وقد خالفت هذه القاعدة في حالة واحدة، ولكن قبل أن أقص هذه الحادثة يجب أن أقول إنه لا ينبغي الحكم على عملي من وجهة الآداب المسيحية فقط، بل أنا أقر بأني خرجت عن حدود الشريعة الإسلامية، ولكن عندما يقرأ القارئ القصة بأجمعها سيوافقني على جميع ما عملته، ويشترك معي في العواطف التي بعثتني على هذا العمل.
فقد زارني في أحد الأيام طائفة من التجار، وطلبوا مني أن أتوسط في مسألة شاب عمره 19 سنة وأصله من الخرطوم، وقصوا علي أن هذا الشاب قبل مغادرته الخرطوم كان قد خطب ابنة عم له جميلة ولكنها فقيرة، وتواعدا على الزواج بعد أن يسافر الشاب في تجارة ويجمع بعض المال، فلما وصل إلى أم شنجة عرف عجوزا غنية افتتنت به أشد الافتتان، ولم يخبرني هؤلاء التجار عن الشاب هل هو طمع في أموالها أو لا، ولكن المسألة انتهت بأن تزوجته هذه العجوز، ووجد هو نفسه أنه أصبح ثريا فلم يكن له رغبة في الرجوع إلى الخرطوم وتطليق امرأته، وبلغت أخباره ابنة عمه في الخرطوم فاستولى عليها ذهول، وطلب إلي أن أحل هذه المسألة، فماذا أفعل؟
فاستدعيت الشاب وكان جميلا وجماله فوق المألوف، فتنحيت به في ناحية وأخذت أكلمه بكل جد ووقار، وأظهرت له سوء عمله في التزوج بعجوز أجنبية عنه، وكيف أن خطيبته تبكي حتى كاد يذهب بصرها، وهي وإن كانت فقيرة ولكنه يجب شرفا أن يرعى مودتها ووعده لها، فتردد مدة طويلة ولكنه أخيرا رضي بأن يذهب إلى القاضي ويطلق هذه العجوز، وكنت قد استدعيت القاضي وأخبرته أنه إذا طلق الشاب زوجته يجب عليه أن يخبر المرأة بهذا الطلاق بكل رفق ولطف؛ لأني لا أرغب في ضوضاء، واستوثقت من أقارب الشاب بأنه بعد طلاقه يجب أن يسافر إلى الخرطوم، ثم أوصيت موظف الحكومة في أم شنجة بأن ينفي هذا الشاب بعد يومين من طلاقه ويأمر بعدم بقائه في البلدة بعد هذين اليومين، وأوعزت له بأن يقول ما شاء أمام العجوز ويلقي علي تبعة الخلاف، بشرط أن يجتهد في أن تعطي الشاب مبلغا من المال يقوم بحاجته مدة سفره إلى الخرطوم، ولم أكن أتصور وأنا أعمل هذا العمل الزوبعة الهائلة التي أثرتها على رأسي؛ ففي الساعة الرابعة بعد الظهر وأنا منسطح على العنجريب في عشتي، سمعت صوت امرأة غاضبة ترغب في أن تراني، فحدست من تكون هذه المرأة واستعددت للقائها وأمرت بدخولها، وما هو أن صارت في العشة حتى رأت الدكتور زربوخين الذي كان معي وقتئذ، فصاحت فيه وهي هائجة مجنونة: «لن أقبل الطلاق، هو زوجي وأنا زوجته، تزوجني على أصول الشريعة وأنا أرفض الطلاق.»
فدهش الدكتور زربوخين وتمتم كلمات مكسورة باللغة العربية وأخبرها بأنه لا يعرف شيئا عن هذه المسألة، وأن التبعة تقع علي أنا وحدي، ولم أتمالك من النظر والتأمل في هذه المرأة الغريبة؛ فقد كانت ضخمة قوية عنيدة، وكانت من الغضب بحيث لم تراع أدب اللياقة الذي تراعيه الشرقيات في مخاطبة الرجال؛ فقد انفتل برقعها لشدة هياجها، وبدا رأسها مغطى بمنديل حريري عديد الألوان وقع بعضه على كتفيها، وكان وجهها يضرب إلى الصفرة وقد كسته الأسارير، وفي كل من خديها ثلاثة خطوط من الوشم، بين الواحد والآخر نحو نصف بوصة، وكان معلقا بأنفها قطعة من المرجان الأحمر، ويتدلى من أذنيها قرطان كبيران من الذهب، أما شعرها فكان حلقات صغيرة عديدة قد شمطت لتقدمها في السن، وظننت وأنا أنظر إليها أني لم أر قط امرأة أكثر دمامة منها، وأنا في هذه التأملات وإذا بنعيبها الذي تحول إلي تسألني السؤال نفسه الذي سألته للدكتور المرعوب، فتركتها حتى هدأت قليلا ثم قلت: «إني أدرك تماما ما تقولين، ولكن لا بد من الخضوع لما لا مفر منه؛ فإن زوجك سيتركك وأنت لا يمكنك أن تتركي البلدة معه، وتقولين إنك لا ترغبين في الطلاق، ولكن تذكري أن الشريعة تحل للرجل الطلاق.»
فصاحت بي: «لو لم تتوسط لما طلقني، لعنة الله على يوم جئتنا فيه.»
فقلت: «أرجوك أن لا تقولي ذلك، فأنت امرأة غنية وأظن أنك لن تجدي صعوبة في الحصول على زوج أكبر سنا من زوجك الذي طلقك.»
فصرخت: «لا أريد أحدا غيره.»
فقلت بحدة: «اسكتي، أقارب زوجك السابق يريدون أن يتركك ويسافر، وقالوا إنه لا يربطه بك إلا أموالك، والآن مهما قلت فإنه سيغادرك غدا، ألست تخجلين من التزوج بشاب صغير قد كان يمكن أن يكون أحد أحفادك وأنت عجوز؟!»
فجنت جنونها عندما فهت بهذه العبارة ولم تستطع ضبط نفسها، فمزقت برقعها ورفعت يديها، لا أدري ماذا كانت تريد أن تفعله لو لم يدخل القواص ويجليها عن الغرفة بالقوة وهو يحذرها من الفضيحة التي تجلبها على نفسها بأعمالها هذه، وفي اليوم التالي سافر الزوج وهي في غم شديد.
وبعد سنوات لقيت هذا الزوج وكان قد تزوج ابنة عمه، فشكر لي صنيعي وتخليصي له من مخالب تلك العجوز، وكان في ذلك الوقت أبا سعيدا له أولاد عدة، وليس لي حاجة بأن أقول بأني نمت تلك الليلة مرتاحا لهذا الصنيع الذي لم يكلفني شيئا.
Unknown page