صادف وصولي يوم قيام إحدى بواخر البريد، فاغتنمت الفرصة وتمكنت بمساعدة ذي الشأن في أسوان من مواصلة رحلتي بعد ظهر اليوم المذكور (16 مارس).
رافقني جميع الضباط الإنجليز والمصريين إلى الباخرة، ووقعت الفرقة العسكرية السودانية النشيد النمساوي الوطني على موسيقاها، فذرفت عيناي الدموع حنينا إلى الوطن العزيز، ثم دخلت السفينة فارتفع الهتاف من جميع الركاب على اختلاف جنسياتهم، فشكرت لهم جزيلا، ثم شكرت للضباط المقيمين في أسوان عنايتهم بي وإخلاصهم لي. وفي الحق لم أكن مستحقا كل ذلك التكريم وهذه الحفاوة، ولم أجد - مع شعوري بالخجل الشديد - سوى تقديم الشكر والدعاء للجميع بالخير.
كان معي في سفري ماتشل بك قائد الفرقة السودانية الثانية عشرة، والذي كانت مناوراته من وادي حلفا إلى كورسكو عن طريق مورات سببا في أكل الطعام المعد لي عندما وقع عليه الجنود السودانيون، وسببا في تغيير خط سيري.
عندما وصلت مساء الأحد إلى الأقصر تجلى عطف الأوروبيين المسافرين معي مرة أخرى، وهنا تلقيت عن طريق البارون هولر تلغرافا من شقيقاتي العزيزات صادرا من عاصمة وطني العزيز (فينا)، فما أبهج تلك الساعة التي قرأت فيها تلغرافا عليه إمضاء بأسماء شقيقاتي العزيزات وعنوان فينا العزيزة!
في الساعة الخامسة من مساء الإثنين وصلنا إلى جرجا أقصى محطة جنوبية للسكك الحديدية المصرية، ومنها ركبت القطار إلى مصر، حيث وصلت الساعة السادسة من صباح الثلاثاء 19 مارس.
على الرغم من تلك الساعة المبكرة جدا في الصباح، وجدت على المحطة البارون هولرفون إيجرج وجميع موظفي السفارة النمساوية والقنصل النمساوي الدكتور كارل وترفون جورا كوشي، وهناك أيضا صديقي العزيز ونجت بك الذي لا أستطيع في كلماتي القليلة هذه أن أعبر عن شكري له، وإلى جانب أولئك شاهدت مراسل «التيمس» والأب روزينولي وآخرين غيره، ومع أولئك فوتوغرافي يأخذ الصور المختلفة.
بعد أن صرفنا بضع دقائق في تبادل التحيات، سرنا إلى السفارة النمساوية، حيث بقيت مدة طويلة ضيفا عند الرجل الطيب الشديد الإخلاص البارون هولر، الذي قام بمجهود عظيم في سبيل حريتي، والذي لم يكن عمله ناجما عن واجبه بصفته ممثل النمسا في الحكومة المصرية، ولكن كان صادرا عن عاطفة حية مشفقة على شخص أصيب بالأسر المفزع.
عندما وصلت إلى السفارة وجدت الغرفة الخاصة مزينة بأعلام وطني العزيز، ومملوءة بالأزهار والورد، وقد كتب على باب السفارة «تحية صادقة للضيف الكريم».
في ذات اليوم الذي وصلت فيه إلى مصر، تسلمت تلغرافات التهنئة - بنجاتي - من أفراد أسرتي وأصدقائي ورفقائي في المدرسة قديما، ومن صحف عديدة في أوروبا بصفة عامة والنمسا بصفة خاصة. وإني لا أنسى العطف العظيم الذي تفضل به علي صاحب السمو الملكي الدوق ولهلم أف ورتمبرج، وصاحب السمو البرنس لويس إستر هازي، وقد كان كلاهما في حملة بوسنة عندما كنت أحارب مع فرقتي العسكرية، ولا ريب في أني سأذكر دائما كلمات التشجيع التي نادى بها ذانك الرجلان العظيمان إزاء مصائبي الأولى، وكلمات التهنئة بعد الفرار من مقر الخليفة عبد الله المشهور بطغيانه.
بعد عودتي إلى مصر بقليل تشرفت بمقابلة صاحب السمو خديو مصر، الذي أنعم علي برتبة الباشوية. دخلت السودان منذ ستة عشر عاما كملازم أول في الجيش النمساوي، وعندما عينت حاكما لدارفور منحت من الحربية المصرية لقب أميرال، أما الآن فرقيت إلى درجة اللواء حسب نظام الجيش المصري.
Unknown page