Series of Faith and Disbelief - Introduction
سلسلة الإيمان والكفر - المقدم
Genres
أثر المعاصي على الإيمان
نذكر كلامًا للأستاذ محمد سرور بن نايف زين العابدين في كتابه: (الحكم بغير ما أنزل الله وآفة الغلو) وهو أحد المراجع التي تناقش فكر ما يسمى بجماعة التكفير والهجرة.
وهذا مصطلح سياسي؛ لأنهم سموا أنفسهم: جماعة المسلمين، وهذا مسمى خطير بلا شك؛ لأنه يعني أن من ليس في جماعتهم فليس مسلمًا، وهذه من المجازفات التي سوف نتعرض لها إن شاء الله.
وقبل أن نناقش كلامه في قضية التكفير نتقدمه بهذا التنبيه الذي فيه التحذير من المعاصي، وأن الإنسان لا يتهاون بها، وإذا كنا سنناقش فعلًا أن العاصي لا يخلد في النار، وأن الفاسق الموحد الفاسق لا يخرج من الإيمان بالكلية، وإنما ينقص إيمانه، فليس معنى هذا أن يتهاون الناس في المعاصي.
يقول: حبب الله تعالى إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وأمرنا بطاعته وتقواه في السر والعلن، وحذرنا من الذنوب والمعاصي؛ لأنها تميت القلوب، وتورث الذل والندامة.
يقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:١١٠].
وقال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات:٧].
كفى المذنبين العصاة ما توعدهم به ربهم على لسان خاتم أنبيائه ﷺ ومن ذلك قوله: (لا يدخل الجنة قتات، أي: نمام).
وقوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مرات، فقلت: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)، يعني: التاجر حين يبيع فيحلف أنه لا يكسب منها إلا كذا وكذا، فينفق السلعة، وكما جاء في الحديث: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة).
صحيح أنه يروج السلعة على المشتري، لكن في نفس الوقت هذا الحلف يذهب بركة هذا البيع، ويقول النبي ﷺ: (قال الله ﷿: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره، فويل لمن كان الله خصمه يوم القيامة)، ويل له إذا لم يسارع إلى التوبة والاستغفار، وقد خاب وخسر من لا يكلمه الله تعالى ولا ينظر إليه ولا يزكيه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون.
أيضًا كيف لا يقلع المسلم عن الذنوب والمعاصي وهو يقرأ تهديد الله ﷿ ووعيده؟! وكيف يقع في المعصية ويغلق الباب على نفسه ويتوارى عن أعين الناس، ويخجل أشد الخجل إذا كشف أمره، أو رآه أحد من الناس؟! كيف يفعل هذا من يعلم أن الله ﷾ يراه ويسمعه ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟! كيف يفعل هذا من يعلم أن ملائكة الله ترافقه في حله وترحاله، تكتب كل عمل يعمله حسنًا كان أو سيئًا؟ يقول تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:١٨].
ويقول الشاعر: لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى ويقول آخر: ومعظم النار من مستصغر الشرر والإصرار على المعصية مهما كانت صغيرة ظلم للنفس، واستسلام للهوى، وانقياد لأوامر الشيطان، قال النبي ﵌: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء) المقصود بقوله: (تعرض الفتن)، أي: تلصق الفتن بالقلوب كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه، فمن نام على الحصير وقد كشف عن جنبه فتجد أن الحصير ينطبع أثره بجسده، ويؤثر في جنبه ويترك الخطوط الطويلة للحصير.
فهذا هو أثر الفتن والمعاصي على القلب، لا بد أن تنطبع عليه وتؤثر فيه.
قوله: (فأي قلب أشربها)، أي: تمكنت منه وحلت محل الشراب، مثل قوله ﵎: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة:٩٣]، المقصود: أشربوا في قلوبهم حب العجل، وإن كان بعض المفسرين يفسرون تفسيرًا بظاهره: أنهم لما ألقي العجل الذي كان يعبده بنو إسرائيل في اليم، شربوا هذا الماء، فيفسرونه تفسيرًا حسيًا، ولكن المقصود: «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ»، يعني: اشربوا في قلوبهم حب العجل، ومنه قولهم: بياض مشرب بحمرة، أي: خالطته مخالطة لا انفكاك لها.
(فأي قلب أشربها، نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها -أنكر الفتن وتبرأ منها- نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا -شدة البياض في سواد، وقيل: أي لونه بين السواد والغبرة- كالكوز مجخيًا -يعني: مائلًا أو منكوسًا- لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه).
وقال ﷺ: (إن العبد إذا أذنب ذنبًا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وفي رواية: حتى تغلق قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى فيه: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:١٤]).
فالآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا، وهذا يبين فساد قول المرجئة ومن نحا نحوهم، ممن يعتقدون بأنه لا يضر مع الإيمان معصية؛ لأن نفس معنى كلمة الإيمان يدخل في مركباتها بجانب التصديق العمل.
الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فعملية فصل الإيمان إلى قول وعمل هي مجرد مسألة لتسهيل دراسة القضية فقط، ولمعرفة مركبات الإيمان، وليس معناها أن يفصل الإيمان عن العمل بحيث يقال: إن عدم العمل لا يؤثر في صحة الإيمان وقوته.
فانظر إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله ﵎ عنهم ورضوا عنه، كيف كانوا يرجون رحمة الله ويخشونه أشد الخشية، ويخافون من ناره ويطمعون في جنته، يقول الله ﷿: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف:٥٥ - ٥٦].
لا بد من الإحسان بالقول وبالعمل.
ويقول ﵎: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة:٢٧] ويقول سبحانه: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف:١٥٦]، وقال تعالى: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر:٢٩]، فأطلق الرجاء على العمل.
لأن من طلب شيئًا استلزم رجاؤه ثلاثة أمور: أولًا: محبة ما يرجوه.
ثانيًا: خوفه من فواته.
ثالثًا: سعيه في تحصيله حسب الإمكان.
لو أن إنسانًا أراد أن ينجح في الثانوية العامة، فهذا أمل بالنسبة إليه، فأول شيء أنه يحب هذا الشيء الذي يرجوه، حتى يكون راجيًا له يحبه، ثم يخاف من فواته، يخاف أن يرسب أو لا يأتي بالمجموع الذي يريده، ثم يسعى في تحصيله حسب الإمكان.
فبدون هذه الأركان يعد رجاؤه غرورًا واغترارًا، بل لا يعد ولا يسمى رجاءً، بل يسمى حماقة، فمن يقول: نم وارتاح وسيأتيك النجاح، يضحك الناس منه.
بل لابد من أخذ الأسباب ومن السعي في تحصيلها بحسب الإمكان، ويفرح إذا حصل ويحزن إذا فاته هذا الأمر، وهذا في كل أمور الدنيا، الإنسان إذا رجا أن يزرع ويحصد لابد أن يبذر، ويعالج الأرض ويسقي الزرع ويرعاه، حتى يحصل هذه الثمرة وهذه النتيجة، لكن من يقول: أنا موحد والله معي، ثم يقصر في الأسباب، فهذا لا يكون رجاء، فإنما يكون الرجاء الحقيقي إذا انضمت إليه هذه الأركان الثلاثة.
يقول الله ﵎: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء:٥٧] قوله: «يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» أي: بالأعمال الصالحة.
فمن الاغترار بالله ﷿ أن يزين الإنسان لنفسه ويتعلق بنصوص الرجاء، ويظن أن يحصل له النجاة والسلامة دون أن يسعى في تحصيلها بما أمكنه من الأسباب.
8 / 6