271

Silsilat ʿulū al-himma - al-Muqaddim

سلسلة علو الهمة - المقدم

Genres

صحبة أولي الهمم العالية سبب من أسباب الارتقاء بالهمة
من أسباب الارتقاء بالهمة: صحبة أولي الهمم العالية ومطالعة أخبارهم، فهذا سبب آخر مرتبط بالسبب الماضي، وإن كان السبب الماضي عامًا، فمن انتقل إلى بيئة أخرى فعليه بعد ذلك أن يبحث عن أناس أولي همة عالية ويصحبهم؛ كي يتأثر بهم، فالطيور على أشكالها تقع، فالغراب يطير مع الغربان، والحمام مع الحمام، والنسور مع النسور، وكل شكل من أشكال الطيور مع شكله، وكذلك الأسماك وكذلك غيرها من الكائنات، وكذلك بنو آدم، فالطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي.
والعبد يستمد من لحظ الصالحين قبل لفظهم، فإذا عشت مع الصالحين فإنك تستفيد باللحظ وبالنظر أكثر ما تستفيد بالكلام؛ لأن رؤيتهم تذكر بالله ﷿، فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير مغاليق للشر) فمجرد رؤيتهم تفتح أبواب الخير، وتغلق أبواب الشر.
وعن ابن عباس ﵄، عن النبي ﷺ في قوله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس:٦٢] قال: (هم الذين يُذكر الله لرؤيتهم) هذه هي علامة أولياء الله، فإنهم مباركون حيثما كانوا، وإذا رآهم الناس تذكروا الله ﷾، والإنسان فعلًا يشعر بهذا، فأحيانًا يمضي مثلًا في الطريق، ويكون غافلًا عن ذكر الله، فإذا رأى رجلًا تتحرك شفتاه بذكر الله، سرعان ما ينتبه الإنسان إليه ويقتدي به في هذا، ومثلًا: تركب أحيانًا في مواصلات فتجد رجلًا منزويًا في جانب ويمسك المصحف الشريف ويقرأ من القرآن، المصلحون في كل مكان يذكرون الناس بلحظهم قبل أن يذكروهم بلفظهم.
وروي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان الربيع بن خيثمة إذا دخل على ابن مسعود لم يكن له إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه، فقال له ابن مسعود: (يا أبا يزيد! لو رآك رسول الله ﷺ لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين)، فانظر إلى رجل ينبهر به عبد الله بن مسعود ويقول له: لو رآك رسول الله ﷺ لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين، ولذلك كان ابن مسعود يعامله معامله خاصة، فكان إذا دخل الربيع بن خيثمة على عبد الله بن مسعود تنقطع المقابلات، ولا يمكن أن يقابل أحدًا أبدًا إلى أن يفرغ من حاجته مع ابن خيثمة ثم بعد ذلك يقابل الآخرين.
وقالت العرب: لولا الوئام لهلك الأنام، والوئام هنا بالذات في هذه العبارة معناه: التشبه بالكرام.
قال الماوردي في معنى هذه الكلمة: لولا الناس يرى بعضهم بعضًا فيقتدى بهم في الخير وينتهى بهم عن الشر لهلكوا؛ لأن الانغماس في البيئة الصالحة والبيئة الطيبة يوجد الوئام الذي هو ثمرة هذا الاختلاط، فالناس حينما يحتك بعضهم ببعض يتعلمون من بعض، فيُرى الصالحون ويقتدى بهم، وأيضًا يجتنب الشر عن طريق هذا الوئام، فلولا الوئام لهلك الأنام.
وقال زين العابدين علي بن الحسين بن علي ﵃: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه.
تحر ألا تجلس إلا إلى من ينفعك في دينك.
أنت في الناس تقاس بالذي اخترت خليلا فاصحب الأخيار تعلو وتنل ذكرًا جميلا وعن جعفر قال: كنت إذا وجدت بالقلب قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى، يعني: من شدة حزنه وخوفه من الآخرة.
وقال ابن المبارك: إذا نظرت إلى فضيل جدد لي الحزن، ومقت نفسي.
هذا والذي يقول هذا هو عبد الله بن المبارك ﵀ الإمام الجليل المبارك الذي هو من سادات المسلمين رحمه الله تعالى، ومع ذلك يقول في الفضيل بن عياض: إذا نظرت إلى فضيل جدد لي الحزن، ومقت نفسي.
فيمقت نفسه ويكره نفسه، لتقصيرها في طاعة الله عن التشبه بهذا العبد الصالح.
وكان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاحًا أو زهدًا أو قيامًا بحق أو اتباعًا للأمر سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله.
فكان من خصائص منهج الإمام أحمد في علاقته بالناس أنه إذا سمع عن رجل يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر أو مجتهد في العبادة أو العلم أو الزهد أو الصلاح أو غير ذلك من هذه الأمور العالية يسأل ويبحث عنه، ويحرص على أن تجري بينه وبينه معرفة وأخوة، ويتابع أحواله باستمرار، الإمام أحمد كان يطبق قاعدة مهمة جدًا وهي قاعدة: التجريب قبل التقريب، يعني: قبل أن تقرب واحدًا منك ينبغي أن تجربه أولًا وتجرب أخلاقه وتبحث عن صفاته وطباعه؛ لأن الصورة التي تريدها لنفسك هي الصورة التي عليها من تخالله وتتخذه صديقًا قريبًا، فكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يطبق قاعدة التجريب قبل التقريب، فكان يدقق في اختيار من يقربه منه ويدنيه، وعرف عنه ذلك، حتى قال الشاعر في مدح الإمام أحمد ﵀: ويحسن في ذات الإله إذا رأى مضيمًا لأهل الحق لا يسأم البلا فإخوانه الأدنون كل موفق بصير بأمر الله يسمو إلى العلا هؤلاء هم إخوانه في الله، فكان الإمام أحمد يحرص على ألا يصادق ولا يؤاخي إلا من تحقق فيه هذا المعنى.
وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى بعض ما استفاده من ملاحظة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وابن القيم يتكلم وكأنه يتكلم عن أبناء أو أطفال يفزعون إلى أبيهم في شدة الفزع كي يلوذوا به ويطمئنوا، فـ ابن القيم هو شعاع من نور شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يتحدث بلسان إخوانه من تلامذة شيخ الإسلام فيقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة.
وإذا أردت أن تلمس أثر الصحبة العالية الهمة في التسابق إلى الخيرات فتأمل ما قاله محمد بن علي السلمي ﵀ -تأملوا وابكوا على أحوالكم- حيث يقول: قمت ليلة سحرًا لآخذ النوبة على ابن الأخرم.
يعني: من أجل أن يذهب يحجز مكانًا في المسجد الذي فيه حلقة ابن الأخرم، وكأنه يقول: أنا سأكون أول واحد يحضر، وبالتالي أكون في المقدمة، وأبادر للأخذ على الشيخ، فاستيقظ في السحر، وخرج من بيته وذهب ليحجز مكانًا في الحلقة، قال: فوجدت أنه قد سبقني ثلاثون قارئًا، أي: ثلاثون من إخوانه، وهذا معناه: أنهم استيقظوا وأتوا قبل ذلك بفترة، قال: فوجدت أنه قد سبقني ثلاثون قارئًا، ولم تدركني النوبة إلى العصر.
وقال علي بن الحسين بن شقيق: قمت لأخرج مع ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد، فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته فما زلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح.
أي: لم يشعروا بالوقت، فظلوا يتذاكرون طوال الليل وهم قيام، وفي ليلة باردة إلى أن جاء المؤذن يؤذن لصلاة الصبح.
وهذا الشاعر محمد إقبال يدعو الله أن يمن عليه بصاحب عالي الهمة فيقول: هب نجيًا يا ولي النعمة محرمًا يدرك ما في فطرتي هب نجيًا لقنًا ذا جنة ليس في الدنيا له من صلة وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه: (ما أعطي عبد بعد الإسلام خيرًا من أخ صالح، فإذا رأى أحدكم ودًا من أخيه فليتمسك به).
وقال الحسن البصري: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا؛ لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة.
ويقول الدكتور خلدون الأحدب حفظه الله: وإذا ما نظرنا إلى أولئك الذين استفادوا من لحظات أعمارهم، وكان من نتاجهم وأثرهم ما يعجب أو يدهش نجدهم لا يصاحبون إلا المجدين العاملين، والنابغين الأذكياء الذين يحرصون على أوقاتهم حرصهم على حياتهم؛ لأن الزمن هو الحياة.
ونحن المسلمون نقول: الذهب هو الحياة، ولا نقول: الوقت من ذهب؛ لأن هذه الكلمة هي كلمة الغربيين؛ لأن الذهب عندهم هو أعظم حاجة يضرب بها المثل في النفاسة، فالوقت عندهم من ذهب، أما المسلمون فيقولون: الذهب هو الحياة نفسها التي هي أغلى بكثير من الذهب.
يقول: وصحبة هؤلاء الأمجاد المجدين المتيقظين للدقائق والثواني كان له عظيم الأثر في همة مثل الإمام: ابن جرير الطبري وابن عقيل الحنبلي وابن عساكر الدمشقي وابن تيمية وابن القيم وابن النفيس والمزي والذهبي وابن حجر وأضرابهم في غزارة إنتاجهم وجدته.
يقول الإمام ابن عقيل الحنبلي صاحب كتاب (الفنون): وعصمني الله من عنفوان الشبيبة بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله فما خالطت لعابًا قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم.
يعني: أن أحد أسباب توفيقه هو أنه قصر صحبته على كبيري الهمة.
فالحريص الموفق الذي يروم المعالي لا تراه إلا مع أهل العلم العاملين، وأولي الفضل والمجاهدة والحكمة والبصيرة، ليرشح عليه ما هم فيه أو بعضه، فيكون مثلهم أو قريبًا منهم، إن صحبة هؤلاء تعلم منافسة الزمان، وصحبة البطالين تعلم تضييع الزمان.
وصحبة البطالين الآن ليس فقط عن طريق اتخاذ أصدقاء بطالين لاهين غافلين، إنما هناك نوع

17 / 11