وقد اشتركت أسرة التعايشي في مقاومة الزبير عند فتحه دارفور، وقد حكى الزبير بأنه عندما كان يقاتل في الشقة وقع عبد الله أسيرا، وكان أوشك أن يقتله لولا أن توسط بعض الفقهاء، وعرف له عبد الله هذه المأثرة فجاءه يوما يقول له إنه رأى في نومه رؤيا، تتلخص في أن الزبير هو المهدي المنتظر وأنه هو عبد الله أحد أتباعه، قال الزبير: «فقلت له: إنني لست المهدي ولكني لعلمي شراسة العرب وأنهم أقفلوا الطرق، قد جئت لفتحها وإعادة التجارة إلى ما كانت عليه.»
ولما انتهى الصلح مع الزبير عاد التقي هو وأولاده عن طريق قلقة وشقة، التي بقوا فيها سنتين ثم غادروها إلى دار قمر عن طريق دار حمر والأبيض، وكانوا قد نزلوا ضيوفا على شيخ دار قمر وبقوا عنده عدة أشهر، ومات هناك أبوهم التقي فدفنوه في شرقلة، وقبل موته أوصى أكبر أبنائه عبد الله بأن يحتمي ببعض المشايخ ثم يهجر هو وأسرته السودان إلى مكة؛ حيث يعيشون بقية حياتهم ولا يرجعون إلى السودان.
وسافر عبد الله وترك إخوته طبقا لوصية أبيه في عناية الشيخ عساكر أبو كلام، وسمع في طريقه عن الشقاق بين محمد أحمد وشيخ طريقة السمانية التابع لها، وعزم على أن يذهب إلى محمد أحمد وأن يطلب منه الإذن بالاندماج في طريقته.
وقد قال لي بعد ذلك الشيخ عبد الله بن السيد محمد خليفة المهدي: «كان سفري شاقا جدا، وكان كل ما أملكه في الدنيا حمار له دبرة في ظهره، فلم أكن أستطيع ركوبه، وإنما كنت أضع عليه قربتي وغرارة القمح وأبسط فوقهما ثوبي المصنوع من القطن وأسوقه أمامي، وكنت في ذلك الوقت ألبس ثوبا فضفاضا من القطن مثل سائر رجال قبيلتي، أظنك تتذكر هذا الثوب يا عبد القادر.» «وكان يسميني عبد القادر، فإذا كان أحد آخر قاعدا وله هذا الاسم فإنه كان يدعوني باسم عبد القادر صلاح الدين أي سلاطين.»
وكانت ملابسي ولهجة كلامي تدلان على أني غريب، وبعدما عبرت النيل كان كلما قابلني أحد قال لي: ماذا ترغب هنا، اذهب إلى بلدك، ليس هنا شيء تسرقه! وأهل النيل يسيئون الظن بنا؛ لأن التجار الذين كانوا يذهبون إلى الغرب للزبير كانوا يلاقون عنتا كبيرا من العرب، وكنت عندما أسألهم: أين المهدي المعروف باسم محمد أحمد وأين يقطن؟ كانوا ينظرون إلي متعجبين ويقولون: وأنت ماذا ترغب منه، إنه لا ينجس شفتيه بذكر اسم قبيلتك. «ولكن لم ألق هذه المعاملة من كل الناس؛ فإن بعضهم كان يشفق علي ويدلني على الطريق، وكنت مرة أجتاز قرية فأراد بعض أهلها أن يستلبوا مني حماري متعللين بأنه سرق منهم في العام الماضي، وكادوا ينجحون في ذلك لولا أن توسط رجل صالح وأجازني القرية بحماري، وكنت طول الطريق عرضة للسخرية والتهزئة، ولولا أن البعض كان يشفق علي ويعطيني شيئا من الطعام لمت جوعا. وبلغت بعد الجهد مسلمية فوجدت المهدي مشغولا ببناء ضريح للشيخ القرشي، فما هو أن رأيته حتى ذهب عني كل ما عانيته من المشاق، وقعدت راضيا أعاينه وأسمع أقواله وتعاليمه، وبقيت ساعات لا أجسر على فتح فمي أمامه، ثم تشجعت وأخبرته بقصتي والحالة السيئة التي صار إليها إخواني، وعزمت عليه بالله والرسول إلا ما أدخلني في طريقته، ففعل ومد إلي يده فقبلتها مشتاقا وأقسمت له بالطاعة العمياء طول حياتي، وقد حافظت على هذا القسم حتى رفعه ملك الموت، وسيرفعنا أيضا يوما ما؛ ولذلك يجب أن نستعد للقائه في كل وقت.»
وكان عبد الله التعايشي كثيرا ما يحادثني بمثل هذه الأحاديث، يبعث إلي في الليل لكي أسامره، فأقعد أنا على الأرض ويقعد هو على العنجريب الفاخر المفروش بحصير السعف، وكان يثق بي ولا يخفي عني شيئا في الأول، أما بعد ذلك فصار يتشكك من جهتي.
وكان يحب التملق وكنت أغلو أنا في ذلك فأفوت الحدود، ولكني كنت أرغب في أن يتم حديثه، فقلت له: «أجل يا مولاي، لقد حفظت وعدك وكافأك الله، فبعد أن كنت محتقرا مهينا قد صرت الآن رئيس البلاد وملكها، ولقد كان يحق لأولئك الذين سبوك وأهانوك أن يشكروك ويعترفوا بفضلك، فإنك لم تنتقم منهم بل حلمت وتمالكت، فثبت بذلك أنك خليفة النبي.»
قال عبد الله: «لما أقسمت يمين الولاء للمهدي أحضر أحد تلاميذه ويدعى علي وقال له ولي: أنتما منذ الآن إخوان، فليؤيد كل منكما الآخر وأنت يا عبد الله أطع ما يأمرك به أخوك.
وكان علي يجاملني وكان فقيرا مثلي، وكان كلما أرسل إليه المهدي طعاما يشاركني فيه فأصيب منه، وكنا في النهار نحمل الطوب لبناء الضريح، وفي الليل ننام على فراش واحد، وتم بناء القبة بعد شهر، وكان الزائرون يتوافدون على المهدي بالمئات، فلم يكن لديه من الوقت ما يمكنه أن يراني أو يفكر في، ولكني كنت أعرف أن لي في قلبه مكانة؛ حتى إنه جعلني أحد حملة البيارق ، ولما غادرنا المسلمية كان الناس يهرعون إلينا لكي ينظروا المهدي، وكانوا يسمونه في ذلك الوقت باسم محمد أحمد فقط، وكانوا ينصتون إلى أقواله ويرغبون في بركته.
ولازمتنا هذه الحال حتى بلغنا جزيرة أبة، وكان نعلاي قد بليا، وكنت قد اضطررت إلى إعطاء حماري للمقدم - وهو رئيس التلاميذ - لكي يحمل عليه رجلا مريضا، ولكنا وصلنا في النهاية إلى بيت المهدي، وهنا أصابتني دوسنطاريا شديدة، فأخذني «أخي» علي إلى عشته المصنوعة من القش، ولم تكن تكاد تسع اثنين، وكان يأتيني بطعامي ويحمل إلي الماء للوضوء.
Unknown page