وقال عمر لنفسه: لماذا أتعب نفسي في مناقشة أمور لا تهمني؟
17
خرس الفجر. على ضفاف النيل، أو في الشرفة، أو في الصحراء خرس الفجر. وليس من شاهد على أنه تكلم ذات مرة إلا ذاكرة محطمة، وإدامة النظر والتطلع إلى أعلى واحتراق القلب لا تجدي شيئا. والجوانح تنطوي على لوعة مشتعلة، صراخها يصك السماوات بلا أمل، وسخريات الشعر، وشعر مارجريت الذهبي، وعينا وردة الرماديتان، وطيف زينب الخارج من الكنيسة، أشباح شاحبة تهيم في رأس أجوف. وضحكات مصطفى تنعى أي أمل. أما صخب عثمان؛ فنذر نبي يبشر بالعدم. وخاطبت المقاعد، والجدران، والنجوم، والظلام، وخاصمت الخلاء، وغازلت شيئا لم يوجد بعد، حتى أراحني أمل قاتم، فوعدني بالخراب الشامل. وقد هان كل شيء، وتهتكت القوانين التي تحكم الكائنات، وتعذر التنبؤ بطلوع الشمس. كيف أقبل بعد ذلك أن أنظر في ملف قضية، أو أن أناقش مشكلة تتعلق بميزانية البيت! وقد قلت لحجرتي المغلقة: أي خطأ كانت تلك الهدنة التي أرجعتني إلى البيت؟
وقلت للقطة وهي تتمسح بساقي: سمعا وطاعة، سأرحل عن المأوى المكتظ بالعواطف المتطفلة المعوقة.
ولم يبق من تسليات إلا أن أرقص فوق قمة الهرم، أو أقفز من فوق أعلى جسر إلى قاع النيل، أو أقتحم الهلتون عاريا، ويقينا أن روما لم يحرقها نيرون، ولكن ضرمتها الأشواق اليائسة. كذلك تزلزل الأرض، وتتفجر البراكين.
وقالت وردة في التليفون: ترى هل نسيت صوتي؟
فقال بفتور: أهلا وردة. - ألا تزورنا ولو في السنة مرة؟ - كلا، ولكني تحت أمرك إن كنت في حاجة إلى شيء. - أنا أحدثك بلغة القلب.
فقال ممتعضا: القلب! ... إنه مضخة.
وفي لحظة ألم حاد، لعن العلم المستعصي على أمثاله من البشر. وكان يتخفف من ألمه بالاستسلام لجنون السرعة، وهو يندفع بسيارته في أطراف القاهرة. وتعددت رحلاته بلا هدف إلى الفيوم، أو القناطر، أو طنطا، أو الإسكندرية. ويندفع بجنون حتى يثير الفزع والسخط. وكثيرا ما يغادر القاهرة صباحا، ثم يرجع إليها صباح اليوم التالي دون نوم. وقد يدخل دكان بقال ليسكر، أو يجلس في التريانون لينام، أو يشيع جنازة لا يعرفها ولا تعرفه، أو يغلبه النوم عقب الفجر؛ فينام في السيارة، أو على شاطئ النيل حتى الصباح. وذهب مرة إلى مكتبه. وجد عثمان منهمكا في العمل بطاقة مذهلة، وسأله الرجل: أين كنت في الأيام الماضية؟
فرمقه باستهانة، وقال: في أماكن لا حصر لها. - أنت مرهق بلا ريب، ترى: ماذا يدور في رأسك؟
Unknown page