Series of Ambitions - The Prelude
سلسلة علو الهمة - المقدم
Genres
أقسام الناس في العلم والإرادة
يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى: كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين، وهما اللذان أثنى الله ﷾ على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بهما في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ﴾ [ص:٤٥].
فالأيدي هي القوة في تنفيذ الحق، والأبصار هي البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام.
وأشرف الأقسام هو القسم الذي ذكرناه آنفًا، أي: الذين مدحهم الله بقوله: «أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ».
فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق وأكرمهم على الله ﷾.
القسم الثاني: عكس هؤلاء، فلا بصيرة، ولا همة، ولا علم ولا عمل، فعكس الفريق الأول هم من لا بصيرة لهم في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر الخلق، وهم الذين رؤيتهم قذى العيون، وحمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار الشنار.
القسم الثالث: من له بصيرة في الهدى ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمن الضعيف، لكن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من هذا المؤمن الضعيف.
القسم الرابع: عكس هذا، له قوة وعزيمة وهمة، لكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء ثمرة، وكل بيضاء شحمة، ويحسب الورم شحمًا، والدواء النافع سمًا؛ لأنه ليس عنده علم وبصيرة في الدين.
وليس في هذه الثلاثة الأقسام من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضع لها سوى القسم الأول، فهذا فقط هو الذي يصلح أن يكون إمامًا في دين الله ﷾، يقول الله ﷿: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:٢٤].
فأخبر ﷾ أنهم بالصبر واليقين بآيات الله نالوا الإمامة في الدين، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله ﷾ من جملة الخاسرين.
قال ﷿: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر:١ - ٢].
أي: إن كل إنسان لفي خسر ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:٣].
فوصفوا بالقوة العلمية والقوة العملية، بالعلم والهمة أو الإرادة.
فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها، وأعلامها وعوارضها ومعاشرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المسالك والمخاوف والمعاقب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم، كما يقول الشاعر: فليس يزيح الكفر رأي مسدد إذا هو لم يؤنف برمي مسدد يقول: وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله، ولا قوة إلا بالله.
ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد.
يعني: أننا نجد عند رجل الهمة في الحركة والعمل، وعنده همة من الناحية العملية، لكن ليس عنده بصيرة، فبالتالي نجده إذا تعرض لبدعة أو شبهة لا يستطيع أن يرد جوابًا، ويتبلبل، وربما يهتز إيمانه، ويخر صريعًا لهذه الشبهات بسبب غياب القوة العلمية.
فمثلًا: نجد إنسانًا يعمل في الربا وفي البنوك، وهو مقتنع، وعنده القوة العلمية، ويفهم جيدًا جدًا أن الربا محرم، وأن هذا الكسب حرام، وأن الوعيد فيه كذا وكذا إلى آخر هذا الكلام، لكن لا تجد عنده القوة العملية التي تجعله يحاول أن يتخلص ويخرج من هذا الوحل، فعنده قوة علمية، لكن ليس عنده الهمة.
وهكذا الذي يتحدث عن مضار التدخين، ويحاضر محاضرات طويلة، وإذا فتحت معه الكلام في التدخين، تجده يقول: المضرة في كذا وكذا وكذا، لكن هل عنده الهمة في أن يقلع عن هذه العادة السيئة؟! فأغلب الناس تجد عنده البصر بالضرر، لكن ليس عنده القوة العملية.
فهذه أمثلة لتوضيح الموضوع، فالقسم الثاني هذا يكون عنده همة وحركة وسعي ودأب، لكن ليس عنده بصيرة في الدين، فيكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما أن الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف، السالكين على غير طريق العلم، حيث نلاحظ في الصوفية -إلا من شاء الله- أن هذه الصفة تكاد تكون صفة سائدة، فأحدهم شديد الجهل بالعلم الشرعي، وعنده الهمة العالية في التعبد أو في الحركة والسعي والدأب والأذكار والأوراد وغير ذلك، لكن لا على بصيرة، وبالتالي يسهل أن يقع صريعًا للبدع والشبهات والضلالات.
يقول: على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يرى أحدهم أعمى عن مطلوبه، لا يدري من يعبد، ولا بماذا يعبده، فتارة يعبده بذوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه، من لبس معين، وكشف رأس، أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين، وليس لها أصل في الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائنًا ما كان، وهناك طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد، وكلها ناشئة عن ضعف البصيرة في الدين، مع وجود الهمة العملية.
يقول شيخ الإسلام ابن القيم: فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم، وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يقبل من أحد دينًا سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها، فلا معرفة لهم بالرب، ولا عبادة له، ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ﷾، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد.
ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، يعني: أن الطريق إلى النجاة وإلى الله ﷾ فيها كثير من القواطع، ولولا القواطع لكان هذا الطريق مزدحمًا بالسالكين الذين يقصدونه، لكن فيه كثيرًا من القواطع، سواء كانت قواطع من داخل النفس، أو قواطع من قطاع الطريق الذين ينبثون على جنبات الطريق إلى الله ﷾، ويقطعون الطريق على خلق الله، ويصدونهم عن السير إلى الله ﷾.
يقول: ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت -كما قيل- سيف، فإن قطعته وإلا قطعك، فإذا كان السير ضعيفًا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة، فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده، ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولي التوفيق.
1 / 6