Sawt Acmaq
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Genres
حقيقة الأمر أن «العالم الواقعي» مشيد، لا شعوريا، إلى حد كبير، على العادات اللغوية للجماعة، ولا توجد لغتان متماثلتان بما يكفي لأن نعدهما ممثلتين لنفس الواقع الاجتماعي. إن العوالم التي تعيش فيها المجتمعات المختلفة هي عوالم مختلفة. إنها لا تعيش في عالم واحد ألصقت به بطاقات مختلفة. (سابير، ص209)
وقد كسبت فرضية النسبية اللغوية جمهورها العريض بفضل أعمال بنيامين لي ورف الذي أصبحت كتاباته المجموعة أشبه بالمانيفستو النسبي. يمثل بنيامين ورف هدفا متحركا! فأغلب كتاباته تأتي في كلا الشكلين المتطرف والمعتدل. ورغم أن آراءه المعتدلة ما تزال موضع نقاش فلا شك أن دعاواه الجريئة غير الملجمة بالمحاذير والشروط كانت أقدر على أسر قرائه من دعاواه المتحفظة الخجول.
يقول ورف إن اللغات المتشابهات قلما تحدث فروقا معرفية ذات شأن، غير أن اللغات التي تبعد كثيرا عن الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية الغربية تؤدي بمتحدثيها غالبا إلى نظرات للعالم مختلفة غاية الاختلاف.
هكذا نكون بصدد مبدأ جديد من النسبية مفاده أن الملاحظين لا ينقادون جميعا بنفس البينة الفيزيائية إلى نفس الصورة عن العالم ما لم تكن خلفياتهم اللغوية متشابهة أو قابلة للمعايرة بطريقة ما. هكذا تتكشف لنا نسبية جميع المنظومات التصورية، بما فيها منظومتنا، واعتمادها على اللغة.
27
ويرى ورف أن اللغة ليست مجرد «أداة» طوع اليد تسمح لنا بالتعبير عن أفكارنا، وإنما اللغة هي التي توجه الفعل الذهني وتحدد شكل الفكر وترسم للفرد الإطار الذي تمضي فيه تحليلاته وانطباعاته وكل ما يعتمل في ذهنه. إن صياغة الأفكار لا تسير على الإطلاق سيرا مستقلا عقلانيا كما كان يظن في السابق، بل ترتبط ببنية نحوية معينة تختلف من لغة إلى أخرى.
إننا نشرح الطبيعة عبر خطوط تضعها لنا لغتنا المحلية، فالتصنيفات الفئوية والأنماط التي نستخلصها من عالم الظواهر نحن لا نعثر عليها لأنها ماثلة هناك تحملق إلى كل ملاحظ في وجهه، بل العكس هو الصحيح، فالعالم إنما يقدم إلينا على هيئة تدفق كاليدوسكوبي من الانطباعات التي تتطلب تنظيما من جانب عقولنا، أي من جانب الأنساق اللغوية القائمة في عقولنا. (ورف، ص214)
كما أننا نقوم بتجزيء الطبيعة تجزيئا منهجيا من نوع خاص، فنسلكه في مفاهيم معينة ونلصق به معاني معينة، وذلك بمقتضى مواضعات معينة في الاستخدام اللغوي عند الجماعة اللغوية التي ننتمي إليها تحدد رؤيتنا للعالم وتشكلها. إنها مواضعات مقننة داخل قوالب لغتنا الخاصة، مواضعات ضمنية مضمرة، غير أنها تتمتع بإلزام مطلق. إننا لا نتحدث هنا إلا عن شرط التسجيل السريع للمعطيات المنظمة والمصنفة كما أعدت من خلال المواضعات الضمنية.
إن من يستخدمون ضروبا من النحو شديدة الاختلاف هم موجهون بهذا النحو إلى أنماط مختلفة من الملاحظات، وإلى تقييمات مختلفة لأفعال الملاحظة المتماثلة من الخارج. ومن ثم فإنهم كملاحظين ليسوا سواء، بل لا بد لهم من أن يصلوا إلى صور للعالم مختلفة بعض الشيء. (ورف، ص221)
والنحو بطبيعة الحال ليس نتاجا للعلم ولا يتحلى من خصائص العلم المميزة إلا ببعضه. لقد ظهر على إثر قائمة من الأحداث التاريخية التي تسببت في ظهور التجارة وأنظمة القياس وفي تشييد المخترعات التقنية في كل أرجاء العالم الذي كانت لغاته مسيطرة.
Unknown page