يكاد يرى

طريقه لعظم ما جاش في خاطره من الأسف واليأس والخوف. وتضاربت خواطره بين الانتقام والتربص

حتى وصل إلى المنزل، فاستقبله قيم الدار على جاري العادة، فحالما وقع نظره عليه تذكر

المملوك الذي كتب الرسالة على رأسه فسأل عنه فقال: «هو في حجرتي.» قال: «كيف شعره؟» قال: «قد نما حتى كسا رأسه، وإذا شئت أتيتك به الساعة.»

قال: «أحضره.» ومشى إلى غرفته وهو يفكر وخاطره مشتغل بما مر به في ذلك اليوم، وكلما تصور

أبا بكر واحتقاره إياه، اقشعر جسمه قشعريرة الحقد والغيظ والكراهية. فقعد على سريره وهو

مطرق، وإذا بالقيم قد جاء ومعه ذلك الغلام يساق كالبهيمة، وليس فيه من علامات الإنسانية

إلا شكله الخارجي ونطقه إذا تكلم. فلما رآه مؤيد الدين نظر إلى رأسه فرأى شعره قد نما

وتكاثر ولم يبق شيء ظاهر من جلده، فتفرس في رأسه وهو يناجى نفسه قائلا: «إن تحت هذا الشعر

رسالة إذا بلغت صاحبها أقام الدنيا وأقعدها وانتقم لي من ذلك المغرور الطائش. وما علي إذا

أنا أرسلتها إلى هولاكو؟ إن الرجل قادم إلينا لا محالة وهو فاعل ما يريده، ولا ريب عندي

بفوزه، فإذا أرسلت إليه دعوتي هذه على رأس هذا المملوك ضمنت حياتي وحياة من أحب من أهلي

وأصدقائي. ولو علمت أننا قادرون على دفع هولاكو ورجاله لم أكن لأبالي بجهالة هذا الغر

واستخفافه، بل كنت أدافع عن أمتي وبلدي وأغضي عن ضعف الخليفة وطيش ابنه. ولكن أنى لنا أن

ندفع التتر وليس عندنا إلا عشرون ألفا قلوبهم متفرقة ونياتهم متناقضة؛ إذن ...» ووضع سبابته

على ذقنه كما يفعل المتأمل ثم رفع بصره إلى قيم القصر وقال: «أرسل هذا الغلام في المهمة

التي تعرفها.»

فخفق قلب القيم فرحا؛ لأنه كان كثير الرغبة في الانتقام من الخليفة، فنادى الغلام إليه

فتبعه، فلما خلا به أفهمه أن مولاه الوزير يريد منه أن يذهب إلى هولاكو خاقان التتر، ويقول

له إنه قادم من وزير بغداد وكفى. ومتى عاد نال المكافأة الكبرى، ففرح الغلام ومشى كالشاة

تساق إلى الذبح.

الفصل العاشر

شوكار في دار النساء

ذهبت شوكار مع غلام الخليفة إلى دار النساء، برغم إرادتها، لكنها كانت تفضل أن تكون فيه

على أن تبقى عند أبي بكر. وكانت قد قضت فترة وجودها عنده وهي في حرب دائمة معه؛ لأنه يريدها

لغير الغناء وهي تأبى ذلك، ولا سيما بعد أن جاءها كتاب ركن الدين مع الخصي عابد البصري

رسولها إليه الذي كتبه وهو نافر من سعاية سلافة في شوكار، ولم يكن سعيها فيها إلا ليزيده

تمسكا بحبها، فكتب إليها كتابا ضمنه العطف عليها والوعد بإنقاذها، فجاءها الرسول بالجواب

المذكور وهي في حوزة ابن الخليفة، فاحتالت حتى أدخلت عابدا في خدمته لعلها تحتاج إليه في

شيء بعد أن اختبرت أمانته، وهو الذي أعانها في الفرار إلى الكرخ وجرى بسبب فرارها ما جرى بين

القتل والنهب، وخرج معها إلى الكاظمية، ولما استرجعها أبو بكر إلى منزله كان عابد لا يزال

فيه. ثم بعث المستعصم في طلبها فجاءت وحدها وأمر الخليفة بإرسالها إلى دار النساء كما رأيت.

وقبل وصولها إلى الدار بلغ أهل القصر أن الجارية المغنية التي كانت مرسلة إلى الخليفة

واختطفها اللصوص قد وجدت وجيء بها إلى قصر التاج، وأنها قادمة الآن إلى دار النساء. فلا تسل

عمن تجمع لمشاهدتها من الرجال والنساء. وكان في قصور النساء هناك مئات من السراري والجواري

على اختلاف الطبقات والأغراض، فجاء كثير منهن إلى قهرمانة القصور يستوضحن ما سمعنه عن

شوكار، وقد اختلفت الروايات في شكل هذه الجارية وطول قامتها أو قصرها ودرجة رخامة صوتها، وغير ذلك مما تصوره المخيلة في مثل تلك الحال.

وكان أكثر النساء اهتماما بأمرها المغنيات؛ لأن شوكار قادمة لمناظرتهن في عملهن، فاجتمعن

وتحدثن في أمرها وما وصل إلى علمهن من الأقاويل عنها. وهذا طبيعي في الناس، وبخاصة في ذلك

العصر، وبين نساء لا عمل لهن غير أمثال هذه الأحاديث؛ إذ لا يشغلهن عن ذلك كتاب ولا جريدة

ولا مجلة ولا مدرسة ولا خطاب ولا اجتماع علمي ولا أدبي، مما قد يشغل نساء هذا العصر، وإنما

همهن كله هذه الأحاديث والمباراة في التبرج لاجتذاب قلوب الرجال.

وأول من لقيته شوكار هناك أستاذ الدار - رئيس الخصيان - أخذت إليه وهو متصدر في غرفته

فقبلت يده ووقفت باحترام تنتظر أمره، وهو الآمر الناهي في تلك القصور، وذو نفوذ كبير في

الشئون السياسية، كما كان شأن بعض أغوات يلدز في زمن عبد الحميد. وبعد أن قدمت نفسها لأستاذ

الدار واستفهم عن اسمها وعمرها ويوم وصولها وسائر الأوصاف المميزة لها، أمر بتدوين ذلك في

أماكنه لئلا يختلط أمر النساء بعضهن ببعض لكثرتهن. وقد تتشابه الأسماء.

ثم أخذوها إلى قهرمانة الدار، وهي كهلة رهلة، قد تراكم اللحم على بدنها مثل تراكم المصوغات

والمجوهرات حول عنقها وزنديها، وعليها أفخر اللباس، وهي في تلك الدار كالملكة، ليس في

الجواري والسراري من لا يتزلف إليها ويخطب رضاها بالمحاسنة والمجاملة والهدايا. مشت شوكار

وهي مطرقة حياء لكثرة من لقيتهم في طريقها من الخصيان والجواري وقوفا في الدهاليز والأبواب

يتفرسون فيها ويتهامسون. فلما أقبلت على غرفة القهرمانة رأت الخصيان ببابها كالحراس بأبواب

الملوك، فدخلت تلك الغرفة وتلفتت لتتعرف الوجوه، فعرفت القهرمانة من مجلسها المرتفع ولبسها

الفاخر. فمشت نحوها حتى إذا دنت منها أكبت على يدها تقبلها، فقبلتها القهرمانة وأمرتها

بالجلوس إلى جانبها، وأخذت ترحب بها بعبارات مألوفة في مثل تلك الحال، لو تليت على إنسان لم

يألفها لظن قائلها أشد الناس مودة له وتفانيا في مصلحته، لكنها على طول التكرار أصبحت لا

معنى لها، أو أن لها معنى يناقض أصل المراد بها.

فاستأنست شوكار ونظرت إلى ما في تلك الغرفة من الرياش الفاخر، وتأملت حال أهل ذلك القصر

من الرخاء والنعيم، فأوشكت أن تؤثر المقام هناك على الاجتماع بركن الدين. ثم نادها قلبها

فأصغت إلى ندائه، ولسان حالها يقول: «ليست السعادة بالرياش والمجوهرات وإنما هي في الحب.»

ثم سمعت القهرمانة تنادي بعض الخصيان وتأمره أن يهيئ لمغنية الخليفة غرفة فيها كل أسباب

الراحة. والتفتت إلى شوكار وقالت: «تمكثين هنا ريثما تتهيأ الغرفة كما يليق بها، إني في

انتظار قدومك من أمد طويل، وقد شغل بالنا خوفا عليك، فنحمد الله على سلامتك.»

فأجابتها شوكار شاكرة وقالت: «إني لا أستحق هذا الالتفات يا سيدتي، ما أنا إلا جارية

حقيرة.»

فأجابتها القهرمانة - أو القيمة - وهي تضحك: «أنت تظنينني لا أعرفك قبل الآن، ولكنني

أعرفك من عهد بعيد، وأعرف كل شيء عنك، عرفت ذلك من صديقتي قهرمانة الملك الصالح صاحب مصر، رحمه الله. أتعرفينها؟»

فتذكرت سلافة وما بينها وبين سيدتها شجرة الدر من المنافسة، ولم تكن تعرف لها هذه المنزلة

لدى قيمة قصور الخليفة فقالت: «أظنك تعنين سلافة، نعم أعرفها يا سيدتي ولم أكن أظنها

تعرفني.»

قالت: «بالعكس، إنها تعرفك جيدا، وهي التي لفتت انتباهي إلى رخيم صوتك، وأنك تليقين

بمجالسة مولانا أمير المؤمنين، فأشرت على مولانا باستقدامك، فطلبك من سلطان مصر كما

تعلمين.»

فأحست شوكار بفضل سلافة عليها، ولكنها كانت تفضل الخروج من ذلك القصر، غير أنها نظرت في

الأمر من حيث قصدها فقالت: «الحقيقة أن حسن ظن السيدة سلافة منة كبرى يجب أن أشكرها عليها،

ولو عرفت ذلك لشكرتها وأنا في مصر.» قالت: «ويمكنك أن تشكريها هنا.» قالت: «وهل هي هنا

الآن؟» قالت: «هي هنا منذ بضعة أيام.» •••

استغربت شوكار هذه المصادفة، وبان البشر في محياها، وسبق إلى ذهنها حسن الظن، وتصورت أن

وجود سلافة هناك سيكون أكبر تعزية لها ريثما تستطيع التخلص، وخيل لها أن سلافة ستكون عونا

كبيرا لها في ذلك، فقالت: «لله ما أسعد حظي! أين سيدتي سلافة حتى أقبل يدها وأشكر لها

صنيعها؟»

قالت: «سترينها بعد قليل، وقد سألت عنك ساعة وصولها من مصر، فأخبرتها عن ضياعك فتأسفت،

ولما جاءتنا البشارة الآن بوجودك أخبرتها، ففرحت فرحا عظيما، وهي آتية الساعة ... هذه جاريتها

قادمة ... أين سيدتك يا أقحوانة؟»

فأجابت الجارية: «إنها في غرفتها يا مولاتنا، وقد بعثتني لأدعو القادمة الجديدة إليها

لتتمتع برؤيتها، فإنها في شوق إليها.»

فضحكت القهرمانة حتى بانت بقايا أسنانها وما يتخللها من الفراغ في أماكن الأسنان المقلوعة

وقالت: «هل تريد أن نرسلها إليها لتراها قبل أن يراها أمير المؤمنين؟»

فقالت الجارية: «هذا ما قالته مولاتي، والأمر لك.»

قالت: «لا بأس. إن ضيفتنا شوكار ذاهبة معك للقاء صديقتنا سلافة؛ لأنها في شوق لرؤيتها

وتقديم شكرها لها. وقولي لها ألا تطيل المقام؛ فلا بد من إرسالها إلى الماشطة بعد قليل

لإصلاح شأنها بحيث يليق بها الجلوس بين يدي مولانا الليلة لسماع صوتها الرخيم، ولا أظنه

يصبر على الانتظار إلى الغد. قومي يا شوكار إلى سلافة، وأحب أن تستأنسي بنا وتثقي بي، فإنك

كإحدى بناتي.»

فنهضت شوكار ومشت في أثر الجارية أقحوانة، وهي تمر من ممر إلى ممر، والغرف على الجانبين،

وشعرت أن في تلك الغرفة أناسا يتشوقون إلى رؤيتها، نعني الجواري أو السراري، فترى الأبواب

بين مفتوح ومشقوق، والرءوس تطل لمشاهدتها ثم ترجع خلسة، حتى وصلت إلى غرفة سلافة، فتقدمتها

أقحوانة وأعلمت سيدتها بمجيء شوكار. فلما أطلت شوكار على مجلس سلافة، تصاعد الدم إلى وجهها

خجلا وفرحا؛ إذ شعرت بأن هذه السيدة أرادت الإحسان إليها بإرسالها إلى بيت الخليفة، وإن

كان ذلك لم يوافق حالها. فلما شاهدتها سلافة مقبلة نهضت لها وتقدمت لاستقبالها ببشاشة

وترحاب زادا الفتاة خجلا؛ لأنها تعرف منزلة تلك السيدة في قصر الملك الصالح بمصر وقصور

المستعصم في بغداد، فأكبرت تواضعها وعطفها وأكبت على يديها تريد أن تقبلها، فمنعتها من ذلك

وهي تقول: «مرحبا بالعزيزة شوكار، وأشكر الله أن رأيتك في هذا القصر؛ فقد طالما تمنيت لك

هذه السعادة . هل أنت مسرورة يا شوكار؟» وأومأت إليها أن تقعد على وسادة بجانبها، فجلست

شوكار وهو تقول: «أشكر لك غيرتك وفضلك يا سيدتي. إني في سعادة بحمد الله و...»

فقطعت سلافة كلامها قائلة: «ولكن ساءني أنهم اختطفوك في أثناء الطريق، واليوم عرفت سبب

ذلك، فالحمد لله على سلامتك. كم أنا مسرورة بلقياك، ومهما يكن من حظوتك بالقدوم إلى بغدد

والمكوث في دار الخليفة، فإن الخليفة أكبر حظا منك بالحصول على مغنية ليس في العراق ولا مصر

أرخم صوتا منها.»

فأطرقت شوكار وعيناها ولسانها ينطقان بالشكر، وقلبها ينكر ذلك الفضل؛ لأنها كانت تؤثر

البقاء بقرب ركن الدين، ولو في سجن، على وجودها بعيدة عنه في قصر الخليفة.

ولم تكن سلافة تجهل ذلك، لكنها خاطبتها بما قد تتوقعه منها؛ لأن شوكار لم تكن تعلم شيئا

مما دار بين حبيبها ركن الدين وهذه المرأة، ولو علمت الغرض الذي حملها على المجيء إلى بغداد

لاقشعر بدنها وكرهت النظر إليها، فإن سلافة قد تركت مصر بعد حديثها مع ركن الدين الذي غادر

دارها وقد أغضبها لأنه لم يطعها فيما أرادته منه، فتركته واقفا ومشت بعد أن رمته بنظرة

كالسهم وقالت: «سر بحراسة الله، سر إلى فراشك أيها الأمير، ولا تظن فشلي هذا يذهب عبثا.»

قالت ذلك يومئذ وقد أثار بإعراضه نقمتها منه، وانقلب حبها بغضا، ولكنها رأت أن تتربص عساه

أن يرجع إلى صوابه ويتحول عن حب شوكار، وإلا عمدت إلى أذاه. وما زالت تبث الجواسيس لاستطلاع

مقاصده حتى علمت عزمه على السفر إلى بغداد، فأسرعت إليها لتستقصي أخباره وترى ما يكون من

أمره. وكانت قد سمعت بضياع شوكار، فلما عادت وجدتها حية أخذت تفكر في حيلة أخرى، وهي تعتقد

أن وجود هذه الفتاة حية يقف في سبيل غرضها. ومن أخلاق هذه المرأة إقدامها على عظائم الأمور،

بلا دهاء أو تدبير سابق يضمن نجاحها؛ فإذا خطر ببالها أمر أقدمت عليه.

فلما سمعت شكر شوكار لها، وعلمت حسن نيتها، وأنها لا تعلم بما دار بينها وبين ركن الدين،

استسهلت تنفيذ بغيتها، فأظهرت أنها مسرورة جدا بلقياها، وخطر لها أن شوكار قد تفضل البقاء

في دار الخليفة على الاقتران بركن الدين، فأحبت أن تستطلع رأيها في ذلك فقالت لها: «يظهر

أنك نسيت مصر وأهلها، لك حق؛ فإن المقيم في هذه القصور بجوار أمير المؤمنين لا تخطر مصر

بباله.» قالت ذلك وجعلت تتفحص ما يبدو منها، فتحيرت شوكار بماذا تجيبها، والمحب حريص على

سره لا يفشيه إلا لمن يعتقد إخلاصه وصدق مودته، وقد سبق إلى ذهنها أن سلافة تحبها، بدليل

سعيها لها في هذه النعمة بما لها من النفوذ في تلك الدار، فتصورت أنها إذا شكت إليها حقيقة

حالها فربما ساعدتها على التخلص من بغداد والرجوع إلى مصر، فترددت في الجواب، وبان التردد

في عينيها، ولحظت سلافة ذلك فيها فقالت لها: «ما بالك لا تتكلمين يا حبيبتي؟ قولي، يظهر

أنك تستحين مني أو لا تثقين بي.»

فخجلت شوكار من هذا التوبيخ وقالت: «كلا يا سيدتي، إني أقدر تنازلك حق قدره، ولولا حبك لي

لم تسعي لي في هذه السعادة، ولكن ...» وسكتت.

فقالت سلافة: «ولكن ماذا يا شوكار؟ ألم أقل لك أنك لا تثقين بي؟»

قالت: «العفو يا سيدتي،

لكنني أستحي أن أقول ما في خاطري لئلا تضحكي مني ...»

قالت: «أضحك منك؟ لماذا؟ فأطرقت وقد توردت وجنتاها وجعلت تتشاغل بطرف جديلتها تلفها على

سبابتها، ثم قالت: «إن الإقامة في هذه القصور تشتهيها كثيرات، وربما حسدن عليها، لكنني أفضل

الرجوع إلى مصر.»

فأظهرت سلافة الاستغراب وقالت: «ترجعين إلى مصر؟! وما الذي خلفته هناك؟ إلا أن تكوني

مخطوبة لأحد. حتى هذا فإنك تجدين بدلا منه في بغداد، وإذا سمع الخليفة غناءك ومهارتك في

ضرب العود، فربما أصبت نصيبا لا يتيسر لك مثله في مصر.»

فقالت شوكار بكل بساطة وإخلاص: «ليست السعادة في قربي من الخلفاء ولا بالتزوج من أمير أو

شريف، وإنما هي في الحب المتبادل.» قالت ذلك وتورد وجهها حياء، فحولته إلى ستارة معلقة

بالحائط عليها صور بعض الطيور وتشاغلت بالنظر إليها.

فابتدرتها سلافة قائلة: «إذا كنت عالقة القلب ببعض الشبان في مصر فاحذري ولا تنخدعي. قد

يكون ذلك الشاب حينما علم بسفرك تزوج غيرك. وهبي أنه تزوجك، فليس أسهل على الرجال من

الطلاق. لا تثقي بأحد منهم، أقول لك هذا عن اختبار.»

فابتسمت شوكار ابتسام النصر لثقتها بحبيبها وقالت: «إن الشاب الذي أحبه على خلاف ما

تقولين، وأنا واثقة من ثباته على حبي. وقد يأتي إلى هذا البلد لإنقاذي.»

فضحكت سلافة باستخفاف لتحمل شوكار على التصريح بما في قلبها، وهزت رأسها هز الإنكار

وسكتت، فقالت شوكار، «أؤكد لك يا سيدتي أن خطيبي هو كما أقول لك، ولو عرفته لوافقتني على

رأيي.»

فأحبت سلافة أن تتبع الحديث إلى آخره فقالت: «ما اسمه؟» وأخذ قلبها يخفق لعلمها بالجواب

قبل سماعه.

فقالت شوكار: «هو الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، ولا شك أنك تعرفينه، فهل ألام على

حبه؟» قالت ذلك وأبرقت عيناها، وأكبت على يد سلافة تقبلها وهي تقول متضرعة: «بالله يا سيدتي

ساعديني، فليس في الدنيا أحد يقدر أن يحقق لي هذه الأمنية سواك. أنت جئت بي إلى هذه

المدينة، وأنت وحدك تقدرين على إرجاعي إلى مصر.» وشرقت بدموعها.

وكانت سلافة حالما سمعت اسم ركن الدين قد هاجت عواطفها وزادت نقمتها ويئست من النجاح في

هذا السبيل، فتظاهرت بالحنان عليها وتلطفت إليها وقالت: «نعم أعرف الأمير ركن الدين، وهو من

خيرة الأمراء، وإذا كنت على ثقة من حبه فإني أبذل جهدي في مساعدتك لأني أحببتك كثيرا ولا

غرض لي إلا راحتك وسعادتك.»

فلما سمعت شوكار كلامها اعتقدت صدقه، فاختلج قلبها في صدرها من الفرح وقالت وهي تضحك: «صحيح؟! صحيح ما تقولين؟! ترجعينني إلى مصر؟! شكرا يا سيدتي، أسرعي في إنقاذي؟» وهمت

بتقبيل يدها، فمنعتها وضمتها إلى صدرها تحببا. ولو علمت شوكار بما يكنه ذلك الصدر نحوها

لأجفلت وتراجعت، لكنها صدقت واعتقدت قرب الفرج.

أما سلافة فقالت: «يصعب إنقاذك سريعا، وأنت لم يمض عليك يوم بقصر أمير المؤمنين الذي

أمر بإصلاح شأنك ليسمع صوتك في هذه الليلة ، كوني مطمئنة، إني لا أدخر وسعا في إجابة طلبك،

ولا بد من حيلة أدبرها لك.»

فأحست شوكار بارتياح كثير، وعولت في نجاتها على سلافة، وشكرت الله لالتقائهما. •••

والتفتت سلافة إليها بلهفة كأنها استدركت شيئا فاتها، أو أنها وفقت إلى رأي جديد وقالت: «اسمعي يا عزيزتي، إذا لم يكن بد من الرجوع إلى مصر، فالأوفق أن نبدأ بالسعي من هذه الساعة، أما بعد أن يسمع أمير المؤمنين صوتك فسيصبح الخروج صعبا.»

فتأكد لدى شوكار صدق رغبتها في إنقاذها فقالت: «وما هو الرأي يا سيدتي؟ إني رهينة إشارتك، أفعل ما تأمرين به.»

قالت: «أرى أن تبدئي من الآن فتشكي من صداع في رأسك وألم في حلقك، وأنا أرفع خبر ذلك إلى

القهرمانة وأقنعها بصحته، ثم أحتال في نقلك إلى قصر آخر أهداه إلي الخليفة لأقيم فيه على

مقربة من قصر التاج، ومتى صرت هناك هان إنقاذك.»

فخدعت شوكار بهذا القول، واستبشرت به، ورأت فيه سبيلا لعودتها إلى حبيبها ركن الدين،

فانحنت على قدمي سلافة تحاول أن تقبلهما وقالت: «شكرا لك يا مولاتي، شكرا لك، إني أشعر

بالصداع من الآن.» فتناولت سلافة منديلا عصبت به رأسها، وصفقت فجاءتها أقحوانة وهي تقول: «إن مولاتنا القهرمانة استبطأت شوكار فبعثت في طلبها لأن أمير المؤمنين آت بعد قليل.»

فقالت: «انظري، إنها مريضة تشكو صداعا شديدا وألما في حلقها، وقد تعبت في معالجتها،

فالأحسن أن تعتذر القهرمانة إلى أمير المؤمنين من غيابها ريثما تشفى.» فذهبت أقحوانة إلى

القهرمانة بالخبر، فأسرعت هذه لمشاهدة شوكار وهي تقول بصوت جهوري خشن: «كيف ذلك؟ مولاي

الخليفة يأتي بعد قليل، وقد قضى زمنا طويلا في انتظار هذه المغنية، فكيف تمرض في ساعة

وصولها؟»

ولما وصلت إلى غرفة سلافة رأت شوكار مستلقية على الأرض وهي تصيح من شدة الألم وقد تغير

لونها، فلم يسعها عند رؤيتها إلا الإشفاق عليها، ونظرت إلى سلافة فرأتها شديدة الاهتمام بها

والحنو عليها فقالت لها: «أحب أن أنقل هذه المسكينة إلى دار المرضى ليعودها الطبيب ثم ...»

فقطعت سلافة كلامها قائلة: «لا، لا تنقليها إلى مكان، دعيني أهتم بأمرها. دعي ذلك لي ...»

قالت ذلك وهي تهتم بتغطية شوكار وتلمس جبينها وخديها ثم قالت: «دعي أمرها لي، وإذا اقتضت

الحال نقلها، نقلتها إلى قصري؛ لأن موقعه يساعد على سرعة شفائها.»

فعادت القهرمانة وهي تهيئ الأعذار للخليفة لتخلف مغنيته بعد أن منى نفسه بها على أثر

انتظاره الطويل للحصول عليها، وقبل وصولها إلى غرفتها جاءها رسول الخليفة يدعوها إليه،

فذهبت مهرولة إلى غرفته، فوجدته يعد نفسه للذهاب إلى المنظرة، وقد أخذ يلبس ثياب المنادمة.

فلما وقع بصره عليها صاح بها: «أين المغنية الجديدة؟ لقد ظفرنا بها بعد طول الانتظار،

والحمد لله. هل جربت صوتها؟ هل أسمعتك إياه؟ يقولون إنها أرخم النساء صوتا وأتقنهن صنعة.

قد آن لي أن أستريح من مهام الدولة ومتاعبها، سامح الله أبا بكر، إنه سبب هذه المتاعب كلها.»

واسترسل المستعصم في الكلام وهو واقف والخادم يساعده على لبس الغلالة ولف العمامة الصغيرة،

والقهرمانة واقفة تنتظر سكوته لتجيبه على أسئلته. فلما سكت قالت: «إن جاريتك شوكار مريضة

الآن.»

فصاح فيها: «مريضة! لقد رأيتها اليوم في عافية. متى مرضت؟»

قالت: «كانت في خير، لكنها أصيبت منذ ساعة بصداع شديد كاد يقتلها، وقد اهتمت جاريتك سلافة

بأمرها.»

فقطب المستعصم حاجبيه، وكان الخادم الواقف بين يديه يناوله منطقة من الحرير ليتمنطق بها،

فتناولها ورمى بها إلى الأرض، وألقى نفسه على المقعد كأنه يستريح من تعب، وتنهد وقال: «يا

لله من سخرية القدر؟ لقد تشاءمت من هذه الجارية، فإنها منذ خروجها من مصر وأمورها معرقلة،

ولما ظفرنا بها مرضت، وأخاف أن تكون شؤما علينا فيما نحن فيه.» وأطرق لحظة ثم قال: «يا

ليتها ظلت عند أبي بكر ولم نغضبه لأجلها، وهل تظنين مرضها يطول؟» قالت: «إنها تشكو صداعا

وألما في حلقها، والأمل أن تشفى في يومين أو بضعة أيام. وإذا لم تشف فغيرها خير منها، إن

الجواري المغنيات كثيرات في خدمة أمير المؤمنين. هل يأمر بتهيئة سواها؟»

قال: «هيئي من شئت منهن ، إني في حاجة إلى الراحة بعد تعب هذا النهار. هل علمت ماذا جرى

لنا اليوم مع أبي بكر؟»

قالت: «إنه غضب لذهاب شوكار من يده، وقد أخطأ لأنه أخذها وهو يعلم أنها محمولة لمولانا

أمير المؤمنين. لكنه فعل ذلك بدالة الابن على أبيه ...» وقد استرضته بهذه العبارة. وهو إنما

سألها هذا السؤال ليسمع منها هذا الجواب؛ لأن قلبه ما زال مشغولا من جهة ابنه، يتنازعه في

شأنه عاملان: أحدهما النقمة عليه لأنه تجاوز حدوده وتعدى على حقوق أبيه، والثاني عطفه عليه

ورغبته في إرضائه، والعامل الأخير أشد ظهورا وأكثر تسلطا على قلبه. وهو يعلم أن تلك

القهرمانة تحب أبا بكر، أو هي تعرف حبه إياه، فلا تجيب إلا بما يخفف من غضبه عليه، فسألها

ذلك السؤال ولم يكن عنده ريب في اطلاعها على ما جرى في جلسة ذلك اليوم، وإن كانت في دار

النساء. فأنها كانت كثيرة التدخل في شئون الدولة والاطلاع على ما يجري منها؛ لأن المستعصم

كثيرا ما كان يذكر ذلك بين يديها على سبيل التفاخر، فأصبحت كثيرة النفوذ عنده شأن الدول

في عهد انحطاطها.

فلما سمع الخليفة قولها عن أبي بكر سري عنه وقال: «صدقت، إنه فعل ذلك بحسن نية، وقد جرأه

عليه الداودار، وكان ينبغي لهذا أن يردعه ويقف في وجهه.»

ولم تكن القهرمانة تحب الداودار لأنه جندي خشن لا يحترمها، فلما سمعت الخليفة ينتقده

وافقته وقالت: «طبعا كان يجب على الداودار أن يردعه. لكنه يفعل ذلك بدالته على أمير

المؤمنين لأنه قائد جنده، وتلك دالة كاذبة؛ إذ يستطيع أمير المؤمنين أن يبدل بداوداره أحسن

منه، لكنه لا يبدل بابنه سواه ...» قالت ذلك وضحكت إعجابا بهذا التعبير، وأظهرت أنها تهتم

بالخروج لتهيئة جلسة الغناء، فأجابها بضحكة من نوع ضحكتها وقد فهم قصدها، وهي تعني أن يعزل

الداودار وقال لها: «ابعثي إلى أبي بكر ليحضر هذا المجلس معنا. عسانا أن نعوضه ونرضيه.» فأشارت إشارة

الطاعة وانصرفت. •••

تركنا مؤيد الدين في داره وقد بعث رسوله إلى هولاكو بعد أن يئس من الإصلاح، على أنه ظل

برهة بعد إرسال الغلام وهو غارق في التفكير، تتناوبه الخواطر المتضاربة بين ندم وارتياح،

لكن الارتياح كان غالبا عليه؛ لأنه لم يقدم على مخابرة هولاكو إلا بعد تردد طويل. قضى ذلك

اليوم ولم يخرج من منزله، ومضت أيام أخر وهو لا يريد أن يرى أحدا ولا أن يخاطب أحدا لعظم

قلقه وفظاعة ما أقدم عليه، وازداد قلقه لأن الخليفة لم يسأل عنه، ولم يدعه إليه، فعد ذلك

تغيرا عليه، ففضل البقاء في منزله كالمحاصر ريثما يرى ما يحدث.

وأصبح ذات يوم، فإذا بطارق يطرق الباب، فعرف من طرقه أنه سحبان، وكان قد طال غيابه هذه

المرة حتى قلق عليه، فلما رآه مقبلا رحب به وأشار إليه أن يقعد، ورأى في وجهه تغيرا فقال: «ما وراءك يا سحبان؟ أراك متغيرا.»

قال: «وأنا أراك متغيرا أيها الوزير. ولا عجب إذا رأيت في تغيرا، فإنا إذا بقينا على

رأيك، فنحن متغيرون جميعا، بل نحن منتقلون إلى الدار الآخرة عما قريب.» قال ذلك وتشاغل بعض

شفته السفلى كأنه يفكر.

فأدرك مؤيد الدين أن سحبان ينتقد صبره على المستعصم ومحافظته على ولائه إلى هذا الحد، فضحك

وقال: «إن الانتقال إلى الآخرة خير لنا من هذه الدنيا.» قال: «نعم، ولكننا لا ينبغي أن

ننتقل قبل أن ننتقم.» قال: «لك علي ذلك.»

ولم يكن سحبان يتوقع سرعة الموافقة، فاستغرب جوابه وقال: «ومتى؟» قال: «منذ بضعة أيام.»

فدهش سحبان ونهض فجأة متأثرا وقال: «ماذا تعني؟ أظنك لم تفهم مرادي.» قال: «كيف لا؟ ألم

تقصد التخلص من أولئك القوم، ولو استنجدنا عليهم الغرباء؟» قال: «بلى!» قال: «قد فعلت، فاصبر لنرى النتيجة.»

فتلفت سحبان حوله خوفا من أن يسمعه أحد وقال: «استنجدت هولاكو، كتبت إليه أن يأتي؟»

قال: «لقد فعلت ذلك، وكنت أنتظر مجيئك قبل الآن لأخبرك وأرى رأيك ...»

فقطع سحبان عليه كلامه وصاح: «وهل لي رأي غير ذلك؟! هذه هي أمنيتي، إذا حصلت عليها لا

أبالي إن أنا مت الساعة، وقد جئتك الآن بأمر جديد مهم لكنه لا يقف في سبيلنا.» قال: «وما

هو؟» قال: «الأمير أحمد الذي سميناه الإمام، أنت تعلم أنني بعد أن أتيت به إلى هنا أرجعته

إلى حيث كان في قصر الفردوس. وكأن القوم أدركوا قصدنا، أو لعلهم علموا بخروجه وارتابوا في

حرس قصره، فنقلوه إلى قصر آخر.» قال: «نقلوه إلى قصر باب كلواذي في الجنوب، وأقاموا عليه

الحراس وشددوا التضييق عليه.» قال: «هو الآن في كلواذي؟ ولماذا فعلوا به ذلك؟»

قال: «فليفعلوا ما يشاءون، إنه خليفتنا حيثما كان، وهل يصعب علينا إخراجه من سجنه متى تم

لنا ما نطلبه؟! إذا دخل التتر بغداد وقبضوا على هذا الخليفة فستكون أنت معهم فترشدهم إلى

الإمام أحمد فيولونه الخلافة. آه ما أجمل ذلك اليوم السعيد! وأسعد منه أن نعيد دولتنا

العلوية. هذه هي أمنيتي الحقيقية.»

فنظر مؤيد الدين إليه وهو يغبط فيه ذلك الأمل الواسع والوثوق بالنجاح لأضعف الأسباب. إن

صاحب هذا الخلق قد يخطئ ويفشل، لكنه أقرب إلى السعادة من الرجل الحذر الكثير الشكوك الذي

يرى السعادة في قبضته ويشك في وجودها. ولذلك استغرب مؤيد الدين سرور سحبان واطمئنانه لا لشيء

إلا أن سمع منه أنه وافق هولاكو على القدوم إلى بغداد، وفاته ما يعترض نجاح من العقبات،

وأنه قد عرض نفسه في هذا لخطر جسيم. ثم رفع نظره إلى سحبان وقال: «وفقنا الله في سعينا على

القوم الظالمين.»

الفصل الحادي عشر

ركن الدين في بغداد

وبينما هما في ذلك، إذ سمعا قرع الباب. وكان الباب بعيدا عن غرفة الوزير، ولم يكن يهتم

لسماع قرعه من قبل، أما الآن فإنه لشدة قلقه أصبح لا تفوته حركة مما يحدث في البيت، فتطلع

نحو الباب، وإذا بغلام سحبان قد دخل وفي وجهه تغير، فقال له سحبان: «من أين أتيت يا غلام؟»

قال: «أتيت من المنزل يا سيدي.» قال: «ولماذا؟» قال: «لأن قادما غريبا جاء يطلبك وألح

على أن أوصله إليك حالا، فجئت به لعلمي أنك في دار الوزير .» قال: «من هو هذا القادم؟ وأين

هو؟» قال: «لم يشأ أن يخبرني عن اسمه، لكنه جاء معي وهو واقف في انتظار الإذن له.»

فالتفت سحبان إلى الوزير كأنه يستأذنه في إدخال ذلك الضيف، فقال الوزير: «أدخله.»

فعاد الغلام ومعه رجل حسن البزة عليه لباس السفر، وحالما وقع نظر سحبان عليه صاح: «الأمير ركن الدين؟! الأمير ركن الدين؟!» ونهض لملاقاته والترحيب به.»

ونهض مؤيد الدين وهو يقول: «مرحبا بالأمير ركن الدين.» فمشى ركن الدين حتى دنا من الوزير

فحياه وحيا سحبان، وجلس على كرسي قدموه له، وأخذ الوزير يرحب به قائلا: «طالما سمعنا

بالأمير ركن الدين بيبرس وأعماله في مصر، وكنت في شوق إلى رؤيته فمن الله علي بذلك.»

فقال ركن الدين: «ليس في ركن الدين ما يدعو إلى الإعجاب لأني لم أعمل عملا، ولكن الإعجاب

يجدر بالوزير مؤيد الدين بن العلقمي القابض على أزمة الدولة العباسية يدير شئونها.»

وتصدى سحبان للكلام قائلا: «إن الأمير ركن الدين بطل عظيم.» ووجه كلامه إلى الوزير وقال: «ألم أقل ذلك عن بسالة هذا البطل وما بشأنها عند سفره من مصر.» فقال له: «هل تأذن أن نتكلم

عن المهمة أتاه من المدهشات في محاربة الإفرنج وتخليص مصر من أيديهم؟ فعساه أن يساعدنا في

تخليص بغداد من غير الإفرنج ...» وضحك.

فلم يعجب مؤيد الدين تسرعه لكنه تغافل، وتغافل أيضا ركن الدين لأنه مثل مؤيد الدين

تكتما وحذرا، فخجل سحبان من نفسه وأراد أن يغطي خجله فأثار موضوعا جديدا، فقال لركن

الدين: «متى وصلت إلى بغداد أيها الأمير؟ وكيف عرفت داري؟»

قال: «وصلت في هذا الصباح، وأما منزلك فقد عرفت منك في مصر أنه بالكاظمية. وأنا أعرف

بغداد، فصرفت من كان معي وأحببت أن أدخل البلد متنكرا، فوصلت إلى الكاظمية وسألت عنك فقيل

لي إنك عند مولانا الوزير، فجئت لأراك وأراه لأني أعرفه بالسماع، فطلبت إلى خادمك أن يأخذني

إليك وقد فعل.»

فقال الوزير: «لقد جئت أهلا ووطئت سهلا.»

وتذكر سحبان تعلق ركن الدين بشوكار وقلقه عليها وحديثه معه بشأنها عند سفره من مصر، فقال

له: «هل تأذن أن تتكلم عن المهمة التي أنفذتني إليها من مصر؟ إن لمولانا الوزير اطلاعا على

شيء منها، وهو محب لك غيور على شئونك.»

فقال ركن الدين: «أظنك تعني شوكار. نعم، تكلم، وقد كنت أتوقع أن تكتب إلي بشأنها قبل الآن.»

فخجل سحبان لكنه بادر إلى الاعتذار قائلا: «كان ينبغي أن أفعل ذلك، ولم أتأخر عن إهمال،

لكنني حال وصولي إلى بغداد لقيت شوكار في المكان الذي كانت مخبوءة فيه، وأخبرتني أنها كتبت

إليك، وقد عملت على إنقاذها فلم أوفق إلى ذلك حتى الآن. وما الفائدة من الكتابة بلا عمل؟

والوزير يعلم بما وقف في طريقنا من العراقيل.»

فقال: «والخلاصة أين هي الآن؟» قال: «هي في قصر الخليفة منذ أيام.» قال: «وأين كانت قبل

ذلك؟ ومن خطفها؟» قال: «كانت عند أبي بكر بن المستعصم، وأبوه لا يعلم أنها عنده، وأخذ يبحث

عنها. ثم تمكنا من اختطافها من بيت أبي بكر وأخفيناها في منزلنا، وهممت أن أفر بها إليك، فعلم بها ذلك الغلام وأخذها منا بقوة الجند. ثم علم أبوه أنها عنده فأخذها إليه، ولذلك حديث

طويل يهمك منه أن شوكار لا تزال كما عرفتها في مصر تبذل نفسها في سبيل رضاك، ولا تفضل

مكانا في الدنيا على قربك. ولا شك أنها في بيت الخليفة رغم إرادتها. ولا بد من أخذها.

تمهل، إننا في مشكلة شائكة ستقلب بغداد رأسا على عقب، وسيصل دويها إلى مصر والأندلس وكل

أنحاء العالم، وسيكون لها شأن عظيم، وإنما يستفيد منها العاقل الحازم.»

فخاف الوزير بعد هذه المقدمة أن يبوح سحبان بما حدث من المساعي وهو يحب كتمانه، فتصدى

لمخاطبة ركن الدين قائلا: «لا تعجب أيها الأمير من اضطراب حالنا، فخليفتنا مشغول باستجلاب

المغنيات من أقاصي المملكة، عن الاهتمام بأمور الدولة والعدو على الأبواب لا يلبث أن

يأتينا، وجندنا في اختلال و...»

فقطع ركن الدين كلامه قائلا: «سمعت وأنا قرب بغداد أن هولاكو التتري زاحف بجند كثيف على

هذا البلد ، وأنه الآن على مقربة منها. ألم تستعدوا له؟»

فهز الوزير رأسه وقال: «كيف لا؟ بلغنا منذ أيام أن حملة من جند هولاكو وصلت إلى تكريت

بقيادة باجو، وعبرت دجلة إلى البر الغربي، ونزلت تتطلب بغداد، وقد اختلفت آراؤنا في طرق

الدفاع، ولم يستقر الرأي إلا بعد أن وصل جند التتر إلى دجيل وعددهم نحو 30000 فارس، فأمر

الخليفة بإرسال عسكره لدفعهم بقيادة مجاهد الدين أيبك الداودار، ولكن عسكرنا قليل العدد

والعدة، ولا ندري ما تكون النتيجة. على أني أخاف سوء العقبى لأننا غير متفقين في رأي،

وخليفتنا ضعيف مستسلم لابنه وقائد جنده، وكلاهما على غير خبرة، ونخاف أن يكون الله قد أراد

انقضاء هذه الدولة و...»

فتصدى سحبان قائلا: «لا تخف، بل توسل إلى الله أن تنقضي هذه المحنة، وهذا الأمير ركن

الدين لا يخفى عليه شيء من أمرنا، وقد حادثته وأنا في مصر عن استرجاع خلافة الفاطميين.»

فاستاء مؤيد الدين من اندفاع سحبان في إبداء آرائه وقال: «لا أظن الأمير وافقك على ذلك، ونحن يكفينا الآن أن نبدل خليفة بآخر كما سبق الكلام.»

فاستحسن ركن الدين اعتدال ابن العلقمي في رأيه فقال: «هذا هو القول المعقول، وهو هين

ميسور لمن يبذل المال بدون حرب. وأنا أضمن لكم ذلك متى رجعت إلى مصر وتم الاتفاق بيننا على

رأي نرضاه.» وهو يضمر أن يجعل أمر إبدال الخليفة مرتبطا بصيرورة سلطنة مصر إليه؛ أي إنه

يشترط على الخليفة الجديد قبل توليته أن يساعده في التسلط على مصر.

وأدرك مؤيد الدين غرضه فاستحسنه وندم على رسالته إلى هولاكو وتعريض الخلافة للتتر، لكنه

ما زال يعتقد أن هولاكو لا يزيد على أن يخلع الخليفة المستعصم ويطلب سواه وهم يدلونه على الإمام

أحمد فقال: «سننظر في ذلك ونرجو أن يعود بالخير.»

فعاد ركن الدين إلى الحديث عن شوكار وخبرها ووجه خطابه إلى سحبان وقال: «والآن ماذا تفعل

شوكار؟ قل لي، فقد تركت بلدي وقومي وهم في حاجة إلي وجئت إلى هذه الديار من أجلها، فهل

أعود دون أن آخذها معي؟ هذا لا يمكن.»

فقال سحبان: «لا بد من أخذها، وقد قلت لك إن ذلك ميسور لما نرجو حدوثه من الانقلاب، ومع

ذلك فإن الخصي عابدا الذي حمل إليك رسالة شوكار وحملته جوابك إليها مقيم عندي منذ أخذوا

شوكار منا، وقد أوصيته أن يتتبع أخبارها. وكان قد جاءني منذ يومين بخبر لم أصدقه لبعده.»

فقال ركن الدين بلهفة: «وما هو؟» قال: «أنبأني أن شوكار خرجت من قصر التاج، على أنها لو

خرجت لجاءت إلينا، وقد أوصيته بالأمس أن يبذل جهده ويدقق البحث ويعود بالخبر الصحيح.»

فقال: «أين هو الآن؟» قال: «أظنه عاد إلى منزلنا في الكاظمية أو يعود الليلة. هل تريد

الذهاب الآن للبحث عنه؟» قال: «نعم، هلم بنا، ومتى فرغنا من أمر شوكار عدنا إلى أمر

الخلافة، أو لعل الأمرين يتمان معا.» قال ذلك ووقف واستأذن في الانصراف، ثم ودع الوزير

وخرج معه سحبان. •••

كان ركن الدين قد عرف بغداد في صباه، فلما جاءها هذه المرة وجد فيها تغيرا كثيرا. ومشى

هو وسحبان في طريقهما إلى الكاظمية، وهي على مسافة بعيدة من قصر الوزير، فعبرا الجسر حتى

صارا في الجانب الغربي من بغداد؛ حيث كانت البلدة التي بناها المنصور منذ خمسمائة سنة ونيف

ولم يبق منها إلا آثار قد عفتها الأيام، وأقيم في مكانها الأسواق. وبينما هما سائران وركن

الدين يتأمل فيما يمران به من الأبنية، رأيا جماعة من العامة يركضون نحو الجسر وهم في خوف

شديد، وعرف سحبان رجلا منهم فناداه إليه، فجاءه وقد غطى الوحل قدميه إلى ركبتيه، فسأله

سحبان عن سبب هذا الركض فقال: «التتر يا سيدي، التتر!»

فقال: «ماذا تعني؟ أين هم؟» قال وهو يرتعد: «هم هنا، هنا في بغداد.»

فصاح فيه: «في بغداد؟ وأين جندنا؟ ذهبوا لمحاربتهم عند دجيل؟! أين الداودار؟ ما بالكم؟

تكلم.»

قال: «إن هؤلاء التتر من الجان، لا يقدر أحد أن يقف في طريقهم. كنت قرب دجيل يوم وصولهم

إليه، وما ذاع أن التتر قد أقبلوا حتى ذعر الناس وهربوا قاصدين المدينة بأولادهم ونسائهم في

حالة يرثى لها، حتى كان الرجل يقذف بنفسه في الماء خوفا منهم، وقد رأيت ملاحا لم يرض أن

يعبر برجل في سفينته من جانب إلى جانب إلا إذا أعطاه عدة دنانير، ورأيت امرأة دفعت للملاح

سوارها ليعبر بها إلى الضفة الأخرى، ثم قالوا لنا إن جند الخليفة جاء لمحاربة أولئك

العفاريت فسكن روعنا، لكننا ما لبثنا أن رأينا جندنا يتقهقر مدحورا أمام التتر، والتتر

يطاردونهم ويمعنون فيهم قتلا وأسرا. وأعانهم على ذلك ما حفروه في الليل من خندق وصلوه

بالنهر، فكثرت الوحول في طريق المنهزمين، ولم ينج إلا من رمى نفسه في الماء وأنا منهم ...»

قال ذلك وأشار إلى الوحل على قدميه وهو يلهث.

وكان ركن الدين يسمع ذلك وشرر الغضب يتطاير من عينيه، فقال سحبان للرجل: «والداودار، أين

هو؟»

قال: «رجع مع بقية الجند مدحورين مكسورين؛ ولذلك انكسرت قلوبنا. نعوذ بالله من التتر! يا

لطيف!»

فقال: «وكيف رأيت هؤلاء القوم؟»

قال: «رأيتهم من الأبالسة يا سيدي، لا يمكن لجندنا أن يقف أمامهم، وإذا وقفوا أكلوهم

أكلا. أعوذ بالله! لم أر مثل هؤلاء الناس. لا، لا لم أر مثلهم عمري. اذهب يا سيدي من

الطريق؛ لأني أظنهم الآن على مقربة من بغداد، أو لعلهم دخلوها. وبلغني أن فريقا منهم نزل

عند المارستان العضدي، وفريقا آخر وصل إلى المبقلة تجاه الرصافة، ولم يبق بينهم وبين قصور

الخلفاء إلا دجلة. سر يا سيدي، لا تعرض نفسك للسهام المتساقطة؛ فسهامهم تتساقط كالمطر. لا، لا، لم أر مثل هؤلاء الناس قط.» قال ذلك وجرى مسرعا.

فالتفت سحبان إلى ركن الدين فرآه يهتز من الغضب، وقد احمرت عيناه وقطب حاجبيه، وود لو أن

فرسه تحته ليهجم على التتر، فقال له سحبان: «ما بال سيدي الأمير؟» قال: «ويلك يا سحبان!

أهكذا يكون رجال الخلفاء؟ يهربون من وجوه التتر المتوحشين حتى يدخلوا دارهم؟ كم أتمنى أن

يكون فرسي تحتي أو يكون رجالي معي لأريهم كيف يكون القتال !»

فضحك سحبان وأمسك بذراع ركن الدين وتحول به إلى زقاق ضيق ومشى وهو يقول: «إن إظهار

البسالة لا يفيد؛ لأنها ضائعة لا مولاي. إن القوم ماتت نفوسهم وذهبت دولتهم، وكفى ما

ارتكبوه من المظالم، ولو أراد الله نصرهم لأنار بصائرهم وهداهم الطريق الصواب، لكنهم

يتخبطون في أعمالهم تخبط الأعمى، ولا يعلمون. دعهم إن الله أقدر منا على نصرتهم إذا شاء.»

وبينما هما في ذلك إذ رأيا سهما وقع أمامهما ذا شكل خاص لم يعهد سحبان مثله فيما يعرفه

من السهام، فالتقطه وتأمله، فرأى عليه كتابة عربية فقرأها، فإذا هي: «إن الرؤساء العلويين - الشيعة - وكل من لا يقاتلنا، آمنون على أنفسهم وحرمهم وأموالهم.»

فدفع السهم إلى ركن الدين، فلما قرأه قال: «يلوح لي أن العلويين ينصرون التتر.»

قال: «إن العلويين مظلومون يا سيدي. أما كفاهم ما قاسوه من الضيم والعذاب أجيالا؟ فإذا

كانت الغلبة للتتر وأنصفوهم فلا حرج عليهم ولا علينا.» وهز كتفيه هز التنصل من التبعة.

فتحقق ركن الدين أن حماسته للعباسيين لا تجدي نفعا، ولم يبق له من هم إلا أن يعثر على

شوكار ويخرج بها من بغداد ويرجع إلى إمارته ويسعى في نيل السلطنة بمصر. ولا بد له قبل كل شيء

من لقاء عابد الخصي ليسمع منه خبر شوكار.

وجعل سحبان طريقهما في أزقة مهملة لا يتزاحم فيها الناس؛ لئلا يصدمهم الهاربون، حتى أقبل

على المارستان العضدي، فرأيا ضفاف دجلة وما يليها تعج عجيجا بالتتر وخيولهم وخيامهم

وأعلامهم وأسراهم. فوقف سحبان على مرتفع وأومأ إلى ركن الدين أن يأمل أولئك القوم ويميز

بينهم وبين البغداديين، وقال له: «أرأيت التتري وقوة بدنه وخشونة يديه، وكيف هو مشمر عن

ساقيه، وعيناه تكادان تطيران من وجهه. إن بين هؤلاء الناس من قضى أياما وهو ساع على

قدميه لا ينام إلا لماما، ولا يأكل إلا القومز (لبن الخيل) كما كان البدوي في صدر الإسلام

يكتفي بناقته يسافر عليها ويقتان بلبنها ويتفيأ ظلها ويستأنس بها. هكذا هؤلاء التتر مع

أفراسهم. وقد يعدو التتري فيسبق فرسه؛ فأين ذلك من جند بغداد وقد ألفوا الراحة والرخاء، كما

كان الروم في صدر الإسلام؟ هل نستطيع يا سيدي أن نقاوم القضاء؟ لكل أجل كتاب، والله يفعل

ما يشاء، هلم بنا إلى الكاظمية لنرى عابدا ونسمع خبر شوكار.»

فلم يحر ركن الدين جوابا من الدهشة التي تولته مع ميله إلى معرفة خبر شوكار، فتجاوز

المارستان العضدي والحربية إلى الكاظمية، فاختلف منظر الأهلين في عين ركن الدين عما رآه في

سائر الأحياء. رأى أهل الكاظمية هنا مستبشرين مطمئنين، كأن فوز التتر فوز لهم، أو كان التتر

دولة شيعية جاءت لنصرتهم. وهكذا الإنسان يحب من يأخذ بناصره مهما بعدت الروابط، ويكره من

يسلبه حقه ولو كان أخاه. مرا في أزقة الكاظمية وأهلها فرحون. وحالما رأوا سحبان تقدموا

للسلام عليه وتهنئته، فرد السلام وقد استحيا من التظاهر بالفرح إلى هذا الحد بين يدي ركن

الدين.

وبعد قليل وصلا إلى بيت سحبان فدخلا وقعدا، وسأل سحبان عن عابد فجاءه، وحالما رأى ركن

الدين تناثر الدمع من عينيه وأكب على يده يقبلها، فاستغرب ذلك منه وقال: «ما وراءك يا عابد؟

أين شوكار؟ ماذا جرى لها؟» فتماسك الخصي وقال: «بذلت جهدي يا مولاي في سبيل سيدتي شوكار

كما وعدتك ولم أفارقها لحظة إلا هذه المرة، فإن الجند أخذوها رغم أنفى. لكنني أتعقب أخبارها

كأني معها.»

قال: «وأين هي الآن؟» قال: «آخر ما عرفته عنها أنها في قصر التاج.» فقال ركن الدين: «هذا

عرفته من أخي سحبان، وقد أخبرني أنك ذهبت للبحث عنها أمس، فماذا عرفت؟» فأطرق عابد وقد

أرتج عليه، فصاح ركن الدين فيه: «قل، قل يا عابد ماذا جرى؟» قال: «تنكرت أمس في زي الخدم

حتى دخلت قصر التاج في جملتهم واجتمعت بكثير من أصدقائي الخصيان، واستطلعتهم خبرها فاختلفوا

في الرواية، وفهمت من مجمل أحاديثهم أن شوكار يوم وصولها إلى قصر التاج أصابها صداع شديد،

ولم تقدر أن تغني للخليفة، فباتت تلك الليلة عند صديقة لها من مصر اسمها سلافة.» فلما سمع

ركن الدين اسمها ارتعدت فرائصه وصاح: «سلافة؟ سلافة هنا؟ أين سلافة؟» قال: «نعم يا سيدي،

يقولون إنها كانت قيمة قصور الملك الصالح بمصر، ولها نفوذ عظيم في قصر التاج لصلتها

بقهرمانة القصور وأستاذ الدار، حتى الخليفة نفسه يحترمها.»

فأطرق ركن الدين، وتذكر سعي هذه الجارية في إبعاد شوكار عنه ليخلوا لها الجو معه، وكيف

كانت مقابلته الأخيرة لها، وكيف هددته، مر كل ذلك في ذهنه في لحظة، وقلبه يخفق خوفا من أذى

تلحقه بشوكار، فنظر إلى عابد وقال: «قل، وبعد ذلك ماذا جرى؟»

قال: «واختلفت الرواة فيما جرى بعد تلك الليلة، فقال بعضهم إن سلافة أخذت شوكار إلى قصر

لها قرب باب كلواذي، وقال غيرهم إنها لم تأخذها، بل ظلت مخبأة في قصر التاج، وقال غيرهم غير

ذلك.» وتغيرت سحنته كأنه يخفي شيئا خطر له، ثم قال: «يظن بعضهم أن شوكار اختفت، لكنهم لا

يعلمون أين هي، ولا كيف ضاعت.» فصاح ركن الدين: «لعل سلافة قتلتها؟»

قال: «لا، لا سمح الله. والمشهور عندهم أن سلافة أحب الناس إليها، وهي التي بذلت جهدها في

راحتها، على أنهم لا يعرفون هل هي حية أو ميتة، لكنهم يعرفون أنها كانت تشكو صداعا وأن

سلافة قد احتضنتها ثم نقلتها إلى قصرها للاستشفاء، ولا يعلمون ماذا جرى بعد ذلك، فلعلها

مقيمة عندها إلى الآن بحيث لا يراها أحد.»

في سلطنة مصر، وهو يرجح مصيرها إليه لضعف القائمين بها هناك، وتذكر حاجته إلى مصادقة

الخليفة لتثبيت سلطته، فتمثلت له أهمية بغداد - مركز الخلافة الإسلامية - وكيف أن العالم

الإسلامي على بكرة أبيه في مشارق الأرض ومغاربها لا غنى له عنها؛ فلا يثبت السلطان على عرشه

إن لم يأته تثبيت من خليفة بغداد؛ لما للخلافة في نفوس العامة من الاحترام الديني. ثم نظر في

حال هذه المدينة وخليفتها على ضوء ما علمه في ذلك اليوم، فاستغرب سلطان الأوهام على الناس.

ولكن رجال السيادة لا غنى لهم عن الأوهام ليسوقوا بها العامة إلى حيث يريدون. ولما وصل في

تصوره إلى هنا، أطرق وقد خطر له خاطر رقص له قلبه طربا رغم بعده عن المألوف، ولكن المرء إذا

رغب في أمر أخذ يفكر فيه حتى يرى مستحيله ممكنا؛ خطر له بعد ما شاهده من اضطراب أحوال

بغداد، وما يحدق بها من الخطر، أن ينقل الخلافة منها إلى مصر، فتصير تلك الأهمية إلى مصر

بدلا من بغداد، وتصير القاهرة مركز العالم الإسلامي، لا يستغني عنها أمير أو سلطان، وإن

استقل عنها بإدارة حكومته فهو في حاجة إلى خليفتها في تثبيته. ولو كان المفكر في ذلك سحبان

لرقص فرحا وتصور نفسه قد نقل الخلافة إلى مصر وصار هو سلطانا يخطب رضاه سائر السلاطين،

لكن ركن الدين كان ضعيف الثقة في المستقبل، إذا بدا له أمل في أمر يرغب فيه بحث عن كل ما

يمكن أن يحول دون نيله، وهو أميل إلى تصديق أسباب الفشل. فلما خطر له أمر الخلافة تصور

العراقيل الكثيرة التي تحول دونه، فعاد إلى التفكير في شوكار فهاجت أشجانه.

قضى في هذه الأفكار برهة جاءه في أثنائها عابد يدعوه إلى الطعام مرة وإلى الصلاة مرة

أخرى، وبدل ثيابه حتى دنا الأصيل، فقيل له إن سحبان عاد من عند مؤيد الدين، وبعد قليل جاء

سحبان والاضطراب باد على وجهه، والغضب يتجلى في عينيه، فناداه ركن الدين وقال له: «ما

وراءك؟ هل رأيت الوزير؟» قال: «لم أره.» قال: «ولماذا؟» قال: «لأنه ليس في منزله، وقد

برحه بعد خروجنا من عنده.» قال: «إلى أين؟» قال: «بعثه المستعصم إلى هولاكو، والظاهر أن هذا

الخليفة تحقق الخطر المحدق به، وهو يعتقد دهاء وزيرنا وتعقله فأنفذه إليه ليسترضيه.»

قال: «إلى هذا الحد بلغ الضعف من خليفتكم؟» فابتسم وقال: «ألم أقل لك ذلك من قبل؟ وإرسال

وزيرنا في هذه المهمة أحسن رأي ارتآه المستعصم، لكن أخشى أن يكون قد جاء متأخرا؛ وذلك لأن

هولاكو كان قد اشترط نحو ذلك من قبل للكف عن العداء، وأشار به الوزير على المستعصم، ولكنه لم

يطعه؛ لأنه كان يسيء الظن به ويصدق ابنه أبا بكر، وهو شاب مغرور؛ فالظاهر أن المستعصم لما

رأى جند التتر محاصرا قصوره، وسمع دوي المجانيق ووقوع قنابلها على القصور، ورأى عجز جنده

عن القتال لجأ إلى المسالمة، وقد أحسن لأن وزيرنا - حفظه الله - له دالة على هولاكو، فيشير عليه

بما فيه خير الجانبين.»

فقال ركن الدين: «لم أفهم مرادك من دالة الوزير لدى التتر، وما هو الباعث عليها؟ هل كانت

بينهما معرفة؟»

قال: «لا أخفي عليك يا مولاي أن بين الوزير وهولاكو مخابرة في هذا الشأن، أعني أن هولاكو

خابره وطلب إليه أن يكون معه، ووعده خيرا كثيرا، وظل مؤيد الدين يتردد، وهو ينصح الخليفة

ويخوفه، فلما يئس من إصلاحه خابر هولاكو خوفا من أنه إذا جاء وفتح بغداد ينتقم منه ومن

أهله وسائر الشيعة، أما إذا أظهر موافقته فإنه يراعي جانبه. ولم يفعل ذلك خيانة.»

ففهم ركن الدين من ذلك أن مؤيد الدين خان خليفته، ولو تنصل من ذلك وزعم أنها ليست خيانة. فقال في نفسه لا شك أن هذا من أكبر أدلة السقوط. ولم يبد رأيه في ذلك لكنه سأل سحبان

قائلا: «وما تظن الوزير يفعل الآن إذا اجتمع بهولاكو؟»

قال: «أظنه يتفق معه على خلع المستعصم وتنصيب الإمام أحمد أخي المستنصر، فإنه أجدر بني

العباس بمنصب الخلافة، والمستعصم يخافه؛ ولذلك حبسه في قصره وأقام عليه الرقباء، فهذا

الإمام قد عرفناه واجتمعنا به وخاطبناه في أمر الخلافة إذا صارت إليه، فوعدنا خيرا. ولا شك

أنه يسهل عليك سلطنة مصر ويساعدك عليها، فإنك أولى بها من سائر الأمراء.»

فعلم ركن الدين أن سحبان يرغبه في مظاهرته على المستعصم وفي تنصيب الإمام أحمد خليفة،

لكنه يطمع فيما هو أكثر من ذلك: يطمع في نقل الخلافة إلى القاهرة. غير أنه لم يسمح لنفسه أن

تتمكن منه هذه الخواطر خوفا من فشلها، فاكتفى بموافقة سحبان على تنصيب الإمام أحمد بدلا من

المستعصم وقال: «وأين هو الآن؟»

قال: «كان محبوسا في قصر الفردوس بجوار قصر التاج، ثم أحدقت الشكوك به فنقلوه إلى قصر

عند باب كلواذي وأقاموا الحرس حوله، وأنا عارف مكانه، ومن أسهل الأمور علي إذا تم اتفاقنا

على خلع المستعصم أو قتله أن أخرج الإمام أحمد من محبسه وأنادي به خليفة مكانه، ولا أجد من

يخالفني؛ لأن الناس ملوا ضعف السياسة، ولا سيما إذا علموا أن هذا التبديل كان بإرادة الخاقان

هولاكو قائد التتر. وكيف ترى يا سيدي؟»

قال: «أراك مصيبا، ونعم الرأي رأيك، وفقك الله إلى إتمامه.» لكنه حالما سمع اسم باب

كلواذي تذكر ما سمعه من عابد عن سلافة وأنها أخذت شوكار إلى قصرها قرب هذا الباب، وعادت

إليه هواجسه وعاد يفكر في شوكار: أحية هي أم ميتة، وهل سلافة لا تزال على كرهها لها. فالتفت

إلى سحبان وسأله قائلا: «سمعتك تذكر باب كلواذي ومحبس الإمام أحمد عنده، وأمس سمعت عابدا

الخصي يذكر هذا الباب وأن قصر سلافة عنده، فكيف ذلك؟»

قال: «إن كلواذي يا سيدي حي فيه باب من أبواب سور بغداد، سمي باب كلواذي، وبقربه قصور

كثيرة كما تقولون في مصر باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، فقد أصبحت أسماء أحياء فيها قصور

عديدة.»

وقضيا بقية اليوم وكلاهما يفكر في أمره، وأكبر هم ركن الدين الوصول إلى شوكار ومعرفة

حالها وإنقاذها أو الانتقام لها، وبات وهو يحلم بها. •••

وأصبح ركن الدين في اليوم التالي وقد مل الانتظار، لكنه توسم في بقائه هناك خيرا ينفعه

في مطامعه السياسية، على أنه كلما فكر في شوكار خفق قلبه ورأى أنه أساء إليها لأن ما أصابها

من الأذى إنما كان بسببه. وبينما هو في ذلك إذ جاءه عابد وفي وجهه خبر، فقال له: «ما وراءك؟»

قال: «بالباب رسول من سلافة معه كتاب إليك.»

فلما سمع اسمها اقشعر بدنه وقال: «ليدخل.»

فدخل الغلام ودفع الكتاب إلى ركن الدين وتناوله فإذا فيه: «من سلافة إلى الأمير ركن

الدين. علمت أنك في بغداد وأنا فيها، وعندي أمر يهمك أحب عرضه عليك، فإذا شئت تفضلت بالمجيء

إلى قصري بباب كلواذي، وهذا رسولي يهديك إليه ، والسلام.»

فلما قرأ الكتاب دفعه إلى سحبان ليرى رأيه فيه، فحذره من الذهاب، فقال ركن الدين: «لا بد من

الذهاب لأرى هذه الداهية وأتحقق أمر شوكار، وماذا عساها أن تفعل بي. عار علي أن أخافها

وخنجري معي. لكن أين موقع قصرها من هنا؟»

قال: «هو بعيد، لا بد للذهاب إليه من المسير مسافة طويلة ثم عبور دجلة فوق الجسر الذي جئنا

منه. إذا شئت المسير فهذا فرسي بين يديك، وهذا عابد يسير في ركابك فضلا عن الرسول القادم

من عندها.»

فوقف ركن الدين وقال: «أذهب الساعة» وتحول إلى غرفة منامه وأصلح هندامه وتسلح بخنجرين

وتشدد، ثم خرج وركب الفرس، وسار عابد في ركابه والرسول يمشي بين يديه. ولحظ في أثناء الطريق

أن أهل الكاظمية فرحون معتزون وقد اشتدت عزيمتهم وهاجت نقمتهم على جيرانهم من أهل السنة

الذين كانوا يعتزون بالخليفة وحكومته. ولما خرج من الكاظمية رأى الناس في خوف شديد يجتمعون

جلوسا أو وقوفا للمداولة في الأحوال الجارية، ويتلقفون الأخبار من أفواه المارة متناقضة

متباينة.

وصل إلى الجسر فعبره إلى الرصافة، فرأى الناس هناك أقل قلقا لقربهم من قصور الخلافة؛ حيث

لا يسمعون غير ما يدعو إلى الثقة بقوة الجند ومناعة الحصون رغم ما كان يتساقط عليها من

حجارة المجانيق حينا بعد آخر، وهي حجارة صوانية كروية الشكل، قطر الواحد منها نصف متر أو

أكثر، يقذفه المنجنيق من معسكر التتر على أبراج السور أو على بعض القصور، وكانت الأسوار

تجيب بمثلها، وهذه هي مدافع تلك الأيام.

وانتهى مسيره أخيرا إلى ضفة دجلة الشرقية، فوقف الرسول والتفت إلى ركن الدين وأشار

بأصبعه إلى قصر على ضفة النهر تحيط به حديقة حولها سور. دخل ذلك السور راكبا، فتقدم الرسول

لإعلان وصوله، وترجل ركن الدين وسلم زمام الفرس إلى عابد وأوصاه أن ينتظر وأن يكون على حذر،

ومشى في الحديقة وقلبه يخفق تطلعا إلى ما يكون من أمر سلافة، وصورتها لا تزال في ذهنه كما

فارقها في المرة الأخيرة. •••

وصل ركن الدين إلى باب القصر فرأى سلافة واقفة في انتظاره وقد لبست أجمل ما عندها من

الحلي والثياب، وبذلت جهدها فيما تملك به قلبه. أما هو فقد كان مدرعا بالتعقل وحب شوكار،

فحياها فردت التحية ورحبت به ترحيبا حسنا، ودعته إلى قاعة مفروشة أحسن فرش فيها النمارق

والستائر والطنافس، وأشارت إليه أن يقعد وهي تقول له وتبتسم: «من كان يظن أننا سنلتقي في

هذا البلد؟»

فقال: «إن المصادفة تأتي بأعجب العجب.»

قالت: «الصدف! هل تظن أننا التقينا هنا صدفة؟»

قال: «نعم؛ لأني لم يخطر لي ببال أنك تجيئين إلى هنا.»

قالت: «هذا يصح عليك وأما أنا ... أنا المسكينة الشقية فيخطر لي كل شيء، وأبذل راحتي وحياتي

في سبيل لقاء ركن الدين. لم تخط خطوة في مصر وغيرها إلا عرفت بها وحسبت لها حسابا.» ثم

تنهدت، فتشاءم ركن الدين من هذه المقدمة، وأراد تغيير الحديث فقال: «أشكرك يا سيدتي على حسن

ظنك بي. وصل إلي كتابك فجئت، لكنني أسألك سؤالا أرجو الجواب عنه.»

قالت: «قل ما تريد.»

قال: «علمت أن شوكار جاءت إليك في هذا القصر، فأين هي؟» قال ذلك وهو يخاف أن يسمع خبر موتها أو قتلها، فتجلد وهو ينتظر الجواب، فأبطأت سلافة في

الجواب وهي تنظر إليه نظر الاستغراب ثم قالت: «مسكينة!» فصاح فيها: «مسكينة؟! أين هي؟»

قالت: «ليست هنا، لعلك تذكر أني كنت ناقمة عليها، وقد قلت لك إني أحببت إبعادها رغبة في

قربك، لكنني شعرت هذه المرة لما لقيتها في قصر الخليفة، أنها لا تستحق العذاب لسلامة قلبها

وطيب عنصرها ...» وتنهدت وأظهرت سلامة النية وشدة الأسف.

فقال: «قولي ما بالها، أين هي؟ ماذا جرى لها؟» قالت: «قلت لك إنها ليست هنا.» قال: «فهمت

أنها ليست هنا، فأين هي؟»

فنظرت إليه نظرة العاتب وقالت: «لله أنت! ما أكثر تسرعك! أتطمع في الملك وتوشك أن تناله،

ولا تستطيع أن تصبر على سماع حديث قصير عن جارية؟! اسمع لأقص عليك خبر هذه المسكينة: رأيتها

في أول يوم جاءت فيه إلى قصر التاج، وسررت بها، وقد ملأت قلبي، وندمت على ما فرط مني في

حقها، واستأنست هي بي وقصت على حديثها معك وأنها لا تود البقاء بعيدة عنك ولو كان مقامها

بقصر الخليفة، فأشرت عليها أن تحتال بالمرض، ولما لي من النفوذ في دار النساء وعند الخليفة

تمكنت من إقناعهم بأنها مريضة وأنها في حاجة إلى تبديل الهواء، وفي اليوم التالي انتقلت أنا

إلى هذا القصر وبعثت من يأتي بها إلي ولبثت في انتظار قدومها.» وسكتت وأظهرت أنها غصت

بريقها، فقال ركن الدين: «وبعد ذلك هل أتت؟» قالت: «لا، لم تأت.» فصاح قائلا: «إذن ماتت

أو قتلت؟»

قالت: «احسب كما تشاء. إنها ماتت وانتهى أمرها.»

فنهض وقد ثارت شجونه وقال: «لا. إنها لم تمت، إنك خبأتها في مكان.»

فضحكت وهي تنظر إليه باستخفاف وقالت: «بل ماتت يا ركن الدين، ويسوءني أنها ماتت، وقد

أخبرني البحارة الذين حملوها إلي في القارب أنها غاصت في الماء رغم إرادتهم، ارجع يا ركن

الدين إلى رشدك واستسلم لقضاء الله، ولا تعمل عمل النساء وتبكي على جارية، وبين يديك سلافة

تعرض عليك نفسها، وهي فوق ذلك تعرض عليك منصبا لم يحلم به أحد من سلاطين مصر.»

فرجح له موت شوكار، وكان في ريب من سبب موتها، وإن كان يرجح أن سلافة سعت فيه برغم تنصلها

منه وإظهارها الميل إليها. فأسف أسفا شديدا وود أن يقتل سلافة، لكنه لم يتحقق أنها هي

القاتلة. ومع ذلك أراد أن يعرف ما هو المنصب الذي تعرضه عليه، فرأى من الحكمة أن يسمع حديثها

إلى آخره فقال: «مسكينة شوكار وا أسفاه عليها!»

فقالت هي: «مسكينة، لقد شق - والله - علي موتها، ولكن ما الحيلة؟ لا بد لنا من التسليم للقضاء

والقدر. والآن ألا تريد أن أخبرك بما انتدبتك له؟» قال: «وما هو؟» قالت: «لنجلس

ولنتحادث.» ومشت به إلى القاعة فقعدت، وقد سرها أنه أطاعها وأصغى لها، وبان البشر في

محياها، وقالت: «لعلك عالم بالاضطراب المستحوذ على الدولة بسبب محاصرة التتر، وهذا هولاكو

عند برج العجمي ، ولم يصل إلى هنا إلا لضعف رأي الداودار قائد الجند. وقد غضب مولانا أمير

المؤمنين عليه وأراد إبداله، وحادثني أستاذ الدار فيمن يليق بهذا المنصب ويرجى منه أن يرد

شرف الجند العباسي ويدفع العدو عن أسوار بغداد، فلم يخطر ببالي سواك، وإن كنت لا تبرح بالي

في أي وقت.» ثم ابتسمت وقالت: «ليس هناك من يستطيع أن ينقذ الدولة من هذا الضيق سواك، وأنت

إذا صرت قائد جند بغداد، هان عليك أن تكون كما تشاء، وأنا أضمن لك سلطنة مصر أو غيرها كما

تريد. إني أحبك وأتفانى في الحصول عليك، وأحب أن تقول لي إنك تحبني، أو على الأقل لا تحب

سواي.» قالت ذلك بلحن الغرام.

فأطرق هنيهة واستجمع قواه، وأطرق يفكر فأصحاب المطامع طلاب منفعة قبل كل شيء. إنه أحب شوكار

في بادئ الأمر شفقة عليها، ثم أحبها حقيقة بعد ما قاسته بسببه من الشقاء، وكان يود أن

يجعلها سعيدة، أما الآن وقد ماتت فليس من الرجولة أن يموت في أثرها، وإن كان موتها قد شق

عليه كثيرا، ولم يطاوعه قلبه أن يحب التي كانت تبغضها وكانت سبب موتها. لكن ذلك لا يمنع أن

ينظر فيما تعرضه عليه، لعل فيه ما يبلغه الأماني التي طالما تاقت نفسه إليها وحلم بها. وقد

تأكد من قرائن كثيرة أن سلافة ذات نفوذ لدى الخليفة وأهله وحكومته، فخطر له أنها قد تفيده

في مطامعه، فأراد مسايرتها مع حفظ مقامه، فقال: «لا أرى في الكفاءة لهذا المنصب يا سيدتي،

ولا أشعر من نفسي بميل للتكلم في المناصب الآن. سننظر في ذلك في فرصة أخرى.»

فقالت: «هذا أمر لا يمكن تأجيله؛ لأن الدولة في حرب، وهذه قنابل المجانيق تصل إلى قصورنا

صباح مساء، وأما كفاءتك فأنا أعلم الناس بها. لم يبق إلا أنه يشق عليك يا قاسي القلب أن

تعترف بحبي لك! فكيف لو طلبت إليك أن تعترف بحبك لي؟ يا لله ما أقسى قلبك! اسمع، هذا أستاذ

الدار قادم إلي لأني أسمع صوته بالباب يخاطب الحاجب. إنه أت ليرى هل أقنعتك بقبول القيادة، فبالله لا تخجلني بين يديه. أما اعترافك بحبك لي، فأتركه إلى ما بعد نيلك هذا المنصب وغيره

مما ستراه مني.»

ثم دخل الخادم يستأذن لأستاذ الدار، فخفت إلى الباب لاستقباله، وأخذت ترحب به لما تعلمه من

نفوذه لدى الخليفة، ثم دخلت به إلى القاعة وأشارت إلى ركن الدين وقالت: «هذا هو الأمير ركن

الدين البندقداري الذي قهر الإفرنج وأرجعهم عن مصر. وقد ذكرت لك عنه ما يكفي. وأنا أباحثه

الآن فيما انتدبتني له.»

فنظر أستاذ الدار إليه وهش له، وقد أعجبه ما في طلعته من أدلة الشجاعة والذكاء وقال: «يسرنا أن يكون في الأمير ركن الدين ما يرضي مولانا أمير المؤمنين ويكشف عنا العار الذي

سببه الداودار السابق بسوء تدبيره. هل تريد أن نذهب معا إلى قصر التاج الساعة؟»

فأراد ركن الدين أن يعتذر من عجزه، فرأى أستاذ الدار ذلك تواضعا وقال: «لا، لا نقبل منك

عذرا، هلم معي إلى أمير المؤمنين.» قال ذلك ومشى، فالتفتت سلافة إلى ركن الدين لفتة هيام،

وأمسكت يده بحجة الوداع وضغطت عليها وهي تقول: «سرني النجاح في هذه المهمة، وعسى أن تفوز

بإنقاذ الدولة من الخطر. وأما أنا، فإذا مت بعد هذا فحسبي أنك أطعتني في شيء عرضته عليك، وإن

لم يكن فيه غير لوعتي وآلامي. وإذا التقينا بعد الآن كان لنا شأن آخر.»

ولكنه لم يزد أن حياها مودعا، وانصرف في أثر أستاذ الدار، فركب كل منهما فرسه، ومشى عابد

في ركاب ركن الدين إلى قصر التاج.

سار ركن الدين وهو غارق في تفكيره على أثر ما شاهده من سلافة وهو لا يفهم حقيقة حالها.

على أنه فعل ما يفعله الرجل العاقل البصير. ولم يلم نفسه لسكوته عن الانتقام لشوكار؛ لأنه

لم يحقق مصيرها وهل تعمدت سلافة أذاها، وإن كان ميالا إلى اتهامها بناء على سابق عهده بها.

لكنها شغلته بأمر ذلك المنصب، ثم جاء أستاذ الدار فلم يسعه إلا السير معه إلى الخليفة ، وفي

نفسه أن هذا كله لا يمنع من انتقامه لشوكار عند الوثوق من صحة القتل.

قطع مسافة الطريق وهو لا ينتبه لرفيقه الراكب إلى جانبه، ولا إلى اشتغال القوم بأخبار

التتر، ولا سمع وقع قنابل المجانيق على المنازل؛ فقد كان ذلك بعيدا عن طريقهم لا يسمعه إلا

المنصت. ولكنه حالما وصل إلى قصر التاج وجد أهله في هرج واضطراب لكثرة ما تساقط حوله من

حجارة المجانيق أو النبال المرمية عن الآلات. ووجه التفاته إلى أستاذ الدار ليقلده فيما

يفعله من الرسوم المعتادة، فلما رآه ترجل عن دابته ترجل هو أيضا وسار في أثره حتى أقبلا

على باب مجلس العامة، فلاقاهما الحاجب، فأمره أستاذ الدار بالاستئذان له. وما عتم أن جاء

الإذن فدخل والأمير ركن الدين يتبعه.

فألقى الأستاذ التحية على جاري العادة ثم قال: «يأذن لي مولاي أمير المؤمنين أن أقدم له

الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وكنت قد ذكرت اسمه لمولاي، وأنه خير من يقوم بقيادة جند

بغداد في هذا الوقت العصيب، وقد اشتهر بمهارته في الحرب وتدبير الجند، كما شهدت به سلافة

القهرمانة.»

وكان الخليفة في تلك الساعة مطرقا يفكر، وليس في مجلسه أحد، كأنه التمس الانفراد

للتفكير، فلما سمع قول أستاذ الدار قال: «مرحبا بالأمير ركن الدين.» وأشار إليه أن يقعد

وقال له: «أصحيح ما يقوله أستاذ دارنا؟!»

قال: «ربما أثبت حسن ظنه ما مضى، أما الآن فلا أراني كفؤا لهذه المهمة لأني من أصغر

القواد.»

فأعجب الخليفة بتواضعه فقال: «بل أنت قائد باسل، وكلام القهرمانة سلافة مصدق عندي، ونحن

الآن في حرب مع عدو غريب هو عدو كل مسلم؛ لأنه إذا فاز - لا سمح الله - في حربه معنا لا تنجو

مصر من أذاه، فأنت مطالب بقهره للدفاع عن الخلافة ببغداد وعن السلطنة بمصر، وأنت فاعل إن

شاء الله. ولو عرفت فضلك من قبل لما سلمت قيادة جنودنا إلى الداودار الذي ألبسنا العار،

فعسى أن تكون الوسيلة لمحو هذا العار عن جيش بغداد.» قال ذلك وتنحنح وأظهر أنه لم يكمل

حديثه بعد، فظل ركن الدين ساكتا.

ثم عاد الخليفة إلى الكلام قائلا: «أظننا أخطأنا لأننا لم نصغ إلى رأي وزيرنا مؤيد الدين

من أول الأمر، فلو أطعناه لما اضطررنا إلى إنفاذه الآن لطلب الصلح وتأجيل الحرب، ولا ندري

إذا كان طلبنا يجاب. ولكن سامح الله أبا بكر أنه تعدى حقوق الأبناء وكدر قلبي على الوزير،

فالآن انظر أيها الأمير، إني جاعل إمارة جند بغداد إليك، فإذا دفعت العدو كافأناك بما أنت

أهله.»

فأجاب ركن الدين: «إن الدفاع عن دار السلام وأمير المؤمنين فرض على كل مسلم، وإني باذل

روحي في هذا السبيل، وعسى أن يوفقني الله إلى القيام بحق الخدمة.» •••

وبينما هم في ذلك إذ دخل الحاجب وقال: «إن الوزير مؤيد الدين بالباب.» فأشرق وجه الخليفة

وبان التطلع في عينيه. وحالما دخل مؤيد الدين لم يصبر المستعصم عليه حتى يلقي التحية فصاح

به: «قل ماذا جرى؟» قال: «كل خير يا سيدي. والتوفيق من عند الله.»

قال: «اقعد وحدثنا بما جرى.»

فقعد والعرق يتصبب من جبينه وأخذ في الحديث، فقال: «لقيت هولاكو خاقان التتر، وبينت له

جرم اعتدائه علينا بلا حق، وأننا لا نخافه، لكنا نحب حقن الدماء، فأجابني جوابا غليظا.

وبعد جدال طويل لم يقبل الكف عن الحرب إلا إذا ذهب مولانا أمير المؤمنين بنفسه إلى معسكره،

وتعهد بالمحافظة على مقام مولانا والإبقاء على خلافته كما فعل بمن حاربهم من الملوك. وقد

قال لي إنه لا يهمه تغيير الملوك والخلفاء وإنما يهمه ألا يهان جنده. وهو يعد رفض مولانا

أمير المؤمنين نجدته على الإسماعيلية إهانة؛ لأنه كان يريد بذلك قطع دابر أولئك الأقوام

لينجو العالم منهم. ثم حارب القوم وحده وغلبهم وبعث إلى مولاي يعاتبه فلم يرد عليه. وكنت قد

أشرت على سيدي أن يبعث إليه هدية فمنعه بعض خاصته من ذلك. وبعث إلينا هولاكو أنه لم يعد

يقبل هدية ولا يرضى إلا أن يذهب إليه الوزير أو الداودار فلم نفعل، فعد ذلك إهانة مكررة لا

يقبل ترضية عليها إلا أن يركب مولانا أمير المؤمنين إليه، ويكون هناك معززا مكرما مع رجال

خاصته. وقد أخبرني أننا إذا أطعناه في ذلك فهو عازم على أن يزوج ابنته من مولانا الأمير أبي

بكر.»

وكان الوزير يتكلم والعرق يتصبب من جبينه خجلا من حمل هذه الرسالة إلى الخليفة. والخليفة

مطرق يسمع ولا يتكلم ولا يبدي حركة، وكذلك كان ركن الدين، فلما فرغ مؤيد الدين من كلامه رفع

المستعصم رأسه وتنهد وقال: «إنه لعزيز على نفسي أن أذهب إلى هذا التتري، وإني لأرجو أن نفوز

عليه ونرده عن بلدنا بعد أن عهدنا بقيادة الجند إلى الأمير ركن الدين ...» ولبث ينتظر جوابه.

فقال الوزير: «إن الأمير ركن الدين أهل لثقة أمير المؤمنين، وقد يأتي النصر على يده.

لكنني أخاف أن يكون جندنا أضعف مما نظن ولا يبقى باب للصلح، وقد عرض علينا القوم صلحا تحقن

به الدماء، ومع ذلك فالأمر لمولاي.»

فقال الخليفة: «لكن هذا الطاغية يطلب أن أذهب أنا بنفسي إلى معسكره!»

قال: «كلا يا مولاي قد رضي أن يركب مولاي بأعوانه ورجال خاصته إلى فسطاط ننصبه لهم عند

باب كلواذي مما يحاذي الشاطئ فيلاقيه هولاكو هناك وينقضي الأمر.»

فهان عليه القبول بعد هذا التسهيل، لكنه التفت إلى أستاذ الدار واستشاره في الأمر، فأشار

بالقبول؛ لأنه رأى الخليفة مائلا إلى السلم؛ ذلك كان دأبه إذا استشاره الخليفة فيجعل نصب

عينيه أن يرضي إحساس مولاه؛ فإذا رآه مائلا إلى رأي أشار عليه به، شأن المتملقين المتزلفين

في كل زمان ومكان. وهؤلاء إذا كان الأمير أو الخليفة عاقلا نبذهم، وإذا كان ضعيفا أصبحوا

من المقربين إليه فيفسدون حكومته ويعينون على سقوط دولته.

فاستقر رأي الخليفة على إجابة هولاكو إلى طلبه، والتفت إلى ركن الدين وقال: «قد سمعت ما

أشار به وزيرنا، وقد طالما خالفناه ولم نر في مخالفته خيرا، أما الآن فالرأي أن نطيعه.

وعلى كل حال فإننا نعد الأمير ركن الدين من كبار قوادنا، وعسى أن نوفق إلى مكافأته .» والتفت

إلى الوزير وقال: «متى نصب الفسطاط ذهبنا إليه.»

فأشار الوزير مطيعا واستأذن في الانصراف وانفض المجلس. وأومأ الوزير إلى ركن الدين أن

يوافيه إلى منزله.

فخرج ركن الدين وهو غارق في الهواجس، وقد ساءه تنازل الخليفة إلى هذا الحد. لكنه ركب إلى

بيت مؤيد الدين - وعابد يرشده - ليستفهم عن الحقيقة، فلما وصل إليه رأى مؤيد الدين قد سبقه

ورأى سحبان عنده، وكان قد جاء للاستطلاع بعد علمه بخروج الوزير إلى هولاكو.

الفصل الثاني عشر

نهاية الدولة العباسية

دخل ركن الدين فوجد الوزير يذرع غرفته ذهابا وإيابا وقد قطب حاجبيه وأخذ منه التأثر

مأخذا عظيما، وسحبان قاعد ينتظر التفاته إليه. فلما دخل ركن الدين أومأ إليه مؤيد الدين

أن يقعد فقعد، ثم وقف أمامه وقال: «أيها الأمير، قد قضي الأمر.»

فتصدى سحبان للكلام قائلا: «وكيف قضي؟»

فالتفت إليه وقال: «قضي كما تريد أنت لا كما أريد أنا ولا كما يريد الأمير ركن الدين.»

فقال ركن الدين: «أفصح يا مولاي.»

قال: «لم أقدر أن أقنع هولاكو باستبقاء الخلافة العباسية؛ إنه مصمم على إبادتها.»

فصاح ركن الدين: «إبادتها! تريد أن يقتل كل بني العباس؟»

قال: «هكذا ظهر لي من مغزى كلامه، وإن لم يصرح بذلك.»

والتفت إلى سحبان فرآه يضحك فانتهره قائلا: «أنت تضحك لأنك لا تنظر إلى العواقب، إذا

محيت الدولة العباسية ذهب الإسلام من هذه الديار.»

فقال سحبان: «ولماذا؟ نحن نعيد الخلافة الفاطمية.»

فصاح فيه: «إنك رجل أوهام وأباطيل، إذا كنت ترجو إرجاع الدولة الفاطمية فإنك ترجو المحال

وتطلب إقامة الأموات.» والتفت إلى ركن الدين فرآه ينظر إليه ويراعي حركاته ويوافق على كل

حركة منها بملامحه وعينيه. فلما التفت إليه نظر هذا إلى سحبان وقال: «قد أصاب الوزير بقوله،

إنه رجل عاقل مدبر، وكم سمعتك تذكر أمر الفاطميين، هل سمعت مني موافقة على ذلك؟»

قال: «كنت إذا ذكرتهم سكت.»

قال: «وسكوتي يكفي؟ وإذا كان هذا الطاغية ينوي حقيقة إبادة العباسيين كافة فإنه يحدث

كسرا في الإسلام يعسر جبره.» ووجه كلامه إلى الوزير وقال : «لكنك قلت للخليفة إن هولاكو

ينوي استبقاءه.»

قال: «هذا ما قاله لي هولاكو، لكنني لا أصدقه وقد فهمت من خلال كلامه وقرأت في عينيه ما

ذكرته الآن، ويؤيد ذلك أنه أعطاني رايات عليها علامته، وأوصاني أن أنصبها على أبواب المنازل

التي أريد حمايتها من الأذى، أو على الطرق المؤدية إلى منازل الشيعة؛ فإذا رآها رجاله

عرفوها وكفوا عن الأذى، ألا يدل هذا على عزمه الذي ذكرته لكم؟ وعلى كل حال لا بأس من

الاحتياط للمخاطر.» قال ذلك وتحول إلى ناحية من الغرفة أخرج منها راية صفراء عليها صورة

خنجر أحمر ودفعها إلى ركن الدين وقال: «خذ هذه لعلك تحتاج إليها.» ودفع رايات أخرى إلى

سحبان وقال له: «خذ هذه الرايات اغرسها في مداخل أحياء قومنا في الكرخ والكاظمية، افعل ذلك

بلباقة لئلا يشعر بك أحد.»

فتناول ركن الدين رايته وخبأها تحت ثيابه، وقد شق عليه الالتجاء إلى هذه الخرقة للنجاة من

السيف وهو قائد باسل تعود دفع الأذى عن نفسه وقومه بالسيف البتار. لكنه كان داهية يلبس لكل

حال لبوسها.

أما سحبان فإنه مكث بعد ما سمعه من الانتهار الصريح صامتا وقد استولى اليأس عليه، لكنه

ما لبث أن رضي بما وقع ورأى ذلك فوزا عظيما للشيعة، ونظر إلى ركن الدين وسأله عما فعله

عند سلافة، فاختصر هذا الجواب لأنه شعر أنه بين يدي أمر مهم ينبغي له أن يسرع في تدبره، واستأذن في الانصراف.

خرج ركن الدين مهموما وفكره تائه، فتقدم عابد إليه بالجواد فركبه وهو لا يقصد مكانا

معينا. ثم خطر له أن يتجه إلى منزل سلافة لأنه ما زال يرجو أن تكون شوكار حية، وإذن لا

يليق به الخروج من بغداد قبل أن ينتقم لها. قضى مسافة الطريق وهو يردد ما سمعه من مؤيد

الدين عن عزم هولاكو على إبادة العباسيين، ففكر في الأمر مستوحيا نفع نفسه، كما يفعل كل

إنسان في كل زمان. وليس ما يدور على أقلام الكتاب من أسماء الفضائل الراقية ، كالأريحية

والنجدة والاتحاد والشجاعة والإحسان وغيرها، إلا أسماء مختلفة ترجع إلى معنى واحد وهو «المنفعة الذاتية»؛ فمن أراد أن يستنهض همم جماعة لعمل، فلن يلقى مجيبا إن لم يكن في ذلك

العمل نفع عائد على كل منهم.

فكر ركن الدين في مطامعه الراسخة في قلبه، ومرجعها طلب السلطة في مصر، فرأى لذهاب الخلافة

العباسية علاقة كبيرة بذلك، فأعمل فكرته للاستفادة من تلك الأحوال، وعاده الخاطر الذي كان قد

مر في ذهنه بالأمس؛ وهو أن يجعل مصر قصبة الخلافة العباسية بحيث لا يستغني عنها سلطان ولا

أمير. وارتاحت نفسه إلى هذا الأمر، وتذكر الإمام أحمد وما سمعه عنه من اللياقة لهذا المنصب

وأنه محبوس قرب باب كلواذي. فرأى أن يقابله ويسعى في إنقاذه؛ فإذا فتك هولاكو بسائر بني

العباس احتفظ هو بهذا الإمام، ومتى صار هو سلطانا على مصر جعله خليفة فيها. فلما تصور ذلك

رقص قلبه من الفرح. •••

قطع ركن الدين الطريق إلى باب كلواذي وهو غارق في هذه الهواجس، ولم ينتبه إلا والناس في

ازدحام وهرج عند ذلك الباب وقد أخذوا في نصب الفسطاط للخليفة، فعاد إلى تذكر الخليفة وما

علمه من مصيره، وتذكر الإمام أحمد لعلمه أنه مسجون قرب باب كلواذي، فنادى عابدا فدنا منه، فقال له: «يقولون إن الأمير أحمد عم الخليفة مسجون في قصر بهذه الجهة، فهل تعرف مكانه؟»

قال: «أظنه هذا القصر.» وأشار بأصبعه إلى قصر وراء قصر سلافة.

قال: «هل تعرف أحدا من خدمه أو حرسه؟»

قال: «كلا يا مولاي؛ لأنه نقل إلى هنا من عهد قريب، وإذا شئت أن أبحث في ذلك فعلت، هل تريد

الذهاب إليه الآن؟»

قال: «أريد الآن أن أعود إلى سلافة وأفرغ جهدي في استطلاع خبر شوكار؛ لأني على وشك سفر. كن على استعداد يا عابد، هل تسافر معي إلى مصر؟»

فقال شاكرا: «ذلك حظ كبير لي يا مولاي، ولكن شوكار، هل تذهب بدونها؟»

فأثر سؤاله في نفس ركن الدين تأثيرا شديدا، وكان أولى به أن يسأل نفسه هذا السؤال، فقال

وهو يستمهل الفرس بالمسير: «آه يا عابد! إن سؤالك هذا دلني على غيرتك وصدق خدمتك. صدقت، كيف

نأتي بغداد لأجل شوكار ونرجع بخفي حنين؟ هذا لا يكون. أنا سائر الآن إلى سلافة اللعينة

ولا بد لي من أن أقف على مصير شوكار، وعند ذلك أفعل ما يرضي المروءة والوفاء.»

وكان ركن الدين يسير على جواده الهوينى على ضفة النهر وعابد يماشيه، فوصل الفرس إلى عشب

استطيبه، فوقف ليتناول منه شيئا، فقال عابد: «انظر يا مولاي، لا يليق بي أن أحذرك أو ألفت

نظرك، لكنني أستأذنك في هذا الأمر، بلغني عن سلافة هذه أنها من شر النساء وأدهاهن، حتى إن

الخليفة لا يرد لها طلبا، وأنت ستكون وحيدا في قصرها، فاحذر أن تغدر بك أو تستعين عليك

ببعض الأشقياء خلسة.»

فأثنى ركن الدين على غيرته وقال: «لا تخف علي يا عابد، لكنني أوصيك بالانتظار في الحديقة

قريبا من القصر، فإذا لحظت مكيدة أو شيئا فنبهني بالنداء على الملاحين في هذا النهر؛ أي

اجعل نفسك كأنك تنادي ملاحا أوشك أن يغرق فتحذره من الغرق، وأنا حالما أسمع صوتك أفهم

المراد، وفي كل حال لا تفارق الجواد، وليكن مهيأ للركوب.»

فأجابه مطيعا ودخلا الحديقة، وأسرع الحارس في إبلاغ خبره إلى سلافة، فهرولت لاستقباله وقد

بدلت بثوبها ثوبا أجمل منه، وتلقته بالترحاب ودخلت به إلى القاعة وهي تقول له: «أرجو أن

تكون قد نجحت في مهمتك.» قال: «وأي مهمة؟» قالت: «ألم تذهب في هذا الصباح مع أستاذ الدار

على أن تلقى أمير المؤمنين ليوليك قيادة الجند؟ فهل تم الاتفاق على ذلك؟» قال: «لم يتم شيء

من هذا القبيل، أرى أنه لم يبلغك الاتفاق الذي أبرم بين هولاكو والخليفة.» قالت: «لا. ماذا

جرى؟»

قال: «بعث الخليفة وزيره مؤيد الدين إلى هولاكو للبحث في شأن وقف القتال ولو مؤقتا، فعاد

الوزير ونحن عند الخليفة وأبلغه أنهم اتفقوا مع هولاكو على أن يخرج الخليفة بنفسه إليه

مسترضيا إلى باب كلواذي. وإذا أطللت من هذه النافذة رأيت الفراشين ينصبون الفسطاط الذي

سيأتي المستعصم لملاقاة هولاكو فيه، وهذا الاتفاق يمنع حدوث حرب، ولم تبق حاجة إلى قائد

ريثما نرى ما يكون.»

فلما سمعت كلامه نهضت إلى النافذة وتطلعت، فرأت الفسطاط يوشك أن يتم نصبه، فصفقت ولطمت

خدها وقالت: «ويلاه! وا ذلاه! أمير المؤمنين يخرج من قصره لملاقاة عدوه ليسترضيه؟! قل على

الخلافة وأصحابها السلام ...» قالت ذلك وبان التفكير في عينيها، وركن الدين صابر، فإذا هي تقول

له: «لم يبق لنا وطر في هذا البلد ولا خير في المقام به، هلم بنا. وهذه أموالي وجواهري وكل

ما أملك بين يديك. هلم بنا.» فقال: «إلى أين؟» قالت: «إلى مصر.» قال: «نذهب إلى مصر

وحدنا؟» قالت: «خذ من شئت من الأتباع والأعوان.»

فنظر إليها باهتمام وقال: «وشوكار؟» قالت: «ألم أقل لك عن مصيرها؟» قال: «لا أفهم ما

تقولين. جئت من مصر إلى بغداد للبحث عن شوكار، فلا أرجع بدونها.»

فهزت رأسها هز الاستغراب وابتسمت وقالت بلطف: «ماذا أعمل يا سيدي؟ من أين آتي بشوكار وقد

قلت لك إنها غرقت وأصبحت طعاما للأسماك؟» فأجابها بهدوء: «لا. إنها لم تمت، ولا بد أنها

موجودة في مكان. ابحثي عنها لعلك تجدينها، فإني لا أرجع بدونها.»

فزاد استغرابها وقالت: «ماذا تعني؟ أظنك تمزح.»

قال: «كلا، إني أقول الجد، وقلبي يحدثني بأن شوكار لم تمت.»

فأمسكت بيده وهي تقول: «إذا كنت لم تصدق فتعال لأريك برهانا يقنعك وتتأكد صدق قولي.»

فمشى معها فمرت في دهليز إلى غرفة تشرف على دجلة، وتقدمت إلى خزانة في الحائط فتحتها

واستخرجت صرة أخرجت منها خصلة كبيرة من الشعر وقدمتها إليه، فحالما وقع نظره عليها عرف أنها

شعر شوكار، فاقشعر بدنه وارتعدت فرائصه وصاح: «ما هذا؟»

قالت: «أليس هذا شعر المسكينة المأسوف على شبابها شوكار؟»

قال: «بلى، ومن أين أتاك؟» قالت: «جاءني به الملاحون الذين أرسلتهم إلى قصر التاج

ليأتوني بها إلى هنا لأجل الاستشفاء، فجاءوني بهذا الشعر وقالوا إن السفينة انقلبت بهم في

هذا المكان (وأشارت إلى مكان في الماء تحت القصر ) وأنهم حاولوا إخراجها فأمسكوا بثيابها

وشعرها، فغرفت وتقطع شعرها وظل في أيديهم.»

فأصبح صدر ركن الدين يعلو ويهبط، وهو يغلى كالمرجل من الغيظ، وأطرق يفكر فيما سمعه وأوشك

أن يعتقد اشتراك سلافة في قتل شوكار. وظنت هذه أن يأسه من لقاء شوكار هون عليه الرضا بها، فوضعت يدها على كتفه تلطفا وابتسمت

وهي تقول: «أظنك صدقتني الآن، آه يا ركن الدين لو تعلم منزلتك في الحب عندي! لقد بذلت كل ما

في وسعي لكي أجعلك قائدا عند الخليفة فتكون أعظم قائد في الإسلام. ولا يغضبك أن ذلك لم يتم؛ فإني قد هيأت سلطنة مصر ومهدت لك سبيلها، ولم يبق إلا أن تصل إلى القاهرة فتنالها.»

الفصل الثالث عشر

موت شجرة الدر وعز الدين

وقع لفظ السلطنة على قلب ركن الدين أجمل وقع؛ لأنه أقصى ما يتمناه، فخف غيظه ومال إلى

استطلاع حقيقة ما تقوله سلافة، وظل ساكتا وهي ترعاه بنظرها، فلما رأت سكوته أمسكت بيده ومشت

إلى شرفة في تلك الغرفة تطل على دجلة، وأومأت إليه أن يقعد على وسادة هناك، وقعدت هي بجانبه

والماء يجري بين أيديهما، وركن الدين لا يرى شيئا لعظم ما جاش في خاطره، فقعد قعود المتحفز، وأدركت هي أنه يطلب تفصيل ما ذكرته.

فقالت: «أظنك تحب أن تطلع على تفاصيل خبر سلطنة مصر وما فعلته في سبيل إعدادها لركن

الدين؟ آه لو تشعر يا قاسي القلب بعظم حبي! ولكنك ستشعر متى علمت بما ارتكبته من الأمور

العظام في سبيل مرضاتك.»

وتنحنحت ووضعت ضفيرة الشعر إلى جانبها استعدادا للحديث ثم قالت: «فارقت القاهرة وأنت

تعتقد أن الملك الأشرف سلطان عليها وعز الدين أيبك وصي عليه.»

فهز رأسه أن «نعم».

فضحكت وقالت: «ذهب هؤلاء جميعا وذهبت شجرة الدر معهم.»

قال: «إلى أين؟» قالت: «إلى الموت.» فأجفل وقال: «كيف ماتوا؟ إنك تكذبين.» قالت: «سامحك

الله على هذه التهمة، أنا لا أكذب، إلا إذا كان ذلك في سبيل مرضاتك. نعم قد ارتكبت في هذا

السبيل أفظع من الكذب، ارتكبت القتل والخيانة في سبيل ركن الدين، وهو ما زال يضن علي بكلمة

أو لفتة.» قالت ذلك وغصت بريقها وتلألأ الدمع في عينيها، فتأثر ركن الدين من منظرها لكنه

تجلد ليسمع تتمة الحديث.

فقالت: «إنك تركت عز الدين وصيا على الملك الأشرف، وقد رضي بذلك، وشجرة الدر ساكتة قانعة

بالسلامة، ولو بقي الحال على ذلك لم يبق لركن الدين سبيل إلى نيل السلطة. وهب أنه نالها، فهو

لا يكون سلطانا، بل وصيا، والسلطان من بني أيوب، وأنا أريد أن يكون ركن الدين سلطانا كما

وعدته، أتدري ماذا فعلت؟»

فتطاول لسماع الحديث فقالت: «أظنك تعلم منزلتي عند عز الدين ومقدار انصياعه إلي لأني كنت

السبب في نيله ذلك المنصب بعد خلع شجرة الدر. أنا خلعت شجرة الدر ونصبت عز الدين، وأنا جعلت

القوم يختارون سلطانا أيوبيا، ففعلوا وصار عز الدين وصيا. فعلت ذلك تمهيدا لك يا قاسي

القلب، وقد ذكرت لك عملي هذا ونحن في القاهرة فلم تعبأ بقولي، وأوشكت أن أنقلب عليك وأنتقم

منك، لكن قلبي لم يطاوعني، فظللت على حسن ظني بك، والقيام على خدمتك، فأغريت عز الدين بالملك

الأشرف فألقاه في سجن مظلم سيموت فيه قريبا إن لم يكن قد مات. وقبض عز الدين على السلطنة

بيده ولم ينازعه أحد في ذلك، بقي علي أن أتخلص من عز الدين ليخلو الجو لركن الدين ويكون هو

السلطان، وأنا أعلم أن لعز الدين أعوانا أشداء ولا يسهل قتله، فأغريت به شجرة الدر، وكان

قد تزوج بها، فدسست بواسطة بعض الجواري من أبلغ شجرة الدر أن عز الدين لا يحبها، وأنه عازم

على التزوج بابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وشغلت عز الدين عن زيارتها مدة، فتحققت تلك

الإشاعة، وأنت تعلم غلظ قلب هذه المرأة، فاشتدت غيرتها حتى أغرت بعض الخدم وأوصتهم إذا دخل

عز الدين الحمام أن يقتلوه خنقا، فقتلوه وقالوا إنه أغمي عليه في الحمام فأخرجوه وشاع أنه

مات مصروعا.»

فصاح ركن الدين: «مات عز الدين؟!» قالت : «مات وماتت أيضا شجرة الدر.»

فقال: «وشجرة الدر أيضا ماتت؟! وكيف ذلك؟» قال ذلك وقد غلبته الدهشة.

قالت: «لما توفي عز الدين بايع القوم ابنه نور الدين علي، وكنت قد ربيته، وهو يصغي لقولي،

فلما تولى أنبأته أن شجرة الدر هي التي قتلت أباه، وحرضته على الانتقام له، فأوعز إلى نساء

بيته فأماتوها ضربا بالقباقيب على رأسها، وطرحوا جثتها في خندق القلعة فأكلت الكلاب نصفها

ودفن النصف الباقي في مقابر السيدة نفيسة.»

فبغت ركن الدين لذلك الحديث وقال: «أكنت أنت السبب في ذلك كله؟!»

قالت: «نعم، أنا السبب في ذلك، وقد ارتكبت هذه الأمور في سبيل مرضاتك، فأنت إذا نزلت مصر

الآن لا تجد من يقاومك، وهذا نور الدين علي في قبضة يدي، إذا شئت قتلته أيضا، فتكون أنت

سلطان مصر.»

فأدهشته تلك الفظاعة والقسوة من امرأة، وخيل له أنه قبض على السلطة بيده، فاختلج قلبه في

صدره، وأطرق لحظة يفكر، فوقع نظره على خصلة الشعر بجانب سلافة، فعادت صورة شوكار إلى ذهنه،

وتذكر أن شجرة الدر كانت السبب في خطبتها، وأن هذه المرأة الخائنة اعترفت بأنها كانت سبب قتل

كثيرين، ورجح لديه أنها قتلت شوكار أيضا. وما يمنعها أن تقتله إذا خامرها شك في صداقته

ويئست منه؟ فتحير في أمره معها. فلما رأته ساكتا قالت: «أرأيت ماذا ارتكبت في سبيل حبك يا

قاسي القلب؟ وأنت تحاسبني الآن على جارية تستطيع أن تبتاع أحسن منها بمائة دينار؟ دع عنك

الجفاء، ولننس الماضي ونذهب إلى مصر لتتم سعادتك، وهذه أموالي بين يديك.»

فمر بخاطره أنه إذا أطاعها صار سلطانا ونال البغية التي طالما شغلت باله وتمناها قلبه،

لكنه ما لبث أن أنكر ذلك على نفسه وتصور شوكار وما أصابها بسببه، فنهض على رغم إرادته فنهضت

سلافة معه وهي تحسبه اقتنع بأقوالها، فمد يده إلى خصلة الشعر وتناولها، وجعل يتفرس فيها، فقالت سلافة وهي تداعبه: «أظنك تأسف على صاحبة هذا الشعر، ولكن ما لك وله وهذا شعر امرأة

حية تخاطبك وتتمنى رضاك ؟» وأشارت إلى خصلة من شعرها مرسلة على كتفها.

فقال: «وشوكار؟ هل ماتت؟» فقهقهت وقالت: «ألم أقل لك إنها ماتت؟» قال: «قلت ذلك نقلا عن

الملاحين وقد يكذبون.»

قالت: «بل هم صادقون، ولماذا يكذبون؟» قال: «قد يكون لهم غرض.»

فنظرت إليه نظرة هيام وقد احمرت عيناها من فرط ما جاش في خاطرها من أمره، ثم قالت: «لقد

أحرجتني يا ركن الدين لأؤكد لك موت هذه الجارية. إنها ماتت، وأنا دبرت قتلها، وقد فعلت ذلك

أيضا في سبيل الحصول عليك لئلا يكون وجودها حائلا بيني وبينك، وهي تتمة الفظائع التي

ارتكبتها لأجلك.»

فلما سمع إقرارها لم يعد يستطيع التجلد والإغضاء، ونظر إلى ما حوله فلم يجد من يخشى بأسه،

ولاحت منه التفاته فرأى عابدا في الحديقة يشير إليه بيده أن يقتلها، فقال في نفسه: «لأمر

ما يلح على هذا الغلام بقتلها.» فاستل خنجره وطعنها في قلبها طعنتين، فسقطت على الأرض لا

تبدي حراكا، وأغمد خنجره وأخذ صرة الشعر بيده وتحول إلى الباب، ولم يجد في البيت أحدا

يعترضه. •••

ما كاد ركن الدين يجتاز الباب حتى استقبله عابد والفرس معه، وأومأ إليه أن يركب وهو يقول: «لا شلت يمنيك! قد انتقمت لسيدتي شوكار، اركب يا سيدي وهلم بنا.»

فركب وخرج من الحديقة، وإذا هي خالية ليس فيها أحد من الناس، فلما صار خارجها قال لعابد: «لماذا تعجلت قتلها؟»

قال: «لأني تيقنت من بعض الخدم أنها هي التي تعمدت قتل سيدتي شوكار، فأغريت من كان هنا من

الخدم بالذهاب إلى باب كلواذي لمشاهدة الخليفة قادما إلى الفسطاط الذي نصبوه له، فمضوا

وخفت أن تقنعك تلك الخبيثة بأنها بريئة فتؤجل قتلها.»

فقال: «بورك فيك من صادق أمين. لقد اعترفت بأنها قتلتها، واعترفت بفظاعتها، ولكن كيف عرفت

أنت أنها تعمدت قتلها؟»

قال: «اغتنمت انفرادي ببعض خدمها وتحدثت في شئون عديدة وقصصت عليهم فظائع زعمت أني

ارتكبتها بإيعاز مولاي بين قتل ونهب وإغراق. وكنت أقول هذا مفتخرا، فتحركت غيره أحدهم وقص

علي كيف كلفته سلافة مع رفيق له أن يأتيا بشوكار من قصر التاج إلى هذا القصر، وأنها أوعزت

إليه سرا أن يجعل المسير ليلا، وأن يغتنم فرصة يحتال فيها لإلقاء الفتاة في دجلة، وقال

إنه لم يستطع ذلك إلا قبيل وصوله إلى قصرها؛ لأن قاربا آخر كان في أكثر الطريق قريبا من

قاربهم لا يعرفون من فيه. فقص شعرها بخفة ورماها في دجلة، وذهب بالشعر إلى سيدته شهادة على

إمضاء أمرها. فسألته: هل رآها غرقت؟ فقال إنه لم يقدر أن يراها لشدة الظلام، لكنه لا يرتاب

في أنها ماتت.»

فاطمأن ركن الدين عند سماع هذا الحديث؛ لأنه رأى سلافة تستحق القتل، وقال في نفسه: «ألا

يمكن أن تكون شوكار قد نجت بقضاء الله؟» ولم يذكر ذلك أمام عابد، لكنه استحثه إلى سجن

الإمام أحمد بن الظاهر.

فساق فرسه، وقد أوشكت الشمس أن تغيب، وإذا بجند هولاكو يركضون من جهة برج العجمي نحو باب

كلواذي والناس يفرون من بين أيديهم، فتحول عابد بالفرس إلى الطريق المؤدي إلى سجن الأمير

أحمد، وركن الدين يفكر في سلافة من جهة، وفي مصير الخليفة وأهله من جهة أخرى، فأراد أن يلقي

نظرة إلى بغداد في نور الشفق عند الغروب، فصعد إلى مرتفع يطل على باب كلواذي وما يجاوره إلى

برج العجمي، فرأى التتر زاحفين نحو المدينة، وتحولت شرذمة منهم نحو قصر سلافة وتسلقوا

أسواره، فالتفت عابد إلى ركن الدين وقال، هل ترى يا سيدي؟» وأشار بيده إلى القصر.

فقال: «أرى القوم هاجمين يريدون النهب، ولا أظنهم يجدون من يردهم. سيجدون سلافة مضرجة

بدمها، وأظنهم يشتركون مع خدمها في النهب والقتل، تلك آخرة القوم الظالمين. كم كنت أحب أن

أطلع على ما يجري في بغداد غدا! هيا بنا إلى الإمام أحمد.»

وقبل الوصول إلى قصره رأوا الحرس وقوفا بالباب، فتقدم عابد وسأل عن الإمام أحمد هل هو

هناك، فأجابه الحارس: «نعم لكنه في شغل شاغل.»

قال: «بماذا؟» قال: «جاءه زائر منذ حين.» قال: «استأذن لنا في الدخول عليه.» قال: «لا

أظنه يأذن لأحد لأن أمير المؤمنين يمنع الناس عن مخاطبته.»

قال: «نحن غرباء، وقد أمسى علينا المساء قبل دخول المدينة ونطلب المبيت إلى الغد.»

فقال: «لا بد من الاستئذان، فماذا أقول له؟»

قال: «قل له إننا من مصر نطلب الراحة الليلة.»

فذهب الحاجب وطال غيابه، وركن الدين لا يزال على جواده، وعابد واقف، وبعد برهة سمعا وقع

أقدام الحاجب، ثم وصل ومعه رجل آخر تقدم وتفرس في ركن الدين وصاح: «الأمير ركن الدين تفضل يا

مولاي.»

فعرف ركن الدين من صوته أنه سحبان، فترجل ودخل معه إلى دهليز نوره ضعيف لا يسمع فيه صوت،

وقد استولى الهدوء على المكان كأنه مقر الأموات، فتهيب ركن الدين وتوقع أن يبادئه سحبان

بالكلام، فلما رآه ساكتا قال له: «أنت هنا من زمن بعيد؟» قال: «منذ ساعة.» قال: «وهل

الإمام أحمد هنا؟» قال: «نعم.» قال: «أين هو؟»

قال: «يلبس ثيابه للخروج مع الخليفة وأهله إلى الفسطاط لمقابلة هولاكو كما تم الاتفاق في

هذا الصباح.»

قال: «ومن أشار عليه بذلك؟»

قال: «جاءه الأمر من الخليفة كما جاء لجميع الأمراء العباسيين.»

قال: «وهل وافقت على أن يذهب معهم؟»

قال: «لماذا أمنعه؟ دعه يذهب.»

وبان الغدر في عينيه، فتذكر ركن الدين مطامع سحبان في إرجاع الخلافة إلى الفاطميين، وأنه

ينوي قطع دابر العباسيين من الأرض؛ حتى إذا لم يجد المسلمون خليفة يبايعونه، هان عليهم مبايعة

الخلفاء الفاطميين فتعود دولتهم. ولكن هذا يخالف مطامع ركن الدين، فرأى من الحزم أن يحول

دون خروج ذلك الأمير من قصره في تلك الليلة، فاستوقف سحبان وقال له: «لا ينبغي لنا يا سحبان

أن نسوق هذا الأمير إلى القتل.»

قال: «إنهم لم يدعوه للقتل، ولكن لمقابلة هولاكو مع سائر بني العباس للكف عن الحرب.»

فضحك ركن الدين وأمسك بكتف سحبان وهزه وقال: «تقول ذلك لي، وقد سمعنا خبر الاتفاق معا؟

دع الرجل حيا.»

قال: «وهل يهمك بقاؤه؟»

قال: «هب أن بقاءه لا يهمني، فلا ينبغي أن يهمك أنت قتله، دعه، أين هو الآن؟»

قال وقد تلعثم وارتبك : «أظنه خرج.»

قال: «لا يمكن أن يكون قد خرج، ينبغي أن تحضره توا الساعة.» قال ذلك وبان الغضب في

عينيه.

فخاف سحبان غضبه وعمد إلى الملاينة وقال: «أراك قد غضبت يا ركن الدين ولا موجب للغضب، إذا

كان الإمام أحمد هنا فهو يسر بلقياك.» وأظهر الاهتمام ومشى إلى باب غرفة الأمير وقرعه وركن

الدين واقف، فسمع الإمام يقول: «أوشكت أن أنتهي من وضع ردائي.»

فقال سحبان «هنا أحد الضيوف يرغب في لقاء مولاي.»

الفصل الرابع عشر

الإمام أحمد بن الظاهر

فتح الباب وأطل الإمام أحمد وقد لبس بعض ثياب الخروج، ولم يبق إلا الجبة السوداء شعار

العباسيين وقد تناولها ليلبسها، فتقدم سحبان وساعده في لبسها وهو يقول: «أقدم لمولاي الأمير

ركن الدين بيبرس البندقداري الذي ذكرت لك أسمه الساعة، إنه جاء من مصر، وكان الخليفة قد

أراد أن يعهد إليه في قيادة الجند، ثم جرى الاتفاق والصلح بالشكل الذي ذكرته الآن، وقد جاء

ضيفا على مولاي.»

فابتسم الإمام أحمد وقال: «مرحبا بالأمير الباسل، تنزل علينا على الرحب والسعة.» وأشار

إليه أن يدخل ثم قال: «تمكث هنا ريثما أعود من مقابلة هولاكو بعد قليل.»

فلم يتمالك ركن الدين أن قال: «لا ينبغي لمولاي أن يخرج من هذا القصر الليلة.»

قال: «ولكن أمير المؤمنين بعث إلي أن أذهب قياما بالاتفاق الذي عقد بينه وبين هولاكو،

وأخاف أن يترتب على تخلفي ضرر، وقد استشرت سحبان فأشار علي بالذهاب.»

قال: «أظنه غير رأيه الآن، اسأله.»

فالتفت الإمام أحمد إلى سحبان فرآه أسرع إلى التنصل من تلك المشورة وقال: «غيرت رأيي

لأن الأمير ركن الدين نبهني إلى أمر فاتني، والأفضل أن يبقى مولانا الليلة هنا، وسنرى ما

يكون في الغد.»

قال: «وبماذا أجيب الرسول؟»

قال ركن الدين: «قل إنك ستنظر في الأمر.»

وشق على سحبان حبوط مسعاه، فتكم ما في نفسه وأظهر أنه مضطر للذهاب في تلك الساعة، فأذن له

وانصرف. فارتاب ركن الدين في نية سحبان، وأعمل فكرته فيما قد يكون غرضه، وعزم أن يصطنع

الدهاء والحيلة للوصول إلى هدفه الذي جعله نصب عينيه منذ نشأت مطامعه السياسية؛ نعني الوصول

إلى السلطنة، وهي تستلزم وجود خليفة عباسي يثبته، وقد كاد أن يوقن أنه ظافر بها بعد ما سمعه

من حديث سلافة، فحالما خرج سحبان نظر ركن الدين إلى الإمام أحمد وقال: «هل يعرف مولاي هذا

الشيعي من عهد بعيد؟» قال: «نعم.» قال: «وهل هو على ثقة من إخلاصه؟» قال: «لم يظهر لي منه

ما يوجب شكا.» قال: «وهل تظن الشيعة يخلصون للخلفاء العباسيين؟»

فأطرق الإمام لحظة وقال: «لا أدري.» قال: «يأذن لي مولاي أن أصارحه القول، ونحن الآن على

باب مستقبل جديد وانقلاب عظيم.»

فاستغرب الإمام أحمد هذا التعبير وقال: «وأي انقلاب تعني؟! كنا نخاف الانقلاب قبل عقد

الصلح بين الخليفة وهولاكو، وأما الآن فلا تلبث الأمور أن تعود إلى مجاريها.»

فابتسم ركن الدين ابتسامة تهكم واستخفاف وقال: «إن الذي بلغ مولاي ليس سوى خداع، وإذا كان

المبلغ سحبان نفسه فإنه يكون قد تعمد الكذب؛ لأنه يعلم أن حقيقة هذا الاتفاق تخالف ظاهره.

إن الحقيقة في ذلك تقشعر منه الأبدان وتشمئز منها النفوس، أعذو بالله منها وأدعو الله أن

ينجي الإمام أحمد من عواقبها.»

فوقع هذا الكلام في نفس الأمير وقعا شديدا، وتهيب مما سمعه، وعظم أمر ركن الدين في نفسه

وأصبح شديد الشوق إلى معرفة سر الأمر، فقال: «إني أرى الجد في كل كلمة أسمعها وكل حركة

أراها. قل أيها الأمير. أفصح. إني شديد الثقة بك.»

قال: «لو أن مولاي أطاع سحبان وذهب في الأمر الذي دعي إليه لأصبحت بغداد وليس فيها واحد

من نسل العباس، كرم الله وجهه.» قال ذلك وأبرقت عيناه واشتد لمعانهما لاضطراب النور الواقع

عليهما من المصباح، فخيل للأمير أحمد أنه يخاطب رسولا هبط عليه من السماء. وقال: «كيف

ذلك؟» قال: «لأن ظاهر الاتفاق بين المستعصم بالله وهولاكو أن يجتمع هذا بالخليفة وأهله

للتصافي والصلح، وأما حقيقته فهي أن يغتنم هذا التتري الفرصة ويفتك ببني العباس جميعا.»

فلما سمع الإمام أحمد ذلك ارتعدت فرائصه وقال: «وهل كان سحبان يعرف ذلك؟» قال: «نعم.»

فقال: «قبح من خائن! وبارك الله فيك! إني لا أنسى لك هذه اليد ما حييت. ولكني أجزع لما سيحل

بأهلي وقومي، هل أنت على ثقة مما تقول؟»

قال: «نعم. وفي الغد يظهر الحق، وعسى أن أكون مخطئا فيكون ذلك الصلح صحيحا وترجع

الأحوال سيرتها الأولى ولا يكون من بأس على مولاي الإمام، وإذا لحقته من ذلك تبعه، فأنا

أتحمل عنه كل تبعه وأفديه بروحي.»

فازداد الأمير إعجابا بركن الدين، وهان عليه أن يفعل كل ما يأمره به لأنه أنقذه من الموت،

فأخذ يثني عليه ولا يعرف كيف يعبر عن شكره، فقال ركن الدين: «لم أقل ما عندي بعد.» قال: «قل

أيها الصديق.»

قال: «إذا خلت بغداد من بني العباس غدا تنحصر الإمامة فيكم، فلا تظهر للناس، واستتر كما

استتر أئمتكم قبل ظهور دعوتكم على يد العباس والمنصور في بغداد حتى يأذن الله بظهورها ثانية

في غير بغداد، ستظهر في مصر، والقاهرة التي كانت عاصمة الفاطميين الذين يطمع سحبان هذا في

إرجاع ملكهم تصير عاصمة ثانية لبني العباس.»

فازداد الأمير دهشة من هذه المنن المتوالية، ورأى أنه قد آن له أن يكافئه على خدماته

بمثلها فقال: «إذا شاء الله - سبحانه وتعالى - أن يحدث ما تقوله وتصير الخلافة إلي، فالسلطنة في

مصر لا ينالها سوى الأمير ركن الدين بيبرس.»

فوقع القول عنده موقع الرضا، وقال: «إن السلطنة يا سيدي ينالها الأقوى، وأما الخلافة

فإنها حق موروث لا توهب ولا تباع.»

قال: «وهل في مصر من هو أهل للسلطنة سواك؟» وأطرق يفكر فيما هو فيه من غرائب الأمور،

وتصور المستعصم وسائر أهله، فشق عليه ذلك ودمعت عيناه، وقال: «يشق علي أيها الأمير أن يصيب

بغداد ما تقوله.»

فقال ركن الدين: «أظن مولاي لا يجهل سبب ذلك، إن التبعة فيه على فساد الأحكام وضعف

الخليفة واستسلامه للملاهي والاشتغال بالغناء، فإنه لم يسمع بمغنية في أطراف المملكة إلا

بعث في استقدامها، وأطاع المتملقين، وبخاصة ابنه أبا بكر، وغير ذلك مما لا يليق بصاحب هذا المقام، فلعل الله أزال هذه النعمة عنه ليضعها فيمن هو أهل لها.»

فقال الأمير أحمد: «قد آن وقت العشاء، فلنذهب إلى الصلاة ريثما يعدون لنا الطعام فنأكل ثم

نذهب للرقاد التماسا للراحة.»

فقال ركن الدين: «إني طوع إرادة مولاي في كل ما يريده إلا الرقاد، فليذهب مولاي إلى فراشه

متى شاء، وأما أنا فسأمكث ساهرا أرقب ما أخشاه. إن خروج سحبان على النحو الذي خرج به لم

يرضني، ونحن على كل حال في إبان فتنة كما يعلم مولاي.»

فأعجب الأمير بيقظته وعلو همته وقال في نفسه: «مثله يليق بالسيادة.» ثم خاطبه قائلا: «بارك الله فيك أيها الأمير، وما الذي أخافك من سحبان؟»

قال: «أخافني فشله وسكوته، ولو جادلني وعنفني على معارضتي له لما خفت خوفي من كظمه؛ لأن

الكظم يحبس الغيظ ويزيد النقمة.»

قال: «لا ينبغي أن تخافه لأنه من أوليائنا وأصدقائنا.»

قال: «لعلي مخطئ، وعلى كل حال إني شديد الحذر، وإن شاء مولاي، فإني رفيقه إلى الصلاة.»

فنهض الإمام أحمد وذهبا للصلاة في مصلى خاص هناك، وعادا للعشاء. •••

استحسن ركن الدين ما ظهر من تقوى الإمام أحمد وتدينه وتوكله، وجلسا إلى الطعام فتناولاه،

والأمير أحمد يبالغ في إكرام ركن الدين الذي أنقذه من القتل، فقال له ركن الدين: «لم أعمل

من عند نفسي، إنما كان ذلك بقضاء الله مكافأة على حسنة من حسناتك الكثيرة.»

فأطرق الأمير أحمد وهو يبتسم كأنه تذكر أمرا يسره تذكره، فتوقع ركن الدين أن يقص عليه

سبب ابتسامه، فسكت وأخذ يراعيه فقال الإمام أحمد: «أعلم أيها الأمير أني شديد الاعتقاد بأن من يعمل خيرا يلق

خيرا، ولعل الله بعثك الليلة لإنقاذي من هذا الخطر مكافأة على حسنة وفقت إلى إتيانها بقضاء

من الله.»

فأعجب ركن الدين بتواضعه وأنصت يسمع تتمة الحديث فقال الإمام: «أحمد الله على ذلك

التوفيق، فإنه من نعم المولى، وقد وفقت إليه وأنا في أشد الضنك، واستبشرت من تلك الساعة ؛ وذلك أني كنت سجينا في قصر الفردوس، وأنا صابر على السجن، ولا ذنب لي غير أني من آل العباس

المرشحين للخلافة. وكم شكوت إلى الله ذلك وتمنيت لو كنت من عامة الناس، ولكن الخليفة لم

يقنع بالسجن فأراد مزيدا في التضييق، فأمر بنقلي إلى هذا القصر، فنقلوني ليلا في سفينة

نزلنا فيها دجلة في مثل هذا الوقت، وكان النوتية ومن جاء معهم من الجند يكرمونني

ويؤانسونني، لكن نفسي ضاقت وعظم علي ذلك الظلم، وانفردت في مكان عند مقدم السفينة أتشاغل

بالتفرج على الماء في الظلام، وكان نظري يقع بين الفينة والفينة على سفن تمر بنا صعودا أو

نزولا، وأستأنس بنداء ملاحيها أو غنائهم، إلا سفينة كانت سائرة على مقربة منا لم نسمع فيها

صوتا ولم نعلم بوجودها إلا من نور ضعيف كان معلقا في ساريتها، وقبل وصولنا إلى هذا القصر

بقليل سمعت صيحة ورأيت شبحا وقع في الماء، فحدثتني نفسي بجريمة، فناديت ربان سفينتنا وأمرته

أن يتعقب تلك السفينة فلم يستطع، لكنه عثر في أثناء تفتيشه على غريق يتحرك ويستغيث، فأعانه

وانتشله وهو على آخر رمق.»

وكان ركن الدين يسمع الحديث وشوقه يتزايد إلى سماع تمامه، حتى إذا وصل إلى هنا خطر له أن

الغريق الذي يشير إليه شوكار، فلم يتمالك أن صاح: «وهل هي حية؟» فاستغرب الإمام دهشته

وتسرعه وسأله كيف عرف أنها امرأة؟

قال: «عرفتها يا سيدي عرفتها، قل بالله ماذا جرى؟»

قال: «فأخذ الملاحون في معالجتها حتى أفاقت ورأينا شعرها مقصوصا، ورأدنا الاستفهام منها

عن حالها فلم نشأ أن نقول شيئا، فلم نكرهها على ذلك.»

فقال ركن الدين: «هي شوكار يا سيدي، شوكار أريد أن أراها.»

قال: «لا يا عزيزي، لو عرفت أن أمرها يهمك لاحتفظت بها.»

فقال: «أين هي الآن؟» قال: «لما وصلنا بها إلى هنا وارتاحت وبدلت ثيابها وانتعشت، سألناها

عن شأنها وعما تريد أن نساعدها عليه، فلم تزد على أن شكرت فضلنا وأبت أن تبوح بشيء، لكن

الملاحين عرفوا من شكل السفينة أن الفتاة من جواري الخليفة قضى بإغراقها. ولم يجرؤ أحد منا

أن يقص خبر هذه الفتاة على أحد، وبعد بضعة أيام سألتها إذا كانت تعرف أحدا في بغداد تريد

أن تذهب إليه، فقالت إنها تعرف سحبان، وتريد خادما يوصلها إليه، فتنكرت بلباس الرجال

وأرسلنا معها بعض الخدم يوصلونها إلى بيت سحبان في الكاظمية. وكان ذلك في صباح هذا اليوم، ولما جاءني سحبان ورأيته أنت عندي لم يكن قد علم بوصولها بعد.»

فأطرق ركن الدين، وقد ثارت عواطفه وتضاربت أفكاره، وسر كثيرا لنجاة شوكار، لكنه أسف

لذهابها إلى بيت سحبان، ولا سيما بعد أن وقع ما وقع بينهما في ذلك المساء، وأصبح الإمام أحمد

في شوق إلى معرفة علاقة شوكار بركن الدين، فسأله عن ذلك، فقص عليه خلاصة تاريخ تلك العلاقة في

مصر وما ارتكبته سلافة إلى آخر الحديث، فأسف الإمام أسفا شديدا لأنه بعثها إلى بيت سحبان،

لكنه لم يلم نفسه لأنه لم يكن يعلم علاقتها بالأمير ركن الدين.

الفصل الخامس عشر

التتر يخربون بغداد

وبينما هما في ذلك إذ سمعا ضوضاء في حديقة القصر، فاستغرب الإمام ذلك، لكن ركن الدين لم

يستغربه، بل كان يتوقعه وقد استبطأه، فأومأ إلى الإمام أن يظل في مكانه، ووثب كالأسد حتى أتى

الباب فرأى أحد الحراس قد دخل وأقفل الباب وراءه وهو في اضطراب شديد، فقال له ركن الدين «ما

بالكم؟»

قال: «التتر يا سيدي، دخلوا الحديقة وهم يطلبون القبض على مولانا الأمير، وقد غضبوا لأنه

لم يأتهم من تلقاء نفسه.»

قال: «اذهب وقل لهم إني خارج لهم بنفسي.»

قال: «ولكنهم يطلبون الإمام وإلا فإنهم يأخذوننا عنوة ويقتلوننا مع الإمام.»

وسمع الإمام حديثهما فهرول وتوسل إلى ركن الدين ألا يعارض التتر فيما يريدون، وأنه يؤثر

الذهاب معهم إلى الفسطاط.

فأشار ركن الدين إليه قائلا «كن مطمئنا يا مولاي، لا يستطيع هؤلاء القوم أن يمسوا ظفرا

من أظفارك قبل أن يستباح دمي.»

قال: «وما الفائدة من إباحة دمك إذا فاز أولئك التتر علينا ، وهم فائزون لأنهم أكثر عددا

وأقوى عدة.»

قال: «لا تخف، إنهم غير فائزين بإذن الله.» قال ذلك وصعد إلى كوة الباب وأطل منها على

الحديقة فرآها مزدحمة بالناس؛ بينهم حملة المشاعل للإنارة، وحملة العصي والنبال والسيوف، وقد

علا ضجيجهم وتعالت غوغاؤهم، وفي مقدمتهم رجل يظهر من هندامه أنه كبيرهم وبجانبه سحبان، فلما

رأى سحبان معه تحقق عنده ما ظنه فيه منذ خرج من القصر على تلك الصورة. فناداه: «سحبان.»

فرفع سحبان بصره إلى ركن الدين وقال: «لا بد من تسليم الأمير أحمد لأن خبره وصل إلى الخاقان

هولاكو، ولم يعد بالإمكان إخفاؤه.» قال: «إني لا أرى تسليمه.» قال: «لكن الخاقان أمر بالقبض

عليه، وإلا فإن الجند يهاجمون القصر ويأخذونه عنوة.»

قال: «إنهم لا يفعلون ذلك، ولم يخطر لهم أن يفعلوا لولا وشايتك، فارجع بهم، وذلك خير لك

وأبقى.»

قال: «لماذا تعترض وتعرض نفسك لهذا الأمر أيها الأمير وأنت في غنى عنه؟»

قال: «وأنت أيضا في غنى عن هذه الدسائس.»

قال: «فاتني أن أخبرك أن شوكار عندي، وأنت إنما جئت هذا البلد من أجلها، فإذا شئت فإني

أدفعها إليك ودع هذا القصر.»

فلما سمع قوله أحس بانقباض لأن سحبان يهدده بشوكار، كأنه يقول له أنه إذا لم يطعه، آذاه

فيها، فوقع في حيرة فقال: «وما تعني بذلك؟ وما دخل شوكار فيما نحن فيه؟»

قال: «لا أعلم، والآن افتح هذا القصر وإلا دخله الجند بالقوة، وأنت تعلم عقبى ذلك، ولا

تنس أمر شوكار.»

وكان الإمام أحمد واقفا بجانب ركن الدين يحثه على الاستسلام، ولا سيما بعد أن سمع هذا

التهديد فيه وفي شوكار، فأخذ يحرضه ويلح فأبى ركن الدين. ولما أبطأ ركن الدين في الخضوع وفي

فتح باب القصر، قال له سحبان: «لا تقل إن صديقك سحبان غدر بك، فإني نصحتك مرارا وأعيد النصح

الآن أن تسلم، وإلا فأنت ومن في القصر في قبضة الجند، ولن ترى شوكار أبدا.»

وإذا بصوت صاح في وسط الضوضاء قائلا: «لا تصدق أيها الأمير، إن شوكار معنا في أمان ، وعرف

ركن الدين أن صوت عابد، فصدقه وأحس بانفراج الأزمة، واشتد قلبه ونظر إلى سحبان وقال: «لم أكن

أتوقع منك يا سحبان أن تحرض الجند علينا.»

فقال: «لم أحرضهم، ولكنهم قادمون بأمر الخاقان.»

قال: «كذبت، إن الخاقان لم يأمرهم بذلك بعد أن أعطاني الأمان أنا وسائر أهل هذا المنزل، وهذا علم الأمان، انظروه.» قال ذلك وأخرج العلم الذي كان مؤيد الدين قد أعطاه إياه، ونشره في

النافذة، فبان جليا للناظرين، وحالما رآه الجند التتر طأطئوا رءوسهم إذعانا وتحولوا من

الحديقة راجعين، وسار سحبان في أثرهم كالهارب، وركن الدين يرقبه، وقلبه يرقص فرحا بذلك

الفوز، والإمام أحمد يضمه ويقبله شاكرا. فنزل ركن الدين إلى صحن الدار ونادى عابدا وسأله

عن شوكار، فقال: «هي هنا يا سيدي، قد علمت بخروجها من هذا القصر من الخادم الذي أخذها إلى

الكاظمية، فذهبت وأتيت بها لعلمي أن وجودها هناك يسبب عراقيل كثيرة.»

فقال ركن الدين: «بورك فيك من صديق غيور، إنك لست خادما، وهذه الأريحية والشهامة جديرة

بالصداقة.» ففرح عابد لهذا الإطراء وقال: «إذا شئت أن ترى شوكار فهلم إلى غرفتها.» فمشى ركن

الدين مسرعا إلى تلك الغرفة، فرأى شوكار لا تزال متنكرة بثوب بعض الخصيان، فلما رأته طفرت

الدموع من عينيها فرحا، وترامت على ركبتيه تقبلهما، فأنهضها وقبل رأسها وقال: «الحمد لله

على سلامتك يا حبيبتي. نشكر الله على هذه النعمة، والفضل الأكبر في ذلك لمولانا الإمام، حفظه الله.»

قال الإمام: «الفضل كله لك أيها الأمير، وأهنئ شوكار بهذا النصيب.»

والتفت ركن الدين إلى عابد وقال: «كيف عرفت يا عابد خبر شوكار؟»

قال: «كنت جالسا في الحديقة وصرة الشعر معي، فسألني بعض الخدم عن خبرها، وحالما رآها

صاح: «ما أشبه هذا الشعر بشعر الفتاة التي وجدناها في دجلة وأنقذناها من الغرق.» وبعد أخذ

ورد فهمت أن شوكار حملت إلى منزل سحبان، فذهبت بأسرع من لمح البصر وأتيت بها متنكرة كما

تراها.»

فكرر الثناء عليه، فازداد فرح عابد، ولكنه قال: «لا ينبغي لمولاي الإمام أن يبقى هنا.»

فقال ركن الدين: «لماذا؟» قال «لأن التتر وإن كانوا قد تراجعوا فإن سحبان لا يلبث أن يذهب

بنفسه إلى الخاقان أو غيره ويخبره بوجود الإمام هنا فيبعث في طلبه؛ لأني رأيت في طريقي من

الفظائع ما لا يخطر ببال بشر.»

فقال ركن الدين: «ماذا شاهدت، هل نزل التتر بغداد؟»

قال: «نزلوا دور الخلافة، ومعهم هولاكو نفسه، وتفقد تلك القصور، وأخرج من فيها من النساء

وفرقهن في رجاله.»

فقال الإمام أحمد: «والخليفة؟ ماذا فعلوا به؟ أين هولاكو؟»

قال: «علمت أن مؤيد الدين الوزير حرض بني العباس وجميع وجوه الدولة على الخروج إلى

الفسطاط، فقتلهم التتر عن آخرهم، ثم هجموا عند الغروب على قصور الخلافة وقتلوا كل من وجدوه

هناك من أبناء الخلفاء، ومن كان منهم صغيرا أخذوه أسيرا، والقتل الآن على أشده في بغداد،

والقائد التتري باجو قد عبر الجسر إلى الكرخ وغيرها وأخذ رجاله ينهبون ويقتلون، وقد علمت أن

الكتب التي كانت في خزائن قصور الخلافة أخرجوها وألقوها في دجلة وهي شيء لا يعبر عنه لكثرته.

وسمعتهم يذكرون اسم مولاي الإمام وسبب تغيبه، لأنهم لم يجدوه في قصر الفردوس كما كانوا

يظنون؛ ولذلك قلت لكم لا بد من السرعة في الخروج الآن.»

فوقع الرعب في قلب الإمام أحمد، فالتفت ركن الدين إلى عابد وقال: «أنت من أهل هذه البلاد

فأرشدنا إلى مكان نخفي فيه مولانا حتى تستقر الحال.»

فأشار مطيعا وقال: «ذلك علي، فأمروا بأخذ ما خف حمله وغلا ثمنه واتبعوني.»

فعمل الإمام أحمد وخادمه بما قاله عابد، ثم ركبوا قبل الفجر، وعابد يمشي في مقدمتهم حتى

خرجوا من بغداد، وعلموا في اليوم التالي أن التتر يتعقبونهم، فلم يروا بدا من الالتجاء إلى

بعض قبائل العرب، فالتجئوا إلى قبيلة هناك مكث عندها الإمام ومعه عابد.

ولما اطمأن ركن الدين على مصير الإمام، أوصى عابدا به خيرا، وسافر إلى مصر ومعه شوكار؛ حيث عقد زواجه بها، ووجد سلطان مصر نور الدين بن عز الدين، فحرض الأمراء على التذمر منه

لأنه غلام لا يصلح للحكومة، وبايعوا سيف الدين قطز سنة 657ه؛ لأنه من سلالة ملوك خراسان،

فصبر ركن الدين على ذلك وهو يسعى لتحقيق أمنيته ليتم له ما دبره من أمر نقل الخلافة إلى

مصر.

وفي السنة التالية زحف هولاكو على سوريا وبعث يهدد قطز، فشاور الأمراء، فأشاروا عليه

بالحرب، وفي مقدمتهم ركن الدين، فجرد حملة سار ركن الدين فيها، واضطر هولاكو إلى الرجوع لموت

والده، وأخذ معظم جيشه معه، والتقى ما بقي من رجاله بجيش قطز في فلسطين في معركة فاز فيها

المصريون وعادوا ظافرين. فاغتنم ركن الدين فرصة في أثناء رجوعهم وقتل قطز، وكان قد تواطأ

على ذلك مع رفاقه الأمراء، ورضوا أن يتولى هو مكانه، فنادوا به سلطانا على مصر سنة 658ه.

ولقب بالملك الظاهر. وحالما استقر له الأمر بعث في استقدام الأمير أحمد، فجاءه في السنة

التالية، فبايعه خليفة ولقبه بالمستنصر بالله، وصارت الخلافة العباسية بمصر من ذلك الحين.

Unknown page