Shahirat Nisa Fi Calam Islami
شهيرات النساء في العالم الإسلامي
Genres
وكان يرى بنفسه كل المسائل المعضلة فيحل عقدتها برأيه الثاقب ويريح الخليفة من هموم الإدارة وأعبائها، ومع أنه لا يغمض له جفن ولا يستريح في ساعة من ساعات الليل فضلا عن النهار في مصالح السلطنة، فكان لا يفارق الخليفة في مجالسة أو منادمة، وكان أديبا أريبا يعلم الشعر ويفهم الموسيقى؛ ولذلك لم يبق إنسان في بغداد لا يقدر قيمة هذا الوزير المقطوع القرين.
أحضر العلماء والحكماء وأمرهم بترجمة الكتب الأجنبية، وشجع الفلاسفة والمفكرين وأسس دور العلم ونشر التجارة والطبابة والحكمة في ربوع بغداد حتى أصبحت محطا لرحال العلماء وقطب رحى الآداب والفنون، ولم يمض على هذه المدينة إلا القليل حتى سميت «أسواق الآداب».
كان الرشيد يغدق النعم والخيرات على من يجلب له السرور ويسبب له الغبطة، فيضحى إيراد بيت المال وضياعه الخاصة في سبيل شخصه، أما جعفر فكان يصرف ماله في سبيل المحافظة على مجد الرشيد وأبهة ملكه وخلافته التي يتفانى في خدمتها، وكان مع ميله إلى اللذات يصرف نصف أمواله في وجوه البر والحسنات.
اشتهر الرشيد بحسن إدارة جعفر، وما نال ألقاب الحمد والثناء إلا بفضل سخاء جعفر، ثم كان بعد ذلك من أصحاب الحكمة والحجى باستعداد جعفر وكفاءته كما أصبح قرين العلماء، جليس الأدباء، نديم الشعراء بإرشادات جعفر، وبجعفر فحسب كان الرشيد رشيدا.
ما أجلها روحا! تلك الروح العالية والنفس الأبية التي تستنسخ مزاياها من أشخاص أخرى، ولا تفقد بذلك بهجتها وأضواء كمالها.
كان الرشيد في بداية حكمه مسودة لوحة فنية تحتاج إلى ألوان عديدة وإصلاحات كثيرة، وبمرور الزمن أصبحت تلك المسودة الناقصة في أيام وزارة جعفر لوحة فنية نفيسة، وظهرت في معرض التاريخ بتلك الأبهة والعظمة.
وإليك الحكاية الآتية دليلا على الروابط القوية والألفة المتينة الموجودة بين الرشيد وجعفر.
قيل: إن جعفر بن يحيى جلس يوما للشرب وأحب الخلوة فأحضر ندماءه الذين يأنس بهم وجلس معهم وقد هيأ المجلس ولبسوا ثيابا مصبغة، وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا ثياب الحمر والصفر والخضر، ثم إن جعفرا تقدم إلى الحاجب ألا يأذن لأحد من خلق الله سوى رجل من الندماء كان تأخر عنهم اسمه عبد الملك بن صالح ثم جلسوا يشربون، ودارت الكاسات وخفقت العيدان وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه وبذل له على ذلك أموالا جليلة فلم يفعل، فاتفق أن هذا «عبد الملك بن صالح» حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح العباس، فأدخله على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضا للقصة، وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم أحضروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئا فأحضر له قميص مصبوغ فلبسه، وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه، وقال: اسقونا من شرابكم.
الرشيد يراقب الجموع المحتشدة أمام قصر البرامكة.
فسقوه رطلا وقال: ارفقوا بنا فليس لنا عادة بهذا.
Unknown page