Shacir Ghazal Cumar Ibn Abi Rabica
شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
Genres
شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
تأليف
عباس محمود العقاد
شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة
(1) الشاعر ونشأته
اتفق لي أن أخرج كتابا عن عمر بن الخطاب، وكتابا عن عمر بن أبي ربيعة في فترة واحدة، ولم يكن ذلك عن قصد مرسوم ولا عن محض مصادفة، ولكنه كان مزيجا من القصد والمصادفة، ووسطا بين الاختيار والاتفاق الذي يأتي على غير انتظار.
فقد دعيت منذ أكثر من سنة إلى الكتابة عن عمر بن أبي ربيعة بين مشاهير الأدب العربي والتاريخ الإسلامي الذين اتجهت النية حينا إلى ضم سيرهم وتواريخهم في مجلد واحد. فشرعت في دراسة الشاعر وتحضير سيرته ونقده حتى لم يبق منها غير الكتابة، ثم أرجأتها إلى موعدها المقدور حين وقف العمل في كتاب أولئك المشاهير.
Unknown page
وحدث أنني كتبت «عبقرية محمد» واستلحق هذا الكتاب «عبقرية عمر» فانتهيت منها، وإذا باقتراح من سلسلة «اقرأ» أن أكتب رسالة في الأدب على نحو الرسالة التي كنت أزمعت كتابتها عن عمر بن أبي ربيعة. فهذا الذي جمع كتابي عن عمر بن الخطاب وعن عمر بن أبي ربيعة في فترة واحدة، وفيه من الاختيار شيء، ومن التقدير السابق شيء، ولم يكن شأني فيهما بأغرب من شأن التاريخ بين العمرين المتفاوتين هذا التفاوت في العمل والقول والسيرة.
فقد قيل إن ابن أبي ربيعة ولد يوم مات ابن الخطاب - رضي الله عنه - فكان الناس يقولون بعد ذلك: أي حق رفع وأي باطل وضع! ويعجبون لمجيء هذا إلى الدنيا يوم ذهاب ذاك.
فأما أن حقا عظيما رفع من الدنيا يوم فارقها عمر بن الخطاب، فذلك ما لا ريب فيه ولا خلاف.
وأما أن باطلا وضع في الدنيا يوم جاءها عمر بن أبي ربيعة ففيه ريب وفيه خلاف.
ونحن لا يعنينا أن يتفق المختلفون على نصيب ابن أبي ربيعة من الحق والباطل، فليكن له منهما ما يشاء ويشاء المختلفون.
وإنما يعنينا أن يستحق الدراسة الأدبية أو لا يستحقها. وهو موضوع لا يختلف عليه الدارسون؛ لأن ابن أبي ربيعة - ولا ريب - ظاهرة أدبية، وظاهرة نفسية قليلة النظير في الآداب العربية، وحقه في الدراسة كحق جميع الشعراء المعروفين بهبة الفن وصدق التعبير. وإنه لفي الطليعة الملحوظة من هؤلاء.
وتاريخ شاعرنا وجيز في حساب الحوادث والسنين، فافرض ما شئت من سنتين بينهما ديوان شعر، فذلك أهم تاريخ له بين سنة الميلاد وسنة الوفاة.
فمن المتفق عليه أنه ولد سنة ثلاث وعشرين للهجرة، ومن المختلف عليه سنة وفاته وسبب وفاته. فقيل إنه مات حتف أنفه، كما قيل إنه مات مقتولا أو مدعوا عليه، وقيل: إنه مات سنة ثلاث وتسعين كما قيل غير ذلك. فنحمد الله على أن ما اختلف فيه التاريخ من أنباء الشاعر ليس مما يغير أو يبدل في حقيقته الشعرية أو حقيقته الفنية التي تعنينا وتعني القراء. فحسبنا ديوانه وحده، نعلم منه كل ما يهم علمه، ونتخذ منه موازين أدبه وحقائق نفسه. وإن أصدق الشعراء فنا وحياة لمن تعرفه بديوانه وتعرفه لديوانه.
وعلى هذا ندع الإسهاب في الحواشي والفضول التي لا تؤدي إلى طائل في هذه الدراسة الفنية وفي كل دراسة فنية على التعميم، ونكتفي من أخباره وأحاديثه بما يفهمنا ديوانه أو بما يفهمنا سليقته وآثاره الفنية، وهو على قلته يغني ويفيد.
كان شاعرنا من سادة بني مخزوم، ومن أكبر بيوتات قريش، وكان جده أبو ربيعة يسمى ذا الرمحين لطوله كأنه يمشي على رمحين، وقيل: إنه قاتل في يوم عكاظ برمحين فسمي بهما لذلك.
Unknown page
وكان أبوه يدعى بحيرا، فسماه النبي - عليه السلام - عبد الله، واشتهر بين قريش بلقب العدل؛ لأنهم كانوا يكسون الكعبة في الجاهلية من أموالهم سنة، ويكسوها هو من ماله سنة، فلقبوه العدل؛ لأنه يعدل قريشا كلها في كسوة الكعبة، وقيل: إن العدل هو الوليد بن المغيرة، وليس عبد الله بن ربيعة والد الشاعر.
وكان بحيرا - أو عبد الله - تاجرا موسرا يتجر بين الحجاز واليمن، وكانت أمه من قبله عطارة يأتيها العطر من اليمن، واسمها مخرمة أو مخربة في رواية أخرى، وقد تزوجها هشام بن المغيرة، فولدت له أبا جهل والحارث ابني هشام.
واستعمل النبي - عليه السلام - عبد الله على ولاية الجند وسوادها (في اليمن) فلم يزل عاملا عليها إلى مقتل عمر - رضي الله عنه - وقيل: بل امتدت ولايته إلى عهد عثمان. وكان له عبيد كثيرون من الحبشة يتصرفون في جميع المهن، فقيل لرسول الله حين خرج إلى حنين: هل لك في حبش بني المغيرة تستعين بهم؟ فقال: «لا خير في الحبش إن جاعوا سرقوا وإن شبعوا زنوا، وإن فيهم لخلتين حسنتين: إطعام الطعام والبأس يوم البأس.»
أما أم الشاعر فكانت سبية من حضرموت أو من حمير يقال لها: «مجد». ومن هناك أتاه الغزل كما قالوا في زمانه: «غزل يمان ودل حجازي!» وهي مع هذا ليست بالصلة الوحيدة بينه وبين الحضارة اليمنية كما رأينا من علاقة أبيه وجدته بتجارة اليمن وتجارة العطر منها على الخصوص، وهي التجارة التي بينها وبين معيشة الغزل والغزليين نسب قريب.
ونشأ عمر في النعمة على وسامة وفراغ، ومن حوله الجواري والأرقاء، يهيئون له من اللهو ما يتهيأ للسيد الفتي الفارغ من متاعب الحياة، وقد وصفه بعض من رآه بين فتيان بني مخزوم فقال إنه «قد فرعهم طولا، وجهرهم جمالا، وبهرهم شارة وعارضة وبيانا ...» فهو تام الأداة للغزل ومصاحبة الحسان، وهو أقرب الفتيان من أبناء الحجاز إلى تمثيل بيئته؛ حيث نشأ من مجتمع الحضارة اليمنية والحجازية في القرن الأول للهجرة؛ أي في القرن الذي هدأت فيه بالحجاز حركة الدعوة النبوية، كما هدأت فيه حركة السياسة بانتقال الدولة وعاصمتها إلى الشام، ثم بقيت له بعد هدوء هاتين الحركتين بقايا الترف القديم من عهد الجاهلية، وطوالع الترف الجديد في دولة الإسلام.
وتواترت الأنباء بمطارحاته الغرامية طوال أيام الشباب، ومعظم هذه الأنباء لا يعدو أن يكون منثور القصائد التي نظمها في ديوانه، فهي لا تحوجنا إلى تردد كثير، ولا إلى تمحيص طويل.
فمن ديوانه نعلم - قبل أن نعلم من سيرته - أنه كان منقطعا لأحاديث الظريفات من بنات مكة والمدينة، وكان ينتظر أيام الحج؛ ليلقى الحسان القادمات من العراق والشام واليمن، أو يتعرض لهن في الطواف فيجنبنه حينا ويزجرنه حينا مخافة التشهير، وهو القائل في وصف هذه المواقف:
وكم من قتيل لا يباء به دم
ومن غلق رهنا إذا ضمه منى
1
Unknown page
وكم مالئ عينيه من شيء غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
2 ... ... ... ... ... ... ... ...
فلم أر كالتجمير
3
منظر ناظر
ولا كليالي الحج يفتن ذا الهوى
إلا أن أناسا من أصحابه كانوا يعتقدون أنه على سنة الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، وسأله ابن أبي عتيق وهو أقربهم إليه: يا عمر! ألم تخبرني أنك ما أتيت حراما قط؟ قال: بلى، فاستخبره عن قوله:
وما نلت منها محرما غير أننا
كلانا من الثوب المورد لابس
Unknown page
فأجابه: والله لأخبرنك. خرجت أريد المسجد، وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا لبعض الشعاب، فلما توسطنا الشعب أخذتنا السماء، فكرهت أن يرى بثيابها بلل المطر فيقال لها: ألا استترت بسقائف المسجد إن كنت فيه؟ فأمرت غلماني فسترونا بكساء خز كان علي، وهو الثوب المورد المشار إليه.
وقال الزبير بن بكار: «لم يذهب على أحد من الرواة أن عمر كان عفيفا يصف ويقف، ويحوم ولا يرد.»
وأقسم هو مرة أنه ما اطلع على جسد حرام، وجاء في خبر آخر على لسانه ما يناقض هذا، حيث يقول سمرة الدوماني: «إني لأطوف بالبيت فإذا أنا بشيخ في الطواف، فقيل لي: هذا عمر بن أبي ربيعة. فقبضت على يده وناديته: يا ابن أبي ربيعة! فقال: ما تشاء؟ قلت: أكل ما زعمته في شعرك فعلته؟ فأومأ إلي: إليك عني. قلت: أسألك بالله، قال: نعم وأستغفر الله.»
وآخرون يسلمون غوايته أيام الشباب، ويقولون: إنه تاب وأقلع بعد المشيب. ومنهم من يقسمها شطرين متساويين فيقول: إنه عاش ثمانين، فتك منها أربعين ونسك أربعين.
واتفقت أقوال كثيرة على نسكه في مشيبه وإعراضه عما كان يقبل عليه في شبابه، فكان يلوم من يحدث امرأة في الطواف، وبلغ من إعراضه عن الغزل أنه أقسم لا ينظمن بيتا إلا أعتق به عبدا أو جارية، واستنشده الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة حجه فاعتذر إليه وقال: يا أمير المؤمنين! أنا شيخ كبير، وقد تركت الشعر، ولي غلامان هما عندي بمنزلة الولد، وهما يرويان ما قلت، وهما لك. فأنشداه ولم يزالا ينشدانه حتى قام وقد أجزل صلته ورد الغلامين إليه.
وقد يصح بعض هذا ولا غرابة فيه، فمن المستبعد جدا أن يكون عمر قد فعل كل ما ادعاه وإن كان قد اشتهاه، ومن الجائز أنه تاب وأخلص في التوبة بعد المشيب. فالتوبة ليست بالأمر النادر بعد فوات الشباب، وعمر مهيأ لها بشيء في طبيعة أسرته، كما يظهر من سيرة أخيه الحارث وولده جوان.
فقد كان أخوه الحارث متدينا شديد النفور من الغزل ومصاحبة الحسان، وقيل: إنه وهب أخاه عمر ألف دينار على أن يترك الغزل ولا يرجع إليه، وإنه كان عنده يوما، فأرسله في حاجة لهما ونام مكانه، فإذا بالثريا قد ألقت نفسها عليه تقبله. فصاح بها: اغربي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله. وعلم عمر بالخبر حين عاد فقال للحارث: أما والله لا تمسك النار أبدا، وقد ألقت نفسها عليك، فقال أخوه: عليك وعليها لعنة الله!
وعلى هذه الخليقة كان ابنه جوان الذي قال فيه العرجي:
شهيدي جوان على حبها
أليس بعدل عليها جوان؟
Unknown page
فغضب لزج الشاعر باسمه في هذا المقام، وقد كان أبوه يصبح ويبيت فيه!
وكان من تدين أبيهم في الجاهلية أنه كان ينفرد وحده بكسوة الكعبة سنة، وتجتمع قريش كلها على كسوتها في السنة الأخرى، وهو أمر إن دل على غناه من جانب، فهو من جانب آخر دليل على تقواه.
فالتوبة الدينية غير بعيدة من مزاج ابن أبي ربيعة الذي تتجلى فيه آثار الوراثة، وهي لا تغيب كل المغيب في حياة إنسان، وما زال معهودا بين كثير من الأسر التي تضطرب فيها الحساسية العصبية أن يظهر فيها التقاة، كما يظهر فيها الغواة؛ لأن الطرفين يلتقيان في خليقة «التأثر» على تناقض ما يتأثران به بعض الأحيان، وربما شوهد أن الغوي ينقلب إلى التقوى، وأن التقي ينقلب إلى الغواية إذا اعتراهما طارئ تختلف به وجهة التأثير.
ولكن المرء يتوب عن عمل يعمله، ولا يتوب عن مزاج طبع عليه، ولهذا نصدق أن عمر قد تاب، ونصدق أنه بقي إلى ختام الحياة يعاود الحنين إلى صبوات الشباب، وفي الشيخوخة عبث ذلك العبث الذي صبا به إلى لقاء شيخة كان يغازلها أيام الشباب، فلما جلس إليها وأحس حركة البنات الناشئات ينظرن من ثقوب الستر، دعا بماء يوهمها أنه سيشرب، ثم مجه عليهن في وجوههن، وراقه أن يتصايحن ويضحكن. وقال لصديقته العجوز وقد لامته على المجون والسفه في سنه: ما ملكت نفسي لما سمعت من حركاتهن أن فعلت ما رأيت.
هذا المزاج لا يتوب منه من طبع عليه، وهذا المزاج هو الذي ننظر إليه من وحي الشاعر في شعره، ولا تتغير دلالته من هذه الوجهة سواء صدق الشاعر في كل ما قال أو في بعض ما قال، وسواء تاب عن صدق أو خادع نفسه وصحبه في المتاب. (2) عصر ابن أبي ربيعة
لابن أبي ربيعة ديوان كبير يشتمل على بضعة آلاف بيت من الشعر، كلها في الغزل إلا القليل، وكل غزلها في الحوار والرسائل التي تدور بينه وبين حسان عصره وظريفاته.
ويستغرب قارئ الديوان أن ينصرف شاعر في جميع شعره إلى هذا الغرض دون غيره، وهو استغراب معقول يرد على كل خاطر للوهلة الأولى، إذا اقتصرنا على النظر إلى الديوان وحده، وقابلنا بين موضوعاته وموضوعات الشعراء المشهورين في الدواوين الكبيرة.
ولكنه استغراب لا يلبث أن يزول أو ينقلب إلى نقيضه إذا تجاوزنا الديوان إلى العصر الذي نظم فيه الديوان والبيئة التي عاش فيها الشاعر. فربما أصبح العجب عندئذ أن يتمخض ذلك العصر عن ديوان واحد، ولا يتمخض عن دواوين شتى من هذا القبيل، وأن يكون ابن أبي ربيعة شاعرا فردا في مجاله بغير نظير يحكيه في إكثاره وانقطاعه، وقد كان ينبغي أن يقترن به نظراء متعددون؛ لأن العصر الذي عاش فيه ابن أبي ربيعة في تلك البيئة التي نشأ بينها كان عصرا غزليا في جميع أطرافه، يشغله الغزل ولا يزال شاغله الأول فوق كل شاغل سواه، وربما عيب على الرجل أن يتجافى عنه ويتوقر منه، كأنه مطالب به مدفوع إليه، وليس قصارى الأمر فيه أن يسيغه ويأنس إليه.
فما من عالم ولا فقيه ولا أمير ولا سري بلغت إلينا أخباره وأحاديثه إلا كان له من رواية الغزل والاستماع إليه نصيب موفور، وما من شدة كانت لا تلين له حتى شدة المحارم والحرمات.
كان ابن عباس - رضي الله عنه - في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق وجماعة من الخوارج يسألونه ويستفتونه؛ إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين حتى دخل وجلس، فأقبل عليه ابن عباس يستنشده من شعره، فأنشده الرائية التي يقول في مطلعها:
Unknown page
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
إلى أن أتمها.
فالتفت إليه نافع بن الأزرق قائلا: «الله يا ابن عباس! إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك غلام مترف فينشدك:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيخزى وأما بالعشي فيخسر
فبادره ابن عباس قائلا: ليس هكذا قال، إنما قال:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
4
Unknown page
وعجب نافع من حفظ ابن عباس للبيت، فأعاد عليه القصيدة كما جاء في بعض الروايات من مطلعها إلى ختامها. وقال لمن لامه في حفظها: إنا نستجيدها. ثم أقبل على ابن أبي ربيعة يستزيده فأنشده:
تشط غدا دار جيراننا
وسكت، فقال ابن عباس:
وللدار بعد غد أبعد
فقال له عمر: كذلك قلت - أصلحك الله - أفسمعته؟
قال: لا، ولكن كذلك ينبغي.
وكان بعد ذلك كثيرا ما يسأل: هل أحدث هذا المغيري شيئا بعدنا؟ •••
وروي أن نوفل بن مساحق دخل مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فمر بسعيد بن المسيب في مجلسه وحوله أصحابه فسلم عليه فرد السلام ثم سأله: يا أبا سعيد! من أشعر؟ أصاحبنا أم صاحبكم؟ يريد عبد الله بن قيس وعمر بن أبي ربيعة، فقال نوفل: حين يقولان ماذا يا أبا محمد؟ فأنشده أبيات عمر:
Unknown page
خليلي ما بال المطايا كأنما
نراها على الأدبار بالقوم تنكص
وقد قطعت أعناقهن صبابة
فأنفسنا مما يلاقين شخص
وقد أتعب الحادي سراهن وانتحى
بهن فما يألو عجول مقلص
5
يزدن بنا قربا فيزداد شوقنا
إذا زاد طول العهد والبعد ينقص
ثم قال: حين يقول صاحبكم ما تشاء!
Unknown page
فأجابه نوفل: صاحبكم أشعر في الغزل، وصاحبنا أكثر أفانين شعر.
قال سعيد: صدقت. ثم انقضى ما بينهما من ذكر الشعر فجعل سعيد يستغفر الله ويعقد بيده حتى وفى مائة.
فاتجه سائل إلى نوفل يسأله: أتراه استغفر الله من إنشاد الشعر في مسجد رسول الله؟ قال نوفل: كلا! هو كثير الإنشاد والاستنشاد للشعر فيه، ولكن أحسب ذلك للفخر بصاحبه.
وكان شأن الأمراء والرؤساء في هذا كشأن العلماء والفقهاء؛ فحدث الشعبي أنه دخل المسجد فإذا بمصعب بن الزبير على سرير والناس عنده، فسلم وهم بالانصراف، فاستدناه مصعب ودعاه أن يتبعه إذا قام.
قال الشعبي: فجلس قليلا ثم نهض إلى دار موسى بن طلحة وأنا أتبعه، ثم دعاني إلى الدخول فدخلت معه إلى حجرته ووقفت، فالتفت إلي وقال: ادخل، فدخلت معه فإذا حجلة، وإنها لأول حجلة رأيتها لأمير، وسمعت حركة فكرهت الجلوس ولم يأمرني بالانصراف، وإذا بجارية تناديني: يا شعبي! إن الأمير يأمرك أن تجلس. فجلست على وسادة ورفع سجف الحجلة
6
فإذا أنا بمصعب بن الزبير، ثم رفع سجف آخر فإذا أنا بعائشة بنت طلحة، فلم أر زوجا قط كان أجمل منهما. فقال مصعب: يا شعبي! هل تعرف هذه؟ قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة! قال: لا، ولكن هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر:
وما زلت من ليلى لدن طر شاربي
إلى اليوم أخفي حبها وأداجن
7
Unknown page
وأحمل في ليلى لقوم ضغينة
وتحمل في ليلى علي الضغائن
ثم قال: إذا شئت فقم.
قال الشعبي: فلما كان العشي ذهبت إلى المسجد فإذا هو جالس على سريره. فاستدناني حين رآني حتى وضعت يدي على مرافقه، ثم مال إلي فقال: هل رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟ قلت: لا والله! فسألني: أفتدري لم أدخلناك؟ قلت: لا! قال: لتحدث بما رأيت. ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة أن يعطيني عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا. فما انصرف أحد بمثل ما انصرفت به: عشرة آلاف درهم، ومثل كارة القصار
8
ثيابا، ونظرة من عائشة بنت طلحة.
والشعبي صاحب هذه القصة الذي حسب النظرة من غنائم يومه هو أكبر الرواة في زمانه والثقة الحجة فيما حفظ من الأحاديث النبوية.
ومصعب بن الزبير هو الأمير الذي نازع ونوزع في الولاية وعاش على خطر من القتل حتى قتل، وهو مع ذلك مشغول بالغزل كما رأيت ومشغول بأن يصبح هو وزوجه حديثا غزليا للمتحدثين.
لا جرم يكون من تمام مروءة السري يومئذ أن يعيش للغزل وأن يسعى بالوساطة فيه، فكان ابن أبي عتيق - وهو من سلالة أبي بكر الصديق - يتشفع لعمر بن أبي ربيعة عند صديقته الثريا ولا يرى في الدنيا خيرا إذا تم الصدع بينهما.
حدث مولاه بلال أن سيده أنشد أبيات عمر التي يقول منها:
Unknown page
من رسولي إلى الثريا فإني
ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
فصاح: إياي أراد، وبي نوه، والله لا أذوق أكلا حتى أشخص فأصلح بينهما. ونهض ونهضت معه، فاكترى راحلتين وسار سيرا شديدا فقلت: أبق على نفسك، فإن ما تريد ليس يفوتك!
فقال: ويحك، أبادر حبل الود أن يتقضبا.
9
وما حلاوة الدنيا إن تم الصدع بين عمر والثريا؟ «فقدمنا مكة ليلا غير محرمين، فدق على عمر بابه وسلم عليه، ولم ينزل عن راحلته، وقال له: اركب أصلح بينك وبين الثريا، فأنا رسولك الذي سألت عنه! وقدمنا الطائف فقال ابن أبي عتيق للثريا: هذا عمر قد جشمني السفر من المدينة إليك، فجئتك به معترفا لك بذنب لم يجنه، معتذرا من إساءته إليك، فدعيني من التعداد والترداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون. فصالحته أحسن صلح وأتمه وأجمله، وكررنا إلى مكة فلم ينزلها ابن أبي عتيق حتى رحل ...»
فالعصر الذي يكون هذا شأن الغزل عند علمائه وأمرائه وأصحاب المروءة فيه لا جرم يكون الغزل حاجة من حاجاته التي لا يشبع منها، ويكون شعر الشاعر الواحد قليلا في التعبير عن هذه الحاجة التي تعم كل بنيه وبناته، وتشغل كل متحدثيه ومتحدثاته.
وقد كانوا يحسون حاجتهم إلى مثل ذلك الشاعر ويقولون: إنهم يحسونها ويفتقدونها، فلما مات عمر بن أبي ربيعة حزنت عليه نساء مكة، وكانت إحداهن بالشام فبكت وجعلت تقول: من لأباطح مكة؟ ومن يمدح نساءها ويصف محاسنهن؟ وعزاها بعضهم فقال: إن فتى من ولد عثمان بن عفان قد نشأ على طريقته وأنشدها بعض كلامه، فتسلت وقالت: هذا أجل عوض، وأفضل خلف، فالحمد لله الذي خلف على حرمه وأمته مثل هذا.
وجاء في أخبار كثير بن عبد الرحمن الشاعر أنه مات وعكرمة مولى ابن عباس في يوم واحد. فقال الناس: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس، وغلب النساء على جنازة كثير يبكينه ويذكرن صاحبته عزة في ندبتهن له. وأقبل محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يشق طريقه ويضرب النادبات بكمه قائلا: تنحين يا صويحبات يوسف! فتصدت له امرأة منهن تقول: يا ابن رسول الله لقد صدقت؛ إنا لصويحبات يوسف وقد كنا له خيرا منكم له. فأوصى بعض مواليه أن يحتفظ بها حتى يجيئه بها بعد انصرافه، ثم جيء بتلك المرأة كأنها شرارة النار كما قال راوي القصة، فسألها محمد بن علي: أنت القائلة إنكن ليوسف خير منا؟ قالت: نعم، تؤمنني غضبك يا ابن رسول الله؟ قال: أنت آمنة من غضبي فأبيني. قالت: نحن يا ابن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم، وأنتم - معاشر الرجال - ألقيتموه في الجب وبعتموه بأبخس الأثمان وحبستموه في السجن، فأينا كان عليه أحنى وبه أرأف؟ فقال محمد: لله درك! ولن تغالب امرأة إلا غلبت. ثم سألها: ألك بعل؟ فأجابته: لي من الرجال من أنا بعله! قال أبو جعفر: صدقت! مثلك من تملك بعلها ولا يملكها ... •••
تلك حال العصر وحال ساداته وسيداته من الغزل وأحاديثه، فليس العجب أن تستغرق هذه الأحاديث ديوان شاعر واحد ضخم أو صغر، وإنما العجب أن ينفرد ابن أبي ربيعة بطريقته وديوانه في ذلك العصر ولا يكثر معه الأنداد والنظراء، ولكل منهم مثل ذلك الديوان.
Unknown page
والواقع أن مثل هذا الانفراد عجيب لولا أن نرجع إلى الحقيقة برمتها ولا نقف عند النظرة الأولى إلى العصر كله على الإجمال.
فابن أبي ربيعة لم يكن شاعر الغزل في العصر كله، ولكنه كان في الحقيقة شاعر الطبقة الوادعة المترفة من أبناء ذلك العصر وبناته دون غيرها، وهي طبقة يعد أفرادها بالعشرات ولا يتجاوزونها إلى المئات، ومن كان من شعرائها يساويه في الحسب والجاه كالحارث بن خالد أو العرجي سليل عثمان بن عفان؛ فقد كان له شاغل آخر عن الغزل ومصاحبة الحسان، فكان الحارث واليا لمكة وكان العرجي يشهد الوقائع بأرض الروم، وكانا مع ذلك دون عمر في الملكة الشعرية والطبيعة الغزلية، فإذا اجتمع التعبير عن الطبقة كلها في الديوان الكبير الذي نظمه عمر بن أبي ربيعة فذلك حسب تلك الطبقة من حديث منظوم.
فهو وحده كان الشاعر المكثر بين الوادعين المترفين من أهل زمانه، وكان مكانه في طبقته يبيحه أن ينقل عنها وتنقل عنه، ويسمع منها وتسمع منه، ويختلط بها وتختلط به على سنة المصاحبة والمساواة. فقد كان في الذؤابة من بيوت قريش غنى وجاها وحسبا، وكان همه موكولا بمن يساوينه في الطبقة من بنات تلك البيوت؛ إذ لا نعرف من أخباره خبرا واحدا شبب فيه بفتاة من غير ذوات الشارات والأحساب، وإن عرض ببيت هنا وبيت هناك لفتاة من زائرات الحج المجهولات النسب فمن المحقق أن يكون مغريه بها النعمة البادية والسمة التي تنم على الرفاهة والرخاء، ثم لا يتعقبها إلى زمن طويل.
أما حسانه اللائي اشتهر بالحديث عنهن وأحب أن يتسم بحبهن فكلهن من ذوات الحسب والثراء، ومن طبقة محدودة لها ذوقها الخاص الذي لا يشبه عامة الأذواق.
فعائشة بنت طلحة التي تقدمت الإشارة إليها هي بنت طلحة بن عبيد الله وحفيدة أبي بكر الصديق من ناحية أمها، وزوجة مصعب بن الزبير، وصاحبة الشهرة المستفيضة بالترف والعبث بالمال، فمن أخبارها أن مصعبا دخل عليها وهي نائمة في الصباح ومعه ثماني لؤلؤات تقوم بعشرين ألف دينار، فنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها، فما زادت على أن قالت: نومتي كانت أحب إلي من هذا اللؤلؤ.
والثريا - ولعلها أحظى حسانه عنده - هي بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس، ولها من الدور والرياض والمال حظ موفور.
والسيدة سكينة بنت الحسين، وفاطمة بنت عبد الملك بن مروان لهما في النسب والثراء مكان لا يعلوه في زمانهما مكان، ويلحق بهما من قريب أو بعيد حسان أخريات كلهن من كبار البيوتات كزينب بنت موسى، وهند بنت الحارث المرية، ومن يشير إليهن بوصف النعمة والبذخ فيدل على طبقتهن، وإن لم يصرح بالكنى والأسماء.
وعلى هذا لا عجب أن ينفرد عمر بحديثه المنظوم عن هذه الطبقة فهو شاعرها الذي اجتمع له من أسباب التعبير عنها ما لم يجتمع لغيره.
ولا عجب أن يترك لنا ديوانا كاملا كله رسائل غرام؛ لأنه كان يعبر عن حاجة من حاجات عصره تتسع لدواوين.
وقد يكون من تمام العلم بذلك الغزل الذي تفوق فيه أن نعلم ما هو الترف الذي كان من أهله وكان موكولا بوصفه، فهو على الجملة ترف ساذج لا يخلو من مسحة البداوة، وقد تبدو سذاجته في الدلال الخشن كما تبدو في إظهار النعمة بالمكاثرة والمباهاة التي يعوزها الصقل والطلاء. فمن الدلال الخشن أن تترفع عائشة بنت طلحة عن ثماني لآلئ بعشرين ألف دينار وهي لو طارت بها فرحا لكانت في ذلك غرارة طفولة هي أملح من كل ذلك الدلال، وسنرى في فصول هذه العجالة المقبلة أن الثريا كانت تلبس الخواتم كسائر بنات عصرها في جميع أصابعها، وأنها لطمت بيدها وجه عمر حتى أوشكت أن تخلع ثنيتيه! ونرى أن إحدى معشوقاته ضربت جارية أرسلها إليها. فمن الواضح أن نلمس أثر ذلك كله في غزل ابن أبي ربيعة وفي دلاله وهو بصبوته وشارته ومركبه وملبسه وشهرته الغرامية. فمن هنا كان شاعر عصره وشاعر طبقته وشاعر طريقته في الغزل لا مراء. (3) طبيعة غزله
Unknown page
كانت العلاقة بين الرجل والمرأة في قبائل العرب البادية على سنة الفطرة بين الجماعات البشرية الأولى، ولكن الفطرة لا تكون على حالة واحدة؛ إذ تغلب عليها القوة كما يغلب عليها الضعف، وتوصف بالعرام والشدة كما توصف بالسهولة واللين، وتظل على البساطة كما يعرض لها بعض التركيب ويعتريها شيء من التعقيد.
ففي البداوة الأولى كانت مناعة الحوزة هي الفضيلة العليا التي لا تعلو عليها فضيلة أخرى؛ لأنها غاية ما يتمناه البدوي في كفاح العيش ليضمن بقاءه بين منافسيه والمغيرين عليه.
فالقبيلة الشريفة هي القبيلة التي تمنع ماءها ومرعاها، وتذود عن جيرتها وحماها، والسيد الشريف هو الرجل الذي لا يستخف بجواره، ولا يعتدى على ذماره، والمرأة الشريفة هي التي يصعب منالها ولا يسلس قيادها فالعفة هنا فضيلة «حربية» تابعة للفضائل العامة التي تغلب على أحوال القبيلة برمتها: معقل منيع، وسيد منيع، وبئر منيعة، وامرأة منيعة، وقس على ذلك كل ما تطلب فيه الحصانة والاستعصاء. •••
وإذا نظرنا إلى المرأة من حيث هي عرض الرجل الذي يحميه ويغار عليه فلا جرم يصبح اللغط باسم المرأة إهانة لها وإهانة للرجل الذي يحميها في وقت واحد، ويبلغ من ذلك أن يحرم على الفتاة الزواج بالفتى الذي اشتهر بحبها ونظم الشعر فيها، هذا هو عرف الفطرة الذي توحيه البداوة والبداهة.
ثم يجيء سلطان الدين فيضيف إلى حصانة البداوة مناعة إلى مناعة، ويزيد حق أولياء النساء في حماية أسمائهن والمطالبة بعقاب من يغازلهن ويلغط بذكرهن؛ لأن اللغط بهن ازدراء بأقدار أوليائهن وحرام في الدين. •••
لكن الأدب البدوي يدركه أحيانا عرض من أعراض التغير أو الانحلال لجدب شديد يحطم قيوده ويهدم حدوده، أو لترف تنغمس فيه القبيلة، فتلين بعد جفاء وتتراخى بعد صلابة، أو لقلة الحاجة إلى القتال ونخوة العداء التي تجعل المناعة فضيلة الفضائل ومعقد الأخلاق والآداب، أو لما يحدثه النعيم من حب الدعابة والسخر بالجلافة وإن اشتملت على سطوة وانطوت على إباء.
فترى إذن من سهولة الغزل بين الرجل والمرأة ما تستغرب أن تراه في حاضرة من حواضر العصر الحديث؛ لأن المتغزل البدوي قد يستخف بحواجز البداوة وحواجز الحضارة على السواء، أما الحضري من أبناء العصر الحديث فقد يعرف له حدودا تثنيه ولا يحسن به أن يتخطاها في بعض الأحاديث والمساجلات، وإن استطاع.
حدث أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة يزيد بن الطثرية فقال ما ننقله بتصرف يسير: ... كان كثيرا ما يتحدث إلى النساء.
قالت سعاد بنت يزيد: كان من أحسن من مضى وجها وأطيبه حديثا، وإن النساء كانت مفتونة به.
وأمحل الناس حتى ذهبت الدقيقة من المال وتهتكت الجليلة، فأقبل صرم
Unknown page
10
من جرم ساقته السنة والجدب من بلاده إلى بلاد قشير وبينهم وبين قشير حرب عظيمة.
فلم يجدوا بدا من رميهم بأنفسهم؛ لما قد ساقهم من الجدب والمجاعة وما أشرفوا عليه من الهلكة.
ووقع الربيع في بلاد بني قشير فانتجعها الناس وطلبوها، فلم يعد أن لقيت جرم قشيرا فنصبت قشير لهم الحرب. فقالت جرم: إنما جئنا مستجيرين غير محاربين ... فأجارتهم قشير وسالمتهم وأرعتهم طرفا من بلادها.
وكان في جرم فتى يقال له مياد، وكان غزلا حسن الوجه تام القامة آخذا بقلوب النساء.
والغزل في جرم جائز حسن وهو في قشير نائرة.
فلما نازلت جرم قشيرا وجاورتها أصبح مياد الجرمي، فغدا إلى القشيريات يطلب منهن الغزل والصبا والحديث واستبراز الفتيات عند غيبة الرجال. فدفعنه عنهن وأسمعنه ما يكره، وراحت رجالهن عليهن وهن مغضبات، فقال عجائز منهن: والله ما ندري أأرعيتم جرما المرعى أم أرعيتموهم نساءكم؟
وأشار بعض القوم أن يبيتوا جرما فيصطلموها، واستقبحه بعضهم لما فيه من غدر بالجوار، وقالوا: لا تفعلوا. ولكن تصبحون وتتقدمون إلى هؤلاء القوم في هذا الرجل فإنه سفيه من سفهائهم، فليأخذوا على يديه. فإن يفعلوا فأتموا لهم إحسانكم، وإن يقروا ما كان منه يحل لكم البسط عليهم وتخرجوا من ذمتهم.
فلما أصبحوا غدا نفر منهم إلى جرم، فقالوا: ما هذه البدعة التي قد جاورتمونا بها؟ إن كانت هذه البدعة سجية لكم فليس لكم عندنا إرعاء ولا إسقاء، وإن كانت افتتانا فغيروا على من فعله.
فقهقهت جرم من جفاء القشيريين وعجرفيتهم، وقالوا: إنكم لتحسون من نسائكم ببلاء. ألا فابعثوا إلى بيوتنا رجلا ورجلا.
Unknown page
قالوا: والله ما نحس من نسائنا ببلاء، وما نعرف عنهن إلا العفة والكرم. ولكن فيكم الذي قلتم!
قالوا: فإنا نبعث رجلا إلى بيوتكم يا بني قشير إذا غدت الرجال وأخلف النساء، وتبعثون رجلا إلى بيوتنا، ونتحالف أنه لا يتقدم رجل منا إلى زوجة ولا أخت ولا بنت ولا يعلمها بشيء مما دار بين القوم.
حتى إذا كان الغد غدوا إلى الماء وتحالفوا أنه لا يعود إلى البيوت منهم أحد دون الليل. وغدا مياد الجرمي إلى القشيريات، وغدا يزيد بن الطثرية إلى الجرميات، فظل عندهن بأكرم مظل لا يصير إلى واحدة منهن إلا افتتنت به وتابعته إلى المودة والإخاء، وقبض منها رهنا، وسألته ألا يدخل من بيوت جرم إلا بيتها. فيقول: وأي شيء تخافين وقد أخذت مني المواثيق وليس لأحد في قلبي نصيب غيرك؟
ثم صليت العصر فانصرف يزيد بفتخ
11
وبراقع، مكحولا مدهونا شبعان ريان مرجل اللمة.
أما مياد الجرمي فظل يدور بين بيوت القشيريات مرجوما مقصى لا يتقرب إلى بيت إلا استقبلته الولائد بالعمد والجندل، فتهالك لهن وظن أنه ارتياد منهن له، حتى أخذه ضرب كثير بالجندل ورأى اليأس منهن وجهده العطش، فانصرف إلى سمرة قريبا إلى نصف النهار نام تحتها نويمة وتوسد يديه فسكن بعض ما به من ألم الضرب وبرد عطشه قليلا، ثم قرب على الماء حتى ورد على القوم قبل يزيد، فوجد أمة تذود غنما في بعض الظعن فأخذ برقعها وألقى به وهو يقول: برقع واحدة من نسائكم! وجاءت الأمة تعدو فتعلقت ببرقعها فردوه عليها وهو خجل.
ثم أقبل يزيد ممسيا وقد كاد القوم أن يتفرقوا، فنثر كمه بين أيديهم ملآن براقع وفتخا، وقد حلف القوم ألا يعرف رجل شيئا إلا رفعه.
فلما نثر ما معه اسودت وجوه جرم وأمسكوا بأيديهم إمساكا ... فقالت قشير: أنتم تعرفون ما كان بيننا أمس من المواثيق، فمن شاء أن ينصرف إلى حرام فليمسك يده ... •••
وأعجب من هذا في استباحة الغزل أو استحسانه ما رواه ياقوت في مادة «رباط» من معجم البلدان؛ حيث قال في وصف أهل هذا البلد: «أهله عرب، وزيهم زي العرب القديم، وفيهم صلاح مع شراسة في خلقهم وزعارة وتعصب، وفيهم قلة غيرة كأنهم اكتسبوها بالعادة. وذلك أنه في كل ليلة تخرج نساؤهم إلى ظاهر مدينتهم، ويسامرن الرجال الذين لا حرمة بينهن وبينهم، ويلاعبنهم ويجالسنهم إلى أن يذهب أكثر الليل، فيجوز الرجل على زوجته وأخته وأمه وعمته وإذا هي تلاعب آخر وتحادثه فيعرض عنها، ويمضي على امرأة غيره فيجالسها كما فعل بزوجته.
Unknown page
وسألت رجلا عاقلا منهم أديبا، فقلت له: بلغني عنكم شيء أنكرته ولا أعرف صحته!
فبدرني وقال: لعلك تعني السمر؟
قلت: ما أردت غيره!
فقال: الذي بلغك من ذلك صحيح، وبالله أقسم إنه لقبيح، ولكن عليه نشأنا وله قد ألفنا، ولو استطعنا أن نزيله لأزلناه، ولو قدرنا لغيرناه. ولكن لا سبيل إلى ذلك مع ممر السنين عليه واستمرار العادة.» •••
والملحوظ من كل ما قدمناه أن خفض العيش وقلة الحاجة إلى نخوة القتال لهما اتصال بما شوهد من سهولة الغزل بين القبائل العربية، ولهذا كان أكثره إلى سلالات اليمن التي عرفت منذ القدم باسم «العربية السعيدة» لخفض عيشها ورقة أخلاقها، أو كما قيل: إنها «تلك اليمانية الضعيفة قلوبها».
وعندنا أن أهل البادية أقرب إلى الغزل - متى ارتفع وازع الصولة أو ارتفعت سطوة الدين - من أهل الحاضرة، خلافا لما يبدر إلى الظن أول وهلة؛ لأن أهل البادية أقرب إلى غرائز الأحياء الفطرية فيما يعالجونه من أنفسهم ومن سياسة المخلوقات الحية التي يرعونها ويعيشون عليها، ولأنهم كذلك أوفر نصيبا من الفراغ، وأدنى إلى اللقاء، وأقل من أهل المدن الكبيرة أندية وملاعب للرياضة العامة يقضون فيها سويعات البطالة والراحة، فإذا تيسر الرزق ولانت الشكائم وذهبت الغرائز في مداها كان اللهو ديدنا لا فكاك منه لمن فرغوا له واستطاعوه، ولم يجدوا مصرفا عنه إلى غيره، وحسبوه ظرفا وملاحة لا يليقان بغير أهله.
وقد نشأ شاعرنا - عمر بن أبي ربيعة - في حواضر الحجاز، تلك الحواضر التي كانت لعهده وسطا بين البادية والمدينة العامرة.
فلم تكن خياما ولا بيوتا من الشعر منقطعة عن العمار، ولكنها لم تكن كذلك صروحا ولا عواصم مستقلة بنفسها على مثال دمشق ومصر والقسطنطينية.
إنما كانت على الحقيقة مثابة الحجاج والقوافل ومنازل يأوي إليها المغتربون إلى حين، ويسكنها أهلها لضيافة من يقصدها من غير أهلها في موسم الحج أو مواسم التجارة والارتياد، فهي كالمحلة الصحراوية التي لا تشبه الصحراء، ولا تبلغ مبلغ العاصمة من استبحار العمار.
وكانت وسطا بين غرام البادية كما نعرفها في الأعراب وبين ذلك الاسترخاء الذي أنبأنا به أبو الفرج في الأغاني وياقوت في معجم البلدان.
Unknown page
فأسلس أبناء القبائل الذين سكنوها بعد خشونة وجفاء، ولكنهم لم ينسوا نخوة العرض ومنعة المحارم؛ فلما شبب عمر بن أبي ربيعة بعائشة بنت طلحة من تيم بني مرة كبر الأمر على فتيان تيم، فأنذروه لا يعودن إلى مثل ذلك، وإلا أصابه شر من أيديهم، فأقسم لا عاد.
ولانت شدة الدين بعد الخلفاء الراشدين، ولكنها لم تبطل، ولم تتحلل في العرف الشائع بين الناس؛ بل كان عمر يلهو ما يلهو ويتغزل ما يتغزل، ثم لا ينسى أن يعلن مع هذا جاهدا أنه لا يستبيح محرما ولا يأتي بريبة، ولا يزال على سنة الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون.
ولعل عائشة بنت طلحة كانت مثل المرأة الشريفة في تلك الآونة: تعطي حق الحياء والدين، وتعطي معه حق النعمة والجمال، فكانت تترفع عن الريب، ولكنها لا تستر وجهها عن أحد. وإذا عاتبها زوجها في ذلك قالت - وفي كلامها قبس من حجة الدين وحجة الدنيا: «إن الله وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس، ويعرفوا فضله عليهم فما كنت لأستره، ووالله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد ...»
قال صاحب الأغاني: «وطالت مراودة مصعب إياها في ذلك، وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء بني تيم هن أشرس خلق الله وأحظى عند أزواجهن. وكانت عند الحسين بن علي - رضوان الله عليهما - أم إسحاق بنت طلحة، فكان يقول: والله لربما حملت ووضعت، وهي مصارمة لي لا تكلمني!»
وهذا مثل المرأة التي لا تنسى جمالها، ولا تنسى بداوتها، ولا تنسى دينها، ثم تأتي النساء دون ذلك درجات ممن وصفهن ابن أبي ربيعة فقال:
فلما تفاوضنا الحديث وأسفرت
وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما عرفني
وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
12
Unknown page
وقربن أسباب الهوى لمتيم
يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا
فهن جميعا مزهوات بجمالهن، حريصات على أن يشهدن أثره ويسمعن حديثه، مشغولات بجده ولهوه، في عزة تتفاوت بين الصلف وبين تقريب أسباب الهوى لمن يحسن الاقتراب ويتجنب الارتياب.
فمن الطبيعي أن ينشأ الغزل في هذه البيئة التي تغري فيها المرأة بالغزل وتصغي إليه.
ومن الطبيعي أن ينشأ الشعراء الغزلون الذين يوافقون هذه البيئة من طرفيها، بين جد وشغف، وبين لهو وتزجية فراغ.
وقد التفت إلى حديث المرأة كثير من الشعراء في ذاك العصر وفي تلك البيئة غير عمر بن أبي ربيعة، وعلى غير طريقته ومنحاه، فكانوا على الجملة مدرستين مختلفتين في النزعة والسليقة وجوهر العاطفة، وإن تشابهتا في ظاهر المعنى وظاهر الحنين والشكوى.
إحدى هاتين المدرستين هي مدرسة الشعراء الذين اشتهروا بحب امرأة واحدة كما اشتهر قيس بليلى، وعروة بعفراء، وجميل ببثينة، وكثير بعزة، وتوبة بليلى.
والمدرسة الأخرى هي مدرسة الشعراء الذين تغزلوا بأكثر من امرأة واحدة أو اشتهروا بحب النساء عامة، كعمر والأحوص والعرجي وقيس الرقيات.
والفرق - كما أسلفنا - بعيد بين العاطفة التي توحي شعر المدرسة الأولى والعاطفة التي توحي شعر المدرسة الأخرى؛ لأن علاقة رجل بامرأة واحدة يبقى على حبها زمنا طويلا أو يبقى على حبها مدى الحياة هي حادث لا يتكرر كل يوم ولا بد فيه من عامل الشخصية التي تفرز المرأة من سائر النساء، ويصح أن يقال إن هذه العلاقة «إصابة حب» كسائر الإصابات التي يتعرض لها الإنسان، فتطول أو لا تطول، وتصيبه وهو مستعد لها، أو تصيبه على غير استعداد. فإنما المهم في تمييزها أنها إصابة عارضة وحادث من عوارض الأحداث.
أما حب الغزل بالنساء عامة فهو مزاج يلازم صاحبه ملازمة الأمزجة للطبائع، ولو لم يتصل بنساء معروفات، فهو مخلوق على هذا المزاج كما يخلق الإنسان بلون من الألوان أو صفة من الصفات.
Unknown page
فالرجل المغرم بحديث النساء ومجالستهن ومناوشتهن يقصد الجنس ولا يقصد الشخصية، ويستطيع أن يرضي شعوره هذا دون أن يتقيد بأخلاق الوفاء وآداب العشق وخصال التضحية والصبر والتعذيب النفسي، الذي لا معنى له عند من يتحدث اليوم إلى امرأة أو نساء كثيرات متجمعات، ويتحدث غدا إلى امرأة أخرى أو نساء كثيرات أخريات.
أما الرجل الذي «يفرز» بحبه امرأة دون غيرها ففي نفسه عوامل أدبية وعهود أخلاقية وبواعث روحية لا موضع لها في الحالة السابقة ولا حاجة إلى التعبير عنها في شعر الغزلين المولعين بجميع النساء، إلا على سبيل التجمل بالمحاكاة.
فالمدرستان مختلفتان أيما اختلاف في مقاييس الشعور ومقاييس الجنس ومقاييس الأخلاق، ولا يجمع بينهما إلا تشابه الكلام في ظاهره دون التشابه في الباعث والاتجاه.
ولا يقدح فيما تقدم من التفريق أن بعض العشاق يخون وأن بعض اللاهين بالغزل يعشقون، فقد علمنا أن يزيد بن الطثرية أحب امرأة حتى أشرف على الهلاك، وأن عمر تزوج ببعض من كان ينسب بهن. كما علمنا أن كثيرا امتحن في حبه فظهر غدره وقلة وفائه، وهذا وذاك جائزان في الطبائع الآدمية ولكنهما لا ينقضان الحقيقة التي لا جدال فيها، وهي أن طبيعة العشق غير طبيعة اللهو والغزل، وأن نفس الرجل الذي يعشق امرأة واحدة غير نفس زير النساء المشغوف بالسمر الأنثوي والمناوشة الجنسية. كالفندق يتفق في أيام أن ينفرد بالإقامة فيه نازل واحد، وكالبيت يتفق في أيام أن ينزل فيه ضيوف كثيرون، ولكن هذا لا يمنع أن الفندق غير البيت وأنهما يختلفان في البناء والتأثيث والإدارة والغرض والمعاملة، وأن التشابه بينهما من المصادفات وليس من النظام المطرد في جميع الأحوال.
إن العاشق الذي يخون حبيبته لا يشبه زير النساء الذي يتصل بنساء كثيرات؛ لأن خيانة العاشق المفرد معناها أنه مطالب بالوفاء والعكوف على حب امرأة واحدة فإذا خان هذه المرأة الواحدة لم يصبح زير نساء بل أصبح عاشقا مخلا بالوفاء.
أما الآخر الذي يتصل بنساء كثيرات فلا يقال فيه إنه مخل بالوفاء ولا يواجه المرأة بالعاطفة التي تقبل الوفاء. فهما في صميم الاستعداد مختلفان، وإن كانا في ظاهر الفعل متشابهين. •••
وقد كان عمر بن أبي ربيعة إمام مدرسة اللاهين بالغزل غير مدافع، أو كان أصلح زملائه لإتقان هذه الصناعة؛ لأنه كان على يسار يعينه على اللهو والفراغ، وكان على وسامة مقبولة وشأن يرفع من شأن غزله في قلوب النساء، وكان للوراثة دخل في غزله إذا صح ما قيل في ترجمة حياته إن أمه «كانت أم ولد يقال لها مجد سبيت من حضرموت أو من حمير، ومن هناك أتاه الغزل إذ يقال غزل يمان ودل حجازي...» وقد تقدم من وصف غزل اليمانية في بدوهم وحضرهم ما يزكي هذه الملاحظة ويعززها. فإذا نحن أضعفنا قول القائلين بانتقال الأخلاق من الأمهات إلى الأبناء من طريق الوراثة وهو غير ضعيف في حكم العلم ولا في حكم التجربة؛ فليس في وسعنا أن نضعف القول بتأثير العادة وانتقال الأخلاق من طريق الملازمة والمشاهدة.
وربما رشحه للسبق في هذه الصناعة جانب أنثوي في طبعه يظهر للقارئ من أبياته الكثيرة، التي تنم على ولع بكلمات النساء واستمتاع بروايتها والإبداء والإعادة فيها، مما لا يستمرئه الرجل الصارم الرجولة. وأدل من ولعه بكلمات النساء على الجانب الأنثوي في طبعه أنه كان يشبههن في تدليل نفسه وإظهار التمنع لطالباته كما يبدو من قوله:
قالت ثريا لأتراب لها قطف
13
Unknown page