260

Silsilat ʿulū al-himma - al-Muqaddim

سلسلة علو الهمة - المقدم

Genres

اقتران البلاء بالمتمسكين بالدين
فالإنسان قد يستطيل الطريق؛ لأن كله ابتلاء، وامتحان، وبين وقت وآخر يحصل تكثيف، فانتظروا فرج الله ﷾.
فإذا استطال الإنسان الطريق يحصل له ضعف في السير إلى الله ﷾، فعلينا أن نتأسى برسول الله ﷺ، وأن نتبع سنته في كل أحواله، فمن أحوال النبي ﵊ أحوال تشبه ما نحن فيه الآن، حيث حصل اضطهاد للمسلمين ومحاربة للدين، فكيف كان يعزي ويسلي أصحابه المضطهدين؟ كان دائمًا يزرع فيهم الأمل بالتبشير بأن المستقبل حتمًا سيكون للإسلام؛ فقد صح عن خباب بن الأرت ﵁ أنه قال: (شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله! ليتمن الله هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
فتأمل كلمة (تستعجلون)، يعني: أن العاقبة للمتقين لكنكم تستعجلون، فاتركوا سنة الله تمشي في طريقها، ولا تتعجلوا، ولا تقفزوا فوق السنن، كما يحصل من بعض إخواننا -للأسف الشديد- من بعض الحركات أو بعض الجماعات؛ حيث يحاول أن يسبق السنن، ويتعجل، كما قال بعض الكتاب واصفًا المتعجلين من الشباب والمتعجلين من الشيوخ: أما متعجلة الشباب فمعروف الحركات التي تحصل منهم من إراقة للدماء، وغير ذلك من تعجل الشباب، أما تعجل الشيوخ فيقال: إن بعض الشيوخ كانوا حريصين جدًا على القفز فوق سنن الله، فأرادوا القفز إلى التمكين عن طريق البرلمانات والانتخابات، لأنهم يظنون أن هذه قد توصلهم إلى هذا الهدف، وهذا القفز فيه نوع من الاستعجال؛ لأنه ليس بالسهولة هذه أبدًا يحصل التمكين لدين الله، وليست هذه هي سنة الله ﷿.
فتأمل في هذا الحديث! الصحابة ﵃ ذهبوا يطلبون من النبي ﵊ أن يدعو لهم، ويستنزل نصر الله عليهم، فهل دعا لهم الرسول ﵊؟ لم يدع لهم؛ لأنه لابد أن تمضي سنة البلاء، فهي سنة ماضية لابد أن تقع.
ولما سئل الإمام الشافعي: أيهما أفضل للرجل: أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا تمكن حتى تبتلى.
فيبدأ أولًا البلاء ثم التمكين.
ولما بلغ خبر ميلاد هذه الدعوة إلى ورقة بن نوفل قال: (ليتني أكون فيها جذعًا إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي).
فهذه سنة، وهو كان يعلم سنن الأنبياء من قبل، فقد كان ورقة بن نوفل على علم، ولذا بين أنه لابد من التفكير، فقال: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي).
كذلك في قصة أصحاب الأخدود، وقصة الغلام مع الراهب، فإن الراهب قال له: (أي بني! إنك أفضل مني، وإنك ستبتلى)؛ فلابد أن يقترن البلاء بالإنسان، وهذه سنة ماضية أن يفتن الناس، كما قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت:٢].
وكلمة الفتنة مأخوذة من فتن الذهب، يقال: دينار فتين إذا أخرج من الفرن، وتقول: فتنت الذهب إذا جئت بالذهب الخام وأدخلته في الفرن؛ حتى ينصهر، فينفصل الغثاء والزبد والشوائب، ويستقل المعدن الخالص الصافي وهو الذهب النقي، فلا يمكن أن ينفصل إلا عن طريق الصهر، فالفتنة مأخوذة من هذا المعنى، كما قيل: إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهبًا أحمر.
فكلمة الفتة معناها: أن توضع في البلاء حتى تصفو، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد:٣١]، وهذه سنة الله ﷾.
فعدل عن الدعاء لهم إلى تذكيرهم بأن هذا قانون وسنة ماضية لابد منها، فلابد من البلاء، فقد حصلت هذه السنة في من قبلكم، وستحصل لكم، لكن تذكروا أن العاقبة للمتقين، فقال ﵊: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد فأطلق لروحك إشراقها ترى الفجر يرمقنا من بعيد أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين.

16 / 20