وتبادلا نظرة نارية، تلاقى فيها الغضب بالتحدي، ولكن عبد الواحد انتزع عينيه يائسا، رمى ببصره إلى الخلاء، ثم تنهد قائلا: نهاية خليقة بالحشرات!
فقال عبد القوي: لا تنس مشكلتنا الراهنة؛ علينا أن نتخلص من ورطتنا!
لم ينبس عبد الواحد، فعاد عبد القوي يقول: لنبحث عن العمران، وسنحصل بوسيلة ما عما يسترنا، ولنرجع بعد ذلك إلى الدكتور. - هذا يعني القضاء علينا. - حتى إذا علم باعتداء قطاع الطرق علينا؟ - له قدرة خارقة على أن يقررنا حتى نقر بما يديننا! - ولم لم يفض إليك بالمهمة من بادئ الأمر؟ - إنه أدرى بما ينبغي أن يتبع. - ولكننا نحن الذين نقوم بالمغامرة، ومن حقنا أن نعرف. - لقد دخلنا التنظيم باختيارنا وقبلنا لائحته دون شرط، فما وجه اعتراضك الآن؟ - كان علينا أن نرفض أن نكون مجرد آلات. - بالتنظيم كذلك أناس لا عمل لهم إلا التفكير والتدبير. - ولم يختصون هم بالتدبير ونختص نحن بالتنفيذ الأعمى؟ - لا يستقيم التنظيم إلا بتوزيع دقيق للعمل. - ومتى ثبت لهم أننا دونهم في التفكير والتدبير؟ - يبدأ العضو عادة بعمل تنفيذي، ثم يتدرج في مدارج الرقي. - كلام جميل؛ أما الواقع فهو أنهم يستأثرون بالعلو والأمان، ونتعرض نحن كل ساعة للموت، وتمر الأيام ونحن نمني النفس بترقية لا تريد أن تتحقق أبدا! - الحق أنه لا هم لك في دنياك إلا التمرد وانتهاب اللذات!
فرفع عبد القوي كتفيه العاريتين امتعاضا وأطبق فاه، فقال عبد الواحد: شد ما يغضبك قول الحق!
فتساءل عبد القوي ساخرا: خبرني عن تفكيرك ماذا أفادنا؟
فتساءل عبد الواحد بالسخرية نفسها: حدثني عن إحساسك الباطني ماذا أفادنا؟
فنفخ عبد القوي مغيظا وقال متشكيا: آن لنا أن نبحث عن طريق للخلاص. - حسن، لنسأل أنفسنا ماذا نريد؟ وعلينا أن نجيب على ذلك بوضوح. - نريد العمران، الملابس، المظروف الضائع، مواصلة الرحلة ... - قد نهتدي إلى العمران، وقد نجد ما نغطي به جسدينا، ولكن كيف يمكن العثور على المظروف؟ - نلجأ إلى نقطة الشرطة! - لقد أنهكك الضياع فنسيت أن رجال الشرطة هم أعداؤنا!
فتفكر عبد القوي مليا في حيرة بالغة ثم قال: أصبحنا مطاردين من الشرطة والتنظيم معا، فلم يبق أمامنا إلا سبيل واحد! - وهو؟ - الهرب؟ - الهرب! - أجل .. الهرب. - وكيف نحيا؟ - لنا خبرتنا في الحياة، وما أكثر الذين يعيشون خارج نطاق التنظيم؟ - ولكن كيف؟ - لنبدأ من جديد، لنتسول أو نقامر أو نسرق، وهناك تجارة الرقيق الأبيض! - أتتصور أنني أرضى بشيء من ذلك بعد أن اخترت عضوا في التنظيم، وبعد أن كلفت بمهمة لا يكلف بها إلا الأكفاء؟! - عيبك الأساسي هو الغرور، اعترف بأننا خسرنا اللعبة، ومن حقنا أن نتعلق بأذيال الحياة بأي ثمن.
فقال عبد الواحد بإباء: أرفض أن أتعلق بأذيال الحياة بأي ثمن. - ولكن الحياة تستحق ذلك. - لعلي أفضل الانتحار. - أي شيء أفضل من الانتحار. - ليس أي شيء! - لنكن عمليين! - لنكن عمليين ولنفكر في وسيلة لإصلاح الخطأ وإنجاز المهمة. - بضياع المظروف ضاع الأمل في ذلك. - لا تتسرع في الحكم. - حدثني عن سبيل لمعرفة المهمة ... - فلنستعن بالعقل. - سل عقلك عن سر مدفون في مظروف مفقود! - إنك لا تحترم العقل، وذلك هو سر تعاستك. - ولكني لست تعيسا. - ومن آي تعاستك أنك لا تعرف أنك تعيس. - إني مسلم بمقدرتك في الجدل، وبسخريتك مني إذا حلا لك ذلك، ولكن من الخير أن توجه قوتك المزعومة إلى حل اللغز الذي تتوقف عليه حياتنا. - كأنك عازم على الوقوف مني موقف المشاهد أو الشامت؟ - اقترحت عليك ما أرى، وهو الهرب. - لنمارس حياة وضيعة في ظل المطاردة؟! - سنكون مطاردين على الحالين! - مطاردة الشرطة لنا شرف لم نستحقه إلا بالعرق؛ أما مطاردة التنظيم فهي اللعنة الكبرى! - لست راضيا عن دوري الآلي فيه. - ولكنك دخلته مختارا؟ - بل لأنك دخلته، ولأني لم أعتد الحياة بعيدا عنك! - وإذن فعلينا أن نتقبل مصيرنا بالصبر والشجاعة.
فقال عبد القوي متنهدا: ليكن .. حدثني الآن كيف نعرف المهمة؟ - كن معي بكل حواسك، لقد أمرنا بأن ننزل في المدينة، فالاستراحة، ثم الواحة في طريقنا إلى الجنوب حيث نفض غلاف المظروف. - أجل، والحق أني لم أدرك وجه الحكمة فيه، وقد نفذنا الشطر الأكبر منه بكل دقة ودون جني أي ثمرة إلا ما حاق بنا من خسران! - لا تنس أننا ضيعنا وقتنا في العربدة والعراك. - هو خير عندي من المكوث بلا عمل أو تسلية. - فاتتنا أشياء وأشياء لم نفطن لها في حينها! - ما كان قد كان، انتهينا إلى ما نحن فيه، فما العمل؟ - لنسأل أنفسنا ما المهمة الجديرة بعضو التنظيم إذا وجد نفسه في الجنوب؟
Unknown page