حدثني الكاهن الذي عرفه
خطاب لم يلق. أعد ووزع مناشير في ليل 8 تموز، استجوبني الأمن العام بشأنه في اليوم التالي، ودخل السجن بسببه عشرات الشبان، ولكنه بعد ذلك صار يلقى علنا، وينشر في الصحف.
تلقاني صبيان الحي بصراخ الهزء حين ترجلت، وراح أحدهم يتباهى مذيعا أن التاكسي اسمها فورد، وأعلن ترب له أن لونها رمادي، فيما ضج جمهورهم بإخباري - قبل أن أسألهم - أن الكاهن ليس هناك، بل إن أحدهم تسلق السلم وفتح باب العلية من غير أن يطرقه، ثم أطل من نافذتها ضاحكا: «أرأيت؟ إنه غير موجود.»
ذلك لأن شياطين الحي الصغار صاروا يعرفون عمن أسأل، وأصبح يروقهم أني لا أجد من أفتش عنه، ولعلهم لمحوا من تذمري وألم خيبتي ما استثار فيهم السادية، فجاء جذلهم على نسبة ما تجلى علي من زعل وضياع أمل.
فلقد كانت تلك المرة الرابعة التي قصدت فيها إلى رجل الدين لأستطلعه السر الرهيب.
وفي المرة الخامسة توجهت إليه ليلا وعلى موعد فكان هناك.
وحالا امحت من ذهني صورة رسمها خيالي، فلم أجد نفسي أمام شيخ متداع أبيض اللحية، ولم أسمع صوتا متهدجا، ولا صرعتني مظاهر الوقار وكلمات أبوة توحيها حصانة الكهنوت.
وجلسنا تحز مسامعي توافه الأحاديث التي تعود الناس مبادلتها فور اجتماعهم. وطالت النزهة الكلامية على شاطئ الموضوع، وبرح بي القعود على عتبة باب جئت لأفتحه، فوثبت إلى الهدف مقاطعا المحدثين قائلا: حدثني يا محترم عن ليل 8 تموز 1949.
وغاظني من رجل الدين أنه لم يتلبس حالا بمظاهر التهيب، بل بدأ الكلام بشيء من غير الاكتراث، ولكن صوته ولهجته وخشوعه وانفعاله، بل وبكاءه، كلها تماوجت مع وقائع ما كان يرويه، فكأنه عبقري يعزف من موسيقاه قطعة رائعة على البيانو، فدغدغت أنامله أصابع العاج أولا بعفوية لا تبالي، وتوالت الألحان تتأرجح وتتسامى متجانسة متضاربة متوافقة، حتى بلغت ذروة موسيقى من غير هذه الدنيا، فإذا نحن في العلية نكاد لا نسمع ما يقول، ولا نرى البيانو ولا اللاعب، ولا نعي الألحان، بل شعرنا أن جدران الغرفة انفتحت وارتفعت أرضا بمن فيها، فإذا نحن و«سعادة» في السجن، في الطريق، في الجيب، على الرمال ركع، في تابوت خشبي، في الكنيسة، في المقبرة، في حفرة من الأرض، في مسمع الدنيا، بين المغتربين، في القصور، في المحكمة العسكرية، في المفوضيات، في غصة القلوب، في عبسة المغاور، في لوعة المعاقل، في رصانة التهذيب، في هدوء البطولة، في عزة الصراع، بين يدي الكبر، أمام الجلادين، في طمأنينة المؤمن، في كهف الغدر، حراب تطارد المجرمين، أعلام تصفق للجيوش، زوبعة تمحق، وصرخة تعكس موكب التاريخ.
وتناول رجل الدين ورقة من مطاوي جلبابه الأسود الفضفاض منتزعة من دفتر مدرسي وهم بقراءتها، فاعترضته وقلت: أسمعني حديثك لا تقرئني أوراقك ولو كانت مذكرات.
Unknown page