فنظرت إلى حسب الله ووجدت من عينيه أن الرجل يقول الحق فقلت: «قد يكون ذلك ولكني في ذلك الوقت لم أحكم هذه البلاد، وأنا أعرف أنكم في تلك الأيام كنتم تعملون ما كنتم تظنونه صوابا، ولست ألومكم على ما فات ولكني أنا الآن الحاكم وأطلب منكم السير على رغبتي، فيجب إذن أن تردوا الأسرى، ولكن بما أن المهرية قد بدءوكم بالهجوم فأنا أسمح لكم بأن تحتفظوا بنصف الجمال برهانا على شجاعتكم في رد غارتهم.»
فخيم سكوت طويل ثم أخذ الأربعة يتفاضلون معا، وأخيرا أجاب جار النبي بقوله: «سنطيع أمرك، ولكن بما أن جمع الجمال يحتاج إلى مدة طويلة لتفرقها في أنحاء البلاد، فإنه من الأسهل علينا أن نرد الأسرى.»
فقلت: «إذن التفتوا لما أقول ونفذوا هذه الأوامر بأسرع ما يمكنكم، ردوا الجمال وأنا أعفيكم من خراج هذا العام؛ لأني أعرف أن من الصعب أن تدفعوا الخراج وتردوا الجمال في وقت واحد.»
ورأينا أن هذه التسوية قد وافقتهم حتى صاروا يكثرون من الشكر والدعاء، فطلبت منهم البقاء لصباح اليوم التالي وقلت: إن صالح سيعنى بكل حاجاتكم. ثم امتطينا خيولنا وأمرت الجنود بأن يطلقوا ثلاث طلقات، وقد ذعروا عندما صكت آذانهم؛ لأنهم لم يسمعوا إطلاق العيارات النارية قبلا، ثم أمرت صالحا بأن يحضرهم لي في صباح اليوم الثاني، وركضت جوادي إلى مضرب خيامنا.
وقضيت طول النهار وأنا مشغول البال بشأن رجوعي إلى الفاشر بدون أن يؤثر رجوعي في نجاح بعثتي، ولم يكن من المتيسر لي أن أبقى حتى أرى رد الأسرى، وكنت أيضا قلقا بشأن قرب الماء الذي أعطاه لنا المهرية، وقد وبخت حسب الله لعدم إتقانه هذه المهمة.
ولما جاءوا في صباح اليوم التالي سألتهم هل أرسلوا الرسل لجمع الأسرى والجمال، فأجابوني بالنفي، فقلت لهم في لهجة التغيظ إني لن أقدر على الانتظار لكي أرى تنفيذ أوامري بنفسي، فقال جار النبي: «نحن هنا يا مولاي لكي ننفذ أوامرك، فيمكنك أن تسافر حين تشاء، ونحن نسلم الأسرى والجمال إلى دنقوسة وحسب الله.»
فقلت: «عندي اقتراح آخر، فإني لا أشك في إخلاصكم وولائكم، ولكني أحب أن أزيد معرفتي بكم؛ ولذلك أرى أن تصحبوني أنتم ومن تريدون أن يرافقكم إلى الفاشر، وفي أثناء غيابكم تنتدبون من ترغبون في ندبه لكي يسلم الرجال والجمال لحسب الله الذي سيبقى هنا مع دنقوسة، وعندما تبلغني الأخبار وأنا بالفاشر بأن مندوبيكم قد فعلوا ذلك، أردكم أنا إلى بلادكم مثقلين بالهدايا، إنكم لم تزوروا الفاشر قبلا، ويلذ لكم رؤية عاصمة المديرية وقوة الحكومة، وإني واثق بأنكم ستوافقون على اقتراحي هذا، وستسرون لما تشاهدونه هنالك؛ حتى إنكم ستوافقون بعد ذلك دائما على كل ما أطلبه منكم في المستقبل.»
فقال صالح إن الاقتراح حسن ولكنه قد سبق أن رأى الفاشر؛ ولذلك هو لا يرغب في زيارتها ثانيا، ورأيت من وجوه الآخرين أنهم يستحسنون الفكرة، وبعد محادثات طويلة وافقوني على السفر معي. وكانوا لعلمهم بأن سفرنا يتوقف على انتداب من يثقون به لتسليم الأسرى والجمال؛ أخذوا يتشاورون بسرعة في انتداب عدد منهم لكي يقوموا بهذا العمل، ولما انتهوا من ذلك زودوهم بستة رجال لخدمتهم وأخبروني باستعدادهم للسفر، ولكنهم قبل أن يسافروا طلبوا مني أن يقسموا يمين الولاء فوافقتهم على ذلك، وكان لأخذ هذه اليمين حفلة نظامها كما يلي:
أحضروا سرج جواد ووضعوه على الأرض، ثم وضعوا فوقه قدرا تحتوي على فحم خشبي متقد وغرزوا في السرج رمحا، ثم تقدم شيخ بعد شيخ منهم وصار يتلو كل منهم كلمات ثم يقسم في نهايتها اليمين التالية:
لا تمس ساقي هذا السرج، وليطعنني هذا الرمح، ولتأكلني هذه النار؛ إذا أنا نكثت بهذا العهد الذي أتعهد به أمامه.
Unknown page