فاسترسلت في البكاء حتى قال: إن لم أفعل ذلك، فإنني سأجن أو أنتحر.
ووقفت وهي تقول: بثينة ليست طفلة، ويجب أن تسمع رأيها.
ولكنه هتف بها: لا تضاعفي من عذابي.
ومن اليسير أن يخمن ما سيقال عن مرضه، عن عقله، ولكن لا أهمية لذلك ألبتة. ولعله حق. إنه يخاطب الجماد والحيوان، ويناقش الكائنات المنقرضة. ويرى أحيانا وهو ينطلق بسيارته الأرض المتماسكة وهي تتفتت، ثم تتحول إلى شبكة مترامية من الذرات حتى يضطر إلى التوقف، وهو يرجف. وأحيانا وهو يرنو إلى شجرة أو النيل تتحقق للمنظور شخصية حية، وتتخذ هيئته ملامح خفية لا يعوزها الشعور أو الإدراك، ويخيل إليه أنه يرامقه في حذر، وأنه يضع وجوده بإزاء وجوده هو على مستوى الند للند، ومفاخرا في ذات الوقت بعراقته في الوجود، وخلوده النسبي في الزمن. علام يدل ذلك؟ وعلام يدل نبذه للعمل، والأسرة، والأصدقاء؟ وعليه فيجب أن يكون حذرا، وإلا وجد نفسه مسوقا إلى مستشفى الأمراض العقلية.
وجاء مصطفى وعثمان للاجتماع به. وأدرك أنهما دعيا إلى ذلك. ولم تنفع ضحكات مصطفى في التخفيف من توتر الجو، ولم يكن يتكلم لدى استقبالهما. وجيء بالويسكي إلى الشرفة، فشرب كأسا تحية للقادمين. وتبادلوا نظرات طويلة وشت بما تخفيه من إشفاق. وظهرت زينب دقيقة واحدة لتحية الرجلين. وقالت وهي تهم بالانصراف: كنا أسعد أسرة، ولم يكن مثله في الرجال أحد، ثم انهار كل شيء.
وأزهق تصريحها روح التردد، فلم يبق بد من الانقضاض على الموضوع. وتساءل مصطفى: هل حق ما سمعنا؟
ولم يجب مكتفيا بإشارة من وجهه المصمم. - إذن فأنت ذاهب!
أجاب بصراحة كنصل مرهف: أجل. - إلى أين؟ - مكان ما. - ولكن أين؟
ولم يجب. المكان رغم لا نهائيته سجن، ومصطفى أحمق؛ إذ يستعمل لغة لا معنى لها. - إذن جاء دورنا لتلقي بنا في صندوق الزبالة.
فقال عابسا: أمس بكت بثينة، ولكنها لم تسمع خيرا من هذا الجواب.
Unknown page