أما أنا فلست أدري بعد أن قرأت هذه القصة أوقعت من نفسي موقع الإعجاب! ولكني أعلم أني تأثرت لها وضقت بها ذرعا، وأنكرت شيئا غير قليل من لهجات أبطالها وأصواتهم، وخيل إلي أني أسمع شيئا لم أتعود أن أسمع مثله، ولم أهيأ لاستماعه، وأني أرى قوما لا عهد لي بهم ولا بهذه الحياة العقلية والشعورية التي تبعثهم على الحركة والقول. وليس في هذا شيء من الغرابة؛ فإن هذه القصة لا تقع في فرنسا ولا في بلد من بلاد الغرب التي تأثرت بالحضارة اللاتينية اليونانية وطبعت هذا الطابع الذي ألفناه، وهي لا تقع في بلاد الشرق العربي الذي يلائمنا ونلائمه، وإنما تقع في روسيا ويقوم بالحركة والقول فيها طائفة من الروسيين غريبة أطوارهم، يشعرون ويعملون على نحو يخالف شعورنا وعملنا؛ فليس عجيبا أن ننكرهم، وأن نحس أن الصلة بيننا وبينهم منقطعة.
على أن الكاتبين الفرنسيين قد اجتهدا أشد الاجتهاد في إزالة الفروق أو تلطيفها، وخيلوا إلى الناس أن أشخاص هذه القصة من الأشخاص الذين ألفتهم جماهير النظارة في ملاعب التمثيل، ومع ذلك فقد ظلت هذه الفروق ظاهرة قوية. ولعل هذا، بل لست أشك في أن هذا هو السبب في أن الجماهير لم تفتتن بهذه القصة سنة 1910؛ لأنها لم تعرف أشخاصها ولم تأنس إليهم ولم تستطع أن تتمثل فيهم نفسها. وأنت تعلم أن الشرط الأساسي للإعجاب بقصة تمثيلية محزنة هو أن تستطيع فهم أشخاص هذه القصة وتتمثل نفسك فيهم، وحياتك في حياتهم. وأنت تعلم أن هذه المدة القصيرة التي لا تكاد تتجاوز أربعة عشر عاما قد كانت في حقيقة الأمر طويلة، تكاد تعدل القرون؛ لأنها امتلأت بالأحداث، وخلطت الناس بعضهم ببعض خلطا عنيفا أثناء الحرب الكبرى؛ ففهم بعضهم بعضا، وأنس بعضهم إلى بعض، وقربت المسافات بين نفسياتهم المتنائية، واستطاع الفرنسي أن يفهم الروسي ويتمثل نفسه فيه، ومن هنا فازت هذه القصة حين عادت إلى الملعب فوزا عظيما، واستطاع كثير من نقاد اليوم أن يتساءلوا: ما بال بيت «موليير» لا يضم هذه القصة إلى قصصه التي يمثلها من حين إلى حين؛ أي ما بال بيت «موليير» لا يضمن الخلود لهذه القصة؟
وفي الحق إنها جديرة بالخلود، ولست أدري أهي مدينة بهذا للكاتبين الفرنسيين اللذين حملاها إلى الملعب، أم للفيلسوف الروسي العظيم الذي نفخ فيها من روحه القوي وأودعها ما أودعها من حياة! وأحسب أنها مدينة به لهم جميعا؛ فأما الفيلسوف فقد اخترعها وأحياها، وأما الكاتبان الفرنسيان فقد منحاها من ضروب الزينة الفنية ما قربها إلى الناس وجعلها سهلة سائغة، تستطيع الجماهير المختلفة أن تفهمها وتتذوقها وتتأثر بما فيها. •••
موضوع هذه القصة الغيرة الزوجية، أو قل موضوعها الزواج السيئ، أو قل إن موضوعها الألم الذي تشعر به امرأة رقيقة دقيقة الحس لم يفهمها زوجها، أو قل إن هذا كله هو موضوع هذه القصة؛ فأنت تجد فيها تمثيلا متقنا للزوج الغيران، قد عذبته الغيرة أشد العذاب، وكلفته ألوانا من الألم، وحملته على ضروب من العنف والقسوة، ونغصت عليه الحياة وأساءت ظنه بالناس وظن الناس به، وقطعت الصلة بينه وبينهم، ثم انتهت به إلى الإجرام، وأنت تجد فيها تمثيلا قويا متقنا شديد التأثير في النفس للمرأة التعسة، منحتها الطبيعة حسا دقيقا، وشعورا رقيقا، وطموحا قويا إلى الحب، ثم حالت الأقدار بينها وبين الظفر بما تريد وبما تستحق من هذا، واضطرتها إلى أن تخضع لآلام الحب وأثقاله دون أن تستمتع بلذاته ونعيمه. ثم بالغت الأقدار في القسوة عليها والعبث بها، ففتحت لها باب الأمل ولكن على أن لا تلجه دون أن تتورط في الخيانة وتتعرض للمكروه! وأنت تجد في هذه القصة تمثيل هذا الرجل الآثم السخيف الذي اتخذته الطبيعة فتنة لنفسه وللناس، وأقامته دليلا على أن الإنسان قد يرقى حتى يكون عظيما، ولكنه قد ينحط حتى يكون دنيئا. هذا الرجل الجميل الخلاب الذي يظن بنفسه الخير وهو شرير، ويؤمن لنفسه بالشجاعة وهو جبان، ويعلن عن نفسه الوفاء والصدق وهو خائن كاذب، لا يبتغي إلا اللذة، ولا يطمع إلا في اللهو، ثم تجد في هذه القصة بعد هذا كله تمثيلا صادقا، ولكنه خفي أشبه بالتلميح منه بالتمثيل لهذه الأسرة، التي تضطرها الحاجة إلى أن تضحي بابنتها في سبيل الثروة ولين العيش، ثم لا تلبث أن تنخدع فيخيل إليها أنها لا تضحي بابنتها، وإنما تقدم إليها السعادة ونعيم الحياة!
تجد هذا كله في هذه القصة، وتجده قويا عنيفا ثقيلا، حتى إنك إذا فرغت من قراءة القصة تشعر بضيق شديد، وتلتمس ما يشغلك عن التفكير فيها؛ لتنصرف عن هذا الألم الذي يسدل على الحياة كلها أمامك سترا أسود حالكا، لا موضع فيه للأمل ولا الابتسام. •••
نحن في مدينة بطرسبرج عاصمة روسيا القيصرية، في بيت رجل غني، ضخم الثورة، متوسط العمر، لم يكد يبلغ الأربعين، هو «بوزنيشف»، تراه جالسا في غرفة استقباله وقد اعتجر بفوطة، وظهرت عليه أمارات الضجر والسأم، والخادمة ترتب الغرفة، فيسألها عن سيدتها، فتجيب أنها لا تزال تصلح من شأنها، فيأمرها أن تنبئ سيدتها بأنه ينتظرها وبأنه شديد الحاجة إليها، ضيق الصدر لبعدها عنه. فإذا انصرفت الخادمة، دخل عليه عمه، وهو طبيب، فلا يكادان يتحدثان حتى نفهم القصة، وهي: أن هذا الشاب الغني قد أسرف على نفسه، فلها كثيرا حتى تعرض للمرض، ثم عرف أسرة كانت غنية ولكنها سيئة الحال، وأحب إحدى فتيات هذه الأسرة، فخطبها فقبلت الأسرة خطبته، وتزوج الفتاة وإن بينهما لفرقا عظيما؛ يكاد هو يبلغ الأربعين، ولا تكاد هي تتجاوز الثامنة عشرة؛ قد أسرف هو في اللهو، وجهلت هي كل شيء؛ قد أبلاه هو لهوه، وظلت هي جديدة الجسم والنفس والعاطفة. وهو يشعر بكل هذه الفروق ويألم لها ويريد أن يزيلها، هو يحب الفتاة ويريد أن تكون سعيدة، فهو يتكلف الشباب والقوة ويظهر للفتاة حرصا شديدا على تحقيق آمالها كلها، وقد خيل إليه أنه وفق من هذا كله لما يريد، وأن الفتاة سعيدة حقا وأنها تحبه حبا لا حد له، وأنها لا تستطيع أن تفارقه لحظة دون أن تجد لذلك ألما شديدا.
هو يقول هذا كله لعمه الطبيب، وعمه يسمع هذا الحديث مظهرا الشك فيه، وقد أقبلت الفتاة، فلا نكاد نراها ونسمعها حتى نستيقن أن الشيخ مصيب في شكه، وأن الشاب مخطئ في يقينه، وأن الحقيقة الواقعة هي أن هذا الشاب يحب الفتاة ويريد أن تحبه الفتاة، فهو يخدع نفسه، أما الفتاة فلا تحبه ولكنها تذعن له إذعان المكره الذي لا يجد مفرا من القضاء.
أخذها سعال، فانظر إلى زوجها قلقا مذعورا يريدها أن تلزم الغرفة. ماذا نقول! بل على أن تلزم السرير، ويعلن إليها في تلطف أنه سيلازمها وسيعنى بها، أما هي فتأبى وتظهر الضجر، ولكنه لا يفهم أو لا يريد أن يفهم. انظر إلى الشيخ الطبيب يريد أن ينصرف، فإذا الفتاة تدعو زوجها إلى أن يخرج مع عمه حينا، فإذا أبى الزوج هذا الخروج ألحت عليه فيأبى، فتسرف في الإلحاح قائلة إنه يستطيع أن يخرج ليحمل إليها هدية ما، ونفهم نحن أنه يقبل؛ لأنه سيعود بهذه الهدية، وسيتخذها وسيلة إلى أن يظفر من زوجه بما قد كانت تأباه عليه لو لم يخرج. ذهب ليأخذ قلنسوته، فإذا الفتاة تلقي على الشيخ سؤلا نفهم منه أنها كانت تحب شابا آخر غير زوجها، وقد عاد الزوج وخرج مع عمه بعد أن طلب إلى امرأته أن تقف إلى النافذة وأن تلوح له بمنديلها حتى يغيب عنها، فتفعل، ثم تعود وإذا هي تتنفس الصعداء وكأن الله قد رفع عنها ثقلا شديدا، ولكن أمها قد جاءت، فاسمع إلى الحديث بينهما، تفهم أن الفتاة ضيقة الذرع بزوجها؛ لأنه يثقل عليها بنفسه وحبه ولذته؛ فهو لا يتركها وحدها لحظة، وهو يتبعها بأمله ورغبته في كل مكان وفي كل حين، حتى كرهت الحياة، وأمها تلومها وتسخر منها، وفيم تطمع امرأة حديثة عهد بالزواج إذا لم تطمع في أن يثقل عليها زوجها هذا الإثقال!
ولكن الزوج قد أقبل وفي يده شيء، فلم يكد يتحدث إلى امرأته وأمها حتى نهضت الأم تريد أن تنصرف إلى غرفتها، وتريد ابنتها أن ترافقها، فيمسكها الزوج ويدعو الخادم لتدل الأم على غرفتها؛ ذلك أنه شديد الشوق إلى أن يخلو إلى امرأته، فإذا خلا إليها فاسمع لحديثهما؛ إنها تشكو إلحاحه وتضرع إليه في أن يخلي بينها وبين نفسها حينا وفي أن يشغل نفسه عنها بعمل ما، وانظر إليه محزونا مغضبا ، حتى إن هديته لتسقط من يده، ولا تكاد تفرغ من الاستماع لهذا الحديث حتى تشعر بأن كلا الزوجين ضيق الذرع بالحياة، هو يكذب على امرأته ليسعدها، وهي تكذب على زوجها لتعصمه من الألم وخيبة الأمل، ولكن صديقا لهما قد دخل وهو «تروكاسنسكي»، رجل موسيقي، حسن الطلعة، مشهور بفتنة النساء، فيلقاه الزوج لقاء سيئا؛ ولكنه لا يدعه ينصرف بل يطلب إليه أن يجلس إلى البيانو ويوقع عليه، وقد جلس الموسيقي إلى البيانو وأخذ يوقع هذا اللحن المشهور الذي سميت به القصة، وانظر إلى الزوج قد أدنى زوجته منه وأخذ يسألها: «أتحبينني؟» فتجيبه كارهة: «دعني أسمع، إن هذا لجميل.» ولكنه يطلب إليها قبلة فتفعل كارهة، ويلتفت الموسيقي فيراهما، فيظهر الإنكار والغضب، ويأمره الزوج أن يمضي في اللعب، وقد فهمنا أن هذا اللحن قد عبث بنفس الفتاة. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن حيث كنا في الفصل الأول؛ ولكن العهد بعيد بهذا الفصل، فقد مضى حين طويل ورزق الزوجان طفلين، ولكن موقف كليهما من صاحبه قد أصبح جليا واضحا؛ أما المرأة فقد أظهرت ميولها وعواطفها، وأحس منها زوجها أنها لا تحبه وأنها لا تكره أن تتحدث إلى غيره، بل أن تغلو في هذا الحديث، وهو لهذا مغتاظ حنق شديد الغيرة سيئ الظن بامرأته وسيئ الظن بالناس أيضا، لا يكاد يحس من امرأته ميلا إلى الحديث مع أحد أصدقائه حتى يقصي هذا الصديق ويقطع ما بينهما من صلة، ومع ذلك لم تخنه امرأته بعد، ولكنه غيران، فهو يحتاط يريد أن يتقي الخيانة، ونحن في أول هذا الفصل الثاني نعلم أن أحد الطفلين مريض، وأن الأم قد دعت طبيبا آخر غير عم زوجها لأنها لا تطمئن إلى عم زوجها، وهذا الطبيب الآخر رجل متكلف مكثار، ولكنه ظريف لا يخلو من دعابة، والطبيبان مختلفان، يرى الشيخ أن الطفل بخير، ويرى الآخر أن حالته سيئة، والأم تصدق الثاني دون الأول، ومهما يكن من شيء فالذي يعنينا هو موقف الزوجين، وهو سيئ، فلا يكادان يخلوان حتى يتبادلا جملا ملؤها التعريض الأليم: كلاهما يتهم صاحبه، وكلاهما يحذر صاحبه ويخافه، وقد أقبل الموسيقي، فما أسرع ما نفهم أن بينه وبين المرأة صلات قد أخذت تقوى وتلائم بينهما، وما أسرع ما يفهم الزوج ذلك؛ فانظر إلى غيرته قد تجاوزت كل حد، فهو يخرج امرأته ليخلو إلى الموسيقي، وانظر إلى هذه المرأة تخرج كارهة وإنها لتتكلف إمساك دموعها، وإنها لتحس إحساسا عنيفا هذه الذلة التي هي مضطرة إليها مع هذا الزوج. أليس مذلا لها أن يتهمها زوجها هذا الاتهام وألا يخفي اتهامه ولا يتلطف فيه؟!
Unknown page