بعض تفكيرنا الحقير: لماذا نعتقد أن غناء جارنا هو تحد لنا؟ لماذا نتوهم إن أطلق فلان سهما ناريا فإنما يفعل ذلك نكاية فينا؟ لماذا التفكير الحقير؟ أسمع البعض يصيحون أن مكبرات الصوت تركب في الجوامع نكاية بالمسيحيين، وأن الصلبان المنتشرة على الطرقات إنما قامت هناك لوزوزة عيون المحمديين. إن القرآن الكريم في إيمان الملايين هو رسالة منزلة من الله. وهو في إجماع البشر كتاب عظيم يحتوي على التبشير الإنساني الرفيع. إني أشتهي أن أسمع التجويد لا خمس مرات في النهار، بل خمسين مرة، وأصغي إلى التجويد بخشوع ورفعة.
والصليب ؛ إنه رمز الإيمان والفداء، والشعار المقدس لمئات الملايين من البشر؛ فرؤية الصلبان توحي في النفس المحبة، ولا توقظ البغضاء. إذن لماذا أثور أنا المسيحي لسماع الآذان في مكبرات الصوت، وأغضب أنا المحمدي لرؤية الصلبان على الطرقات؟ إن كان بيننا من يلوح بالشعائر الدينية لإيقاظ الأحقاد الراسبة؛ فالسبيل لمقاومة ذلك هو أن تقبل هذه الشعائر كما وجدت، كما يجب أن تكون مصدرا للود والإخاء والتأمل. (7)
الوقار وفروعه: ومن الفضائل التي لا قيمة حقيقية لها هو ما يسمى الوقار؛ كأن الفكر أو الشخصية أو القيم السامية لا تثبت إلا إذا تردت العبوس، وتهادت في كلمات موزونة كأنها
Quota
النقد النادر، ويتفرع من الوقار نقائص كثيرة حتى اختلط علينا الأمر، فصرنا نحسب أن الشراسة شجاعة، وصار تقطيب الحاجبين والنظرات النارية مقياسا للبطولة. والحقيقة التي أثبتتها تجارب الحروب أن الشرس هو في أكثر الأحيان جبان في المعركة، وقد يكون بطاشا في «المشاكل»، وأن اللطيف المتواضع هو الجندي الأمثل. (8)
الأدب القديم: آداب العربية التي درسناها والتي لا تزال تدرس وتسري أمثالا على ألسنة الناس يجب إعادة النظر فيها، ويجب على الأمهات والآباء والمدارس في بلادنا أن يقوموا بحملة في هذا السبيل. وإن كان نظام التربية عندنا خاطئا، فيجب علينا أن نصلحه نحن في البيت والمعهد، وبتوضيح الأمور لناشئتنا. يجب أن يفهم أولادنا حين يقرءون أشعار الأخطل والفرزدق والخطيئة أن الهجاء قذارة عقلية، وأن إنشاد الشعراء في حضرات الملوك والخلفاء والأمراء هو تسول وذل، وأن هؤلاء حين كانوا يأمرون بالهدايا والأموال إنما كانوا ينهبون أموال الشعب لإرضاء أثرتهم وغرورهم، وأن التفاخر بالأجداد وبالأعمال هو قلة ذوق، وأن كل هذه النقائص لا تزال متفشية في مجتمعنا لأسباب كثيرة، من أهمها أن كتب الآداب عندنا لا تزال تعمر بهذه النقائص مرتدية أثواب دور النشر في طبعات جديدة. (9)
شرفونا على سهرة: في بلادنا مؤسسة يجب هدمها. هذه المؤسسة اسمها السهرة. سيران في صالون. ساعات ساعات نهدرها حلقة مفرغة نطوف بها على أصدقائنا، ويطوف خلالها أصدقاؤنا علينا. وكما أن الأرض ومواردها هي ثروة الأمة لا يحق لأحد أن يهدرها أو يتلفها، كذلك يجب أن نعلم أن وقت المواطن منا هو أيضا ملك الأمة لا يحق لأحد منا أن يضيعه. وإنه لهادر للإنتاج من يسحق وقته حديثا حديثا وكلاما كلاما في سهرات لا تنتهي مع أصدقائه وجيرانه. نحن لا نستطيع التغلب على اليهود حتى ولا مقاومتهم إن كان أثمن ما نملك - هذا الوقت - نرميه كأنه شيء لا قيمة له.
سيداتي سادتي:
ما هي مصادفة أننا ضعفاء. هذه البلاد أثبتت كبرها وقوتها خلال ألوف السنين. وحالتنا من الضعف اليوم والاستخذاء لها أسبابها، وإني لم أحاول اليوم شرحها ولا علاجها. ولقد أعطيت أمثلة قليلة على أن بعض الطريق لنجاتنا، وتحقيق مصيرنا، وتجسيد أمانينا هو موقف فكر ثوري يعيد النظر في عاداتنا الاجتماعية. هذا الموقف يحتم علينا أن ننظر إلى كل ما نحن فيه من أنظمة نظرة موضوعية جديدة. ونحن لا نستطيع أن نتطلع إلى مشكلاتنا ولا أن نحلها إلا إذا أقبلنا بجرأة وتعر على تفقد قوانا، والتخلص بحزم وانتفاضة من كل ما يكبلنا، وإلا فما نحن بمخلصين. نقطة الانطلاق ليست النظر إلى جزئيات الأمور ولا توقع العجائب. كل واحد منا يجب أن يحيا في جبهة قتال. وليس من المعقول أن نربح الحرب الكبرى إن كنا نخسر في كل جبهة من جبهاتنا الصغرى.
لا أعتذر عن قصر هذا الحديث. مهمة الثقافة - ومنها إلقاء المحاضرات - هي ألا نسلم الناس الفكر رزما مضبوبة، ولا أن نقدم الفكر برشانة يبتلعها السامع. مهمة الثقافة - ومنها إلقاء المحاضرات - أن نستثير الفكر، فيفعل كل عقل، وينطلق موجات مغرقا كل خرافة، متحديا كل افتراض، منضبطا في نظام المنطق، مستهدفا الغاية الكبرى: تقوية المجتمع.
Unknown page