ومن الأوهام أن تعتقدوا أيها القادمون على الحياة أن لبنان خرافة، وأن تجهلوا أنه من أشد الناس ولاء للبنان من هم من أشد الناس ولاء للعروبة.
هنا أقف غير فخور بنفسي. هنا أقف فأبتهل إلى الله أن يمنحكم أيها الفتيان الجرأة التي أحس أنها تعوزني . ليتني أعطيت الإقدام فأنزل على هذا المنبر بطلا، أو أحمل عنه شهيدا، ولكن الكلمات التي أغص بها أنتم تسمعونها، والقول الذي أخاف أن أنطق به أنتم تفهمونه. نساء اليهود تحمل السلاح وتقاتل؛ فأي سلاح تحمله نساؤنا وكيف تقاتل؟ نساء الدنيا أوتين الحرية والمساواة والعلم، وهن ينشرن الظرف واللطف والأنوثة والرقة. فما هو الدور الذي تلعبه نساؤنا؟ أمم الأرض يساهم في بنائها وازدهارها مائة بالمائة من شعبها، فما الذي يساهم به خمسون بالمائة من شعبنا؟ من العار أن تبقى المرأة حيث هي، ومن الخسران أن نهدر نصف ثرواتنا وقوانا. هل فيكم جسور يحمل المشعل؟ وذو بأس يقول الكلمة التي أجبن أن أتفوه بها؟ هل منكم فدائي يطمح أن يكون بطلا ولا يخاف أن يمسي شهيدا؟ هل منكم من يمزق بيديه ما يجب أن يمزق؟ لئن كان الجواب نفيا، فما أشدك ظلاما يا صباح الغد!
وأخيرا، أيها الفتيان الأحباء، كلمة لا يوحيها حب الوعظ، ولا تمليها الثرثرة.
الحياة كريمة جوادة، الحياة تعطي أكثر مما تأخذ، فلئن جادت الحياة عليك بطيباتها، فانعم بها بأن تشاطرها سواك. نشوة السكر لذيذة، وهج الشهوة جميل، الظفر يكهرب الحياة، ولكن ليس في الدنيا من شعور أبعث للزهو من سرورك بتضحية تقوم بها، أو عطاء تبذله! لئن جادت عليك الحياة بالطيبات، فانعم بها بأن تشاطرها سواك.
كذلك الحياة قاسية، الحياة ظالمة ومجرمة، هي تأخذ أكثر مما تعطي. أمامكم في السنين المقبلة أيام مريرة. لقد سلحتكم هذه الكلية بالعلم والدراسة، وصقلت أخلاقكم، وشددت عضلاتكم. ضعوا في أيديكم سلاحا غير منظور. لئن ضنت الحياة عليك بالطيبات فروها بالسراب. كهرب عقلك بمس من الجنون. حين تمنى بخيبة انظم بيتا من الشعر أو اركض نصف ميل. انشد أغنية. احص الملايين من الليرات الذهبية التي لا تملكها. اقطف زهرة. اكسر صحنا. انفخ دولاب أوتوموبيل. البط بغلا. أقم لنفسك عرشا وبايع نفسك بالعرش. حذار حذار إذ يصيبك الفشل أن تنقم على نفسك أو دهرك أو قريبك أو صديقك.
لئن جادت الحياة عليك بالطيبات فانعم بها بأن تشاطرها سواك، ولئن ضنت الحياة عليك بطيباتها فروها بالسراب.
القرميدة المكسورة
«دير مشموشة» يقع تحت جزين في جنوب لبنان. والحفلة يحضرها فخامة رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري. حول الدير جموع ترقص وتلعب بالسيف والترس، وأمام الجموع شخصيات منتفخة تعرف بالزعماء، والقاعة محتشدة، والخطباء يسبحون ويمجدون ويبخرون، والتصفيق يتعالى كلما ذكر اسم رئيس الجمهورية اللبنانية. على بعد مترين من الرئيس، وقد توسط حلقة من مطران ورهبان وموظفي الحكومة، ألفيت «القرميدة المكسورة».
صاحب الفخامة، حضرات الآباء المحترمين، سيداتي وسادتي.
لساعة خلت كانت في سقف هذا الدير قرميدة مكسورة.
Unknown page