ثم جاء الغروب ولكن المريض لم يجئ، بل جاء نطرون، فقلت له وكان يتفزز من خاطر يساوره: «أين يوسف؟» ويوسف هذا هو اسم أوليفيه بان الذي تسمى به حين صار مسلما.
فقال: «مات سيدي، وهذا سبب تأخيرنا، وقد دفناه.»
فدهشت وقلت: «كيف مات؟ أخبرني عما حدث.»
فقال: «اشتدت به علته حتى لم يستطع الركوب، ولكنا كنا مضطرين إلى السير، وكان من وقت لآخر يغيب عن وعيه ثم يفيق ويتكلم بكلمات لا نفهمها، فوضعنا على سرج الفرس عنجريبا وربطناه به وجعلناه يرقد عليه، ولكنه كان من الضعف بحيث لم يتماسك فوقه فوقع فجأة ولم يفق بعد ذلك، ثم مات فكفناه في شال من القطن ودفناه وأخذ زكي جميع أمتعته.»
فتبين لي أن مرضه كان قد بلغ به وأن السقطة قد عجلت الموت وكانت السبب المباشر له. يا له من مسكين! جاء إلينا وآماله لا تسعه ثم تكون هذه خاتمته.
وذهبت في الحال إلى الخليفة فأخبرته بوفاته فقال: «إنه لسعيد». ثم أرسل إلى زكي أحد الملازمين لكي يأمره بالاحتفاظ بأمتعته، ثم أرسلني أنا إلى المهدي لكي أخبره بوفاته. وتأثر الخليفة وقال بضع كلمات تدل على عطفه وحنانه ثم تلا صلاة الموتى.
وبعد ثلاثة أيام اقتربنا من الخرطوم وصرنا على مسيرة يوم منها، وكنا ونحن في الطريق قد رأينا بواخر غوردون في النهر، وبدا لنا أنها أتت إلينا للاستطلاع ثم عادت بدوران تطلق عيارا.
ولما جاء المساء وضربنا خيامنا جاءني ملازم من المهدي وطلب مني أن أذهب إليه، فذهبت ووجدته قاعدا مع عبد القادر وادام مريم، وكان قاضيا سابقا وله نفوذ عظيم بين قبائل النيل الأبيض، وكان حسين خليفة هناك، فصرت أنا رابعهم.
فقال المهدي: «بعثت في طلبك لكي تكتب إلى غوردون أن يسلم المدينة فلا يتعرض للهزيمة، وأخبره بأني المهدي الصادق فعليه تسليم الحامية فيسلم، وأخبره أيضا أنه إذا رفض التسليم فإننا سنقاتله جميعا، وقل له إنك ستقاتله أنت بنفسك، وإن النصر مضمون لنا، وإنك إنما تقول له ذلك حقنا للدماء.»
فالتزمت الصمت حتى دعاني حسين خليفة للإجابة فقلت: «مولاي المهدي، أرجوك أن تنصت إلي، فإني أريد أن أكون أمينا مخلصا، فلا تغضب إذا وجدت في قولي ما يخالف رأيك، فإني إذا كتبت إلى غوردون أقول له إنك المهدي المنتظر فإنه لا يصدقني، وإذا هددته بأني أقاتله بيدي فهو لا يخاف من ذلك شيئا، ولما كانت رغبتك الوحيدة هي حقن الدماء فإني أطلب منه التسليم فقط، وسأقول له إنه ليس عنده من القوة ما يمكنه من قتال المهدي، وإنه لا أمل له في الحصول على معونة أحد، ثم أقول إني سفير الصلح بينك وبينه.»
Unknown page