المحاضرة، ما المحاضرة؟
إنها خطاب يتثاءب ويتمطى.
إنها عبارة فتحت فمها ثم نسيت أن تطبقه.
دجاجة تمروح ذيل طاووس. إنها خطبة تلبس ردنكوت. هي ألفاظ لها لحية ولها كرش. هي حبات «غاردينال» كلامية تقتل الأرق وتجلب النعاس. إنها لغة كاوتشوكية. إنها بالون ينفخ فيه أستاذ.
وعلى الصعيد الفردي ليس لي على «المحاضرة» إلا شرطان؛ الأول: ألا أسمعها، والثاني: ألا ألقيها.
ومن الواضح أن في كلامنا هذا - وأستعمل نون الجمع لأننا محاضر - شيئا من الغلو، ففي الأبحاث ما لا يشرح إلا بمحاضرة، وفي الناس اختصاصيون يستطيعون مناقشة الأمور وإيضاحها خلال ساعة أو أكثر ، ولكن هذا الطوفان من المحاضرات من بعض أسبابه حب الظهور، وزيف الثقافة، والتدجيل الكتبي.
نعترف لجورج حكيم مثلا أنه يحاضر في القطيعة بين لبنان والشام، ويشوقنا أن نصغي لبلطجي يقص علينا تاريخ مرفأ بيروت وحركة السفن فيه. ومن النافع أن يلقي فينا محاضرة إبراهيم عبد العال عن مشروع الليطاني.
أما أن يتصدى كل واحد منا - كما شاع أخيرا - لمعالجة الأبحاث الاجتماعية على أنه فيها مرجع وثقة؛ حاشدا في معرض كلامه أسماء مفكرين عالميين، ففي هذا جناية على الحقيقة. وهذا التزييف يا طالما أنزل ببلادنا الويلات!
أقول هذا بعد أن ظهر أن إلقاء المحاضرات صار أداة للتبرج والتضخم، ولتشويه العلوم؛ فليست الشهادة الجامعية (باسبورا) يدخل كل من حمله إلى جنة المعرفة؛ فكل موضوع تعرف إليه أحدنا ليس له من أهمية إلا بعد أن يتفاعل في نفسه، ويعجن بالتجارب الشخصية، والملاحظات الشخصية، ثم يتجوهر بالتفكير الأصيل، ويصقل على وجه الاختبار.
ولقد تبين أن الكثيرين من محاضرينا يبدءون أولا برش العطور على المكان الذي يحاضرون فيه، ونثر الأزاهير على جبين من دعاهم إلى الكلام، ثم يعترفون بتواضع مصطنع أن هذا الميدان الذي نزلوا إليه أوسع من أن يجولوا فيه خلال ساعة أو ساعتين، ثم يستعرضون أسماء عالمية، وكتبا يقولون إنهم طالعوها، ثم يسردون بتيه ودلال حوادث شخصية، فإن كان أحدهم اقترب من «تشرشل» 34 كيلومترا ذكر: «في السنة الماضية، حين قابلني تشرشل.» وإن كان قد درس في جامعة «كيلوتسكي»؛ من أعمال دولة «صفرانيا»، راح يقص أمر مناقشة جرت بينه وبين الدكتور «جهيروز»؛ الأستاذ الاختصاصي في «علوم شروق الشمس عند المغيب وعلاقتها باستئناف الحرب في كوريا». هكذا يضفي محاضرنا جوا علميا مزيفا على الفلسفة، فيلقم سامعيه حقائق بديهية، ويستعرض ما فتح الله ورزق من عبارات انتشلها من هنا وهناك على أنها من صوغ دماغه.
Unknown page