ثم رفع الحراني رأسه كما يرفع الغائص رأسه من الماء بعد طول المكث فيه، وكأنه كان في عراك عنيف بينه وبين نفسه، خرج منه ظافرا منصورا، فبدد الظنون، وقضى على الشكوك، ثم رمى بعينيه أمامه؛ فرأى في ضوء النجوم شبحا يظهر ويختفي، مرة تبتلعه الوهاد، وأخرى تلفظه الآكام، فحدد النظر، واستحث بعيره، فإذا راكب يجد السير! فخاف الحراني أن يكون الرجل من عبيد عمارة، سبقه ليفتك به في الصحراء قبل أن يلقي بنميمته، وظن الرجل حينما رأى الحراني وراءه أنه من رجال ابن مهدي أسرع خلفه من عدن ليقضي عليه قبل أن يبلغ رسالته إلى فاتك. وبعد قليل التقيا على رأس أكمة، وكلاهما خائف ومخوف، فبدأ الحراني في خوف وتلعثم: السلام عليكم، لقد كنت أظن أن الصحراء لم تحمل في هذه الليلة إلا جنينا، فإذا هي تحمل توأمين. - إن الصحراء كالليالي تلد كل عجيبة.
رأى الحراني في صوت صاحبه رجفة، وفي لمحاته ما يشعر بالذعر، فقوى قلبه قليلا، واطمأنت نفسه، وقال: ولكنها أحيانا كالهرة تقتل بنيها. - إنها لا تقتل من أبنائها إلا الجبناء الرعاديد، وإن من كان قلبه أمضى من سيفه، وسيفه أثبت من قلبه، لن يموت إلا ميتة الأبطال.
وكأن الرجل لمح في الحراني ما يدل على الضعف، فتابع الحديث بقوله: ولقد يكون من أسباب التسلية والقضاء على السآمة في الصحراء أن يصادق المرء فيها وحشا يداعبه بسيفه، أو لصا فاتكا يلقنه برمحه درسا في الأمانة وصون الحقوق. - ليس بالصحراء لصوص، ولو كان بها الليلة لص لتاب إلى الله على يد رحلي، بعد أن يراه أفرغ من فؤاد الجبان. - إن الساري في مثل هذه الليلة يحمل ما يحرص عليه في صدره لا في رحله، ولعل في صدرك من الأسرار ما هو أغلى من الذهب النضار. - من أين لنا أن نصل إلى الأسرار يا ابن أخي، وإن من ضاق صدره بهموم الحياة أجدر بألا يزيده ضيقا بحفظ الأسرار. من أين الرجل؟ وإلى أين؟ - من عدن إلى الحديدة، اتجر في الإبل بين البلدين. وإلى أين أنت؟ - إلى صنعاء. اتجر في الثياب بين البلدين. - أخشى يا صاحبي أن تكون من ثياب الرياء التي تشف عما تحتها، ولكن ما لنا ولهذا! عم مساء. ثم ألهب بعيره بالسوط، فعدا به ينهب الأرض نهبا.
تنفس الحراني وأطال التنفس، وكادت تعود إليه وساوسه، لولا أن زجرها بالترنم بشعر البطولة، والاعتماد على النفس، والتشفي بأخذ الثأر، وما زال يطوي الصحراء وتطويه أياما، حتى بلغ زبيد في مساء ليلة، فسار قدما إلى قصر فاتك، فالتف عليه الحراس، وسألوه عن شأنه؟ فقال: إنه قادم من مكة برسالة من أميرها: قاسم بن هاشم إلى الأمير فاتك، وبعد قليل استؤذن له، فتقدم من الأمير، وقبل يده، ثم أخذته الرعدة، وهاله ما هو مقدم عليه من أمر خطير، فأخذ يتمتم بكلمات متقطعة يفهم منها الإخلاص للأمير، والنصح له، والاستهانة بالموت في خدمته؛ فهدأ الأمير من نفسه حتى أفرخ روعه وثبت جأشه، ثم قال فاتك: كيف حال أمير مكة؟ فعاد الذعر إلى الحراني، وطفق يفرك أصابعه في اضطراب عصبي عنيف، ثم قال: لم أجئ من مكة يا سيدي، وإنما جئت من عدن. - لم تجئ من مكة؟! هذه أول أكذوبة للمخلص لنا، المستهين بالموت في خدمتنا. - إنما دعاني إلى الكذب يا سيدي خوف أعدائي، فقد يكون بقصرك عيون لهم. - إن قصري أطهر مما تظن، وخدمي أعف وأشرف مما تصفهم به. أخشى يا رجل أن تكون من هؤلاء الدساسين، الذين يلبسون مسوح الزهاد، ويتقدمون بالنصح إلى الأمراء ليجعلوا منهم آلة للبطش بأعدائهم. إن بابي هذا يطرقه كل يوم كثير من أمثال هؤلاء، حتى لقد التبس علي الحق بالباطل، وكدت أغفل عن شئون الناس بالنظر في شئون هؤلاء الخادعين، والتحقق من أكاذيبهم، فإن كنت فقيرا أعطيناك، وإن كنت مستجيرا بنا أجرناك، وإن كانت لك ظلامة كشفناها، قل الحق يا رجل صريحا، ولا تنل من أحد في حضرتي. - إنني لم أجئ يا سيدي لأطلب مالا، ولا لأبتغي على نصيحتي للأمير أجرا، ولكني علمت بمؤامرة دنيئة تدبر لإسقاط الأمير عن عرشه وعرش آبائه، فأسرعت إليه من عدن أطوي الليل بالنهار، وللأمير بعد ذلك ما يشاء، إما أن يصدق ما أقوله، فيتخذ الأهبة، ويعد العدة؛ ليدفع الشر بالشر، وإما ألا يصدقه فيعرف بعد طول الندم أنني كنت صادقا مخلصا. - وما تلك المؤامرة؟! - المؤامرة: أن يفجأك علي بن مهدي، ومعه عمارة بن زيدان بجيش جرار، فيستوليا على زبيد، ويقتلا أميرها، ويبيدا أهله ونصراءه، ثم يجلس ابن مهدي على عرش المدينة، ويجعل عمارة وزيره ومشيره. هذه هي المؤامرة فصدقها أو كذبها، اللهم إني قد بلغت ونصحت!! - صدقتها، وقد جاءني قبلك رسول من قبل «مفلح» خادم ابن سبأ يبلغني أمر هذه المؤامرة على النحو الذي شرحته. - إذا هو ذلك الرجل الذي صادفته في طريقي. مفلح أرسله؟ هذا المفلح غربال أسرار! - إنه رجل يكتم إيمانه بالمذهب السني، ويحارب الفاطمية في الخفاء بكل ما يستطيع. آه! عمارة في المؤامرة ...؟! ويل له مني، وويل لقومه بني زيدان، ثم دعا خادمه، وأمره بإحضار صرة بها مائتا دينار، فأعطاها الحراني، وشكر له حسن بلائه.
خرج الحراني يتعثر خائفا من عواقب الشر الذي زج بنفسه فيه، وهو يرجو ألا يراه من يعرفه، ولكنه وهو في أحد دهاليز القصر، رأى إسماعيل بن محمد جليس فاتك مقبلا - وكان من أصدقاء عمارة وخلصائه - فعرفه إسماعيل، ودهش لما رأى من تغير زيه، فقال: خير ما جاء بك إلى القصر أبا كاظم؟ ولم هذا الزي الغريب؟! فبهت الحراني، وتلعثم وجف ريقه، وقال: جئت في نصيحة للأمير، وأرجو أن يبقى الأمر بيننا سرا. - إذا جئت في نصيحة فأدعو الله أن تكون خالصة لوجهه! أما السر في زبيد فكالسر في صدر المرأة، تفشيه لكل من تقابله بعد أن توصيه بكتمانه! عم مساء أبا كاظم، فإني لا أرى في زيك وأسارير وجهك ما يبشر بخير.
انصرف الحراني وهو يلعن إسماعيل بن محمد، ويلعن المصادفة التي أوقعته في طريقه، ويلعن نفسه على ما اندفع إليه من أمر لا يستطيع الخروج منه سالما.
ودخل إسماعيل على فاتك، فرآه يهدر كالبعير الصائل، وقد استأثر به الغضب، فحينما رآه صاح بصوت خشن أجش: أرأيت كيف انتهت بنا الدسائس والمؤامرات؟! أرأيت كيف يعمل هؤلاء الفاطميون أعمالهم في ظلام من الخبث والرياء، ثم يفجأون بها الوادعين الآمنين؟! أعلمت أن ابن مهدي ذلك الرافضي السفاح، سيدهم زبيد على حين غرة منا ليذل رقاب أهلها، ويثل عرشنا وعرش آبائنا؟ أعلمت أن عمارة بن زيدان ذلك اللئيم النذل، الذي أغدقنا عليه، وآويناه حتى أصبح من المقربين في القصر، ومن كبار رجال المال والجاه، هو الذي يمالئه ويغريه، ويرشده إلى مواطن الضعف ليكون وزيره في زبيد!! ويل للخائن المخاتل، دخل القصر فقيرا مملقا، لا يتشفع إلا بأبيات واهنة من الشعر، فما زال يخدعنا بمدائحه، ويستهوينا بعذب كلامه وسحر حديثه، حتى رفعناه بعد ذلة، ويل لعمارة ... ويل لعمارة ... - هدئ من غضبك يا سيدي، فقد يكون ما وصل إليك نميمة أفاك أثيم، وعمارة رجل ... - لا يا إسماعيل، إن الخبر وصل إلي من مصدرين، إن شككت في أحدهما فلن أشك في الآخر، جاءني به رسول من «مفلح»، ثم نقله إلي الآن أعرابي لا أعرفه، وكانت الرسالة واحدة لا تكاد تختلف. - إن الأعرابي الذي يذكره مولاي عالم من زبيد غير زيه، ولعل له مأربا في الكيد لعمارة. - له مأرب أو ليس له مأرب، إن رسالة «مفلح» تكفيني، ثم نادى خادمه، وأمره أن يدعو إليه الوالي، وقائد جيشه، فلما حضرا أمر القائد بجمع الجيش، واستكمال العدة، والأخذ في تحصين مواضع المخافة من المدينة، ثم أمر الوالي بمصادرة جميع أموال عمارة، وما له من ناطق وصامت، والقبض عليه وقتله أينما كان، وحيثما وجد.
مر إسماعيل بن محمد في صباح هذه الليلة بسوق البزازين، فرأى علي بن زيدان يمشي ووراءه عبيده وخدمه، فدهش لرؤيته، وتقدم للسلام عليه، ثم اجتذبه إلى ناحية، وقال: لقد نقل بعض الجواسيس إلى الأمير فاتك أمس نبأ مؤامرة تدبر لاغتصاب ملكه وقتله، وأن لابن أخيك عمارة يدا طويلة في هذه المؤامرة، فأمر بمصادرة أمواله، وأهدر دمه، وقد حاولت أن أسكت غضب الأمير، فلم أستطع. - إنها دسيسة على ابن أخي، إن عمارة أشرف وأنبل من أن يدنس بهذه الأقذار. نحن نقتل في الضياء، ولا نقتل في الظلام، ومن هذا الجاسوس الذي نقل هذه الفرية؟ - رجل من زبيد يسمى أبا كاظم الحراني. - الحراني! الحراني! لعله ابن ذلك الحراني لص الأعراض الذي وسمنا وجهه بميسم العار منذ أكثر من عشرين عاما؟! - أظنه قضى كل هذه المدة في انتظار الفرصة، حتى إذا لاحت اقتنصها ليشفي صدره بهلاك ابن أخيك، أيعرف عمارة هذه الحادثة؟ - لا، لقد أمرت عبيدي الذين اشتركوا فيها يومئذ، أن يبقوا الأمر سرا دفينا، فإن مثل هذه الفضائح يجب ألا تذاع، هل لهذا الحراني ولد؟ - له ولد في الخامسة والعشرين من عمره، يتجر في الغنم، ولم تسأل عن هذا؟ - لا لسبب، غير أني كنت أظن أن من ذاق حلاوة الأبوة يتردد في إيذاء الناس في أبنائهم. - وعلام عولت؟ - عولت على السفر إلى مرطان في الغد، ويفعل الله ما يريد.
ولما انصرف إسماعيل، عاد ابن زيدان مع عبيده إلى الفندق الذي نزل به، ثم اختلى بعبده مرداس، وكان أسود فاحم اللون، طويلا ممعنا في الطول، قوي العضل، كبير الرأس، أفطس الأنف، يخالط بياض عينيه حمرة قاتمة، فقال له سيده: يا مرداس، سنسافر غدا؛ فمر العبيد بإعداد الرواحل، أما أنت فستبقى هنا، ولن تعود إلى مرطان حتى تقتل رجلين: الشيخ الحراني، وابنه، وابحث عنهما، واستدرجهما من حيث لا يشعران إلى مكان لا يراك فيه أحد، ثم اقتلهما فإذا قتلتهما فأنت حر، أفهمت؟ اذهب.
وفي صباح الغد يسافر ابن زيدان، ويبقى مرداس بزبيد، يسأل ويبحث حتى يعثر بابن الحراني، فيدخل عليه بحيلة محكمة، يستهويه بها، حتى إذا خرجا إلى ظاهر المدينة وانفرد به في مكان موحش، قتله واختفى.
Unknown page