وقد تركته حوالي الظهر. وفي يوم الثلاثاء التالي أرسل لي خادمه يطلب أن أذهب إليه لأنه يشكو مرضا شديدا، وأبلغني خادمه أن سيده مصاب بحمى شديدة، وأنه ملازم الفراش من ثلاثة أيام، فوعدت الخادم بأني قادم إليه سريعا. وفي المساء طلبت إلى الخليفة أن يسمح لي في الذهاب. وفي صبيحة اليوم التالي - وقد حصلت على الإذن بقضاء عامة اليوم مع هذا المريض - ذهبت في الحال إلى منزله فوجدته في حالة يرثى لها؛ وجدته يشكو ألم حمى التيفوس، وحالته شديدة لدرجة أنه لم يتمكن من معرفتي لما دخلت في أول الأمر، وقد حدثني بعد ذلك بألفاظ متقطعة موصيا بأن أعتني بأخته، ثم تمتم كلاما عن والده.
الفصل الثالث عشر
حملة الأحباش
وما كان يدور بخلد أحد أن انتصارات المهديين يسكت عليها من جانب الأحباش؛ فقد أعد الملك «جان» عدته وجمع قواته بعد أن استتب له الأمر في الداخل ببلاده، أعد العدة لغزو القلابات. وبالفعل أحرزت قوات الأحباش نصرا في بادئ الأمر، إلا أن نصرهم انقلب هزيمة عندما أصيب الملك «جان» برصاصة قضت عليه لساعته، فارتد الجيش الحبشي بغير نظام وتعقبه «زكي طومال» الذي تمكن من الاستيلاء على تاج الملك ومتاعه وأخذ جثته غنيمة.
وقامت على أثر ذلك في بلاد الأحباش ثورة داخلية بسبب تطلع كثيرين إلى العرش.
وكان الإيطاليون يحتلون مصوع منذ بدء عام 1885، وعلى ذلك مكنتهم تلك الثورات الداخلية من الاستيلاء على مناطق واسعة داخل حدود الحبشة بالقرب من مصوع، وقد قوى الاستيلاء عليها مركز الدراويش في القلابات؛ لأن الأحباش شغلوا باسترداد ما استولى عليه عدوهم الجديد.
وبينما كانت القوة المعسكرة في القلابات تحت رحمة الملك «جان» في بادئ الأمر، كان «عثمان واد آدم» في حرب شديدة في غربي السودان، وقد شتت شمل السلطان يوسف ودحر جيشه وجعل عساكره بدون مأوى في شرقي السودان وغربيه، وقد حكم على أمرائه وأتباعه بأشد العقوبات وساق أتباعه من النساء والأطفال غنائم وأرسلهم مخفورين إلى الفاشر، وانتشر الهرج والمرج في جميع الأنحاء حتى حدود «دار تاما».
وكان في ذلك الوقت بتلك الناحية شاب هرب من أم درمان، ينتسب إلى قبيلة من القبائل النازلة على ضفاف النهر، ويسكن في تلك الناحية مستظلا بشجرة جميز ، فلقبوه من أجلها بأبو جميزة، فوصل إليه بعض من هؤلاء الرجال الذين شتت شملهم «عثمان واد آدم» وانضموا تحت لوائه، فجمع شملهم وتولى قيادتهم للأخذ بثأرهم، وبالفعل تم له النصر في أول الأمر على قوة صغيرة من قوى الدراويش كانت في ذلك الوقت قريبة منهم. وكان لذلك الانتصار صداه، فانضم إليه كثير من الدارفوريين وكونوا قوة عظيمة تحت إمرته سار بها إلى الفاشر، إلا أن المنية عاجلته في الطريق فقضى نحبه، فانقض «عثمان واد آدم» على جيشه وكان على بضعة أميال من الفاشر وهزم هذا الجيش شر هزيمة.
أما الخليفة فكان في هذه الأثناء يسر في نفسه غزو الديار المصرية، وقد استشار من أجل ذلك كثيرا من زعمائه، فحسنوا له غزو مصر لما احتوت عليه من حدائق غناء وقصور فخمة وسيدات لونهن أبيض جميلات.
وبطبيعة الحال كان أكفأ قواد الخليفة في ذلك الوقت، والذي يصح أن توكل إليه قياد الجيوش الغازية، هو «ابن النجومي»؛ لشجاعته النادرة، ولأنه عرف مصر وخباياها لما كان تاجرا بسيطا، وفضلا عن ذلك أنه كان من أشد أنصار الدعوة المهدية، يعمل لنشرها بكل ما أوتي من حول وقوة.
Unknown page