Sawt Acmaq
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Genres
هكذا يتبين أن الصدمة الثقافية التي تتعرض لها اليوم جميع الأمم في عصر «السماء المفتوحة» هي شيء يدعو للاستبشار والتفاؤل أكثر مما يدعو للهلع والتوجس. إن ثورة المعلومات، وتقنيات الاتصال التي فاقت التوقع، قد جعلت «الآخر» يقاسمنا دارنا ويؤاكلنا في صحننا! ذلك خير؛ فإلمامنا بثقافات الآخرين وطرائقهم يجعلنا أقدر على غربلة مفاهيمنا وتطويرها وإثرائها، ويجعلنا أقدر على فصل العابر من الدائم والمتحول من الثابت، ويجعلنا، مثلما نود؛ أنفذ بصيرة بما هو مقدس مثالي مفارق سرمد.
يستدعي ذلك في الذهن قول هيجل «ينبغي أن أتعرف على نفسي في الغريب.» لقد قدم هيجل تصورا للثقافة يقربها من مفهوم «البيت» - أي المكان «المجرد»، حيث تأوي الروح في نهاية المطاف - كمقابل ل «المنزل» أي المكان العياني الملموس الذي أدخله متى شئت وأخرج منه، وأبنيه وأهدمه. وهو تصور غير بعيد عن تصور هيدجر للثقافة بوصفها تقصيا تاريخيا للجوانب المشتركة مع الآخرين، وغير بعيد عما ذهب إليه هيدجر من أن فكرة الثقافة نفسها - الثقافة المفردة الواعية بذاتها - تتطلب، من أجل تحقق هويتها، المقارنة بالثقافات الأخرى. «أن يتعرف المرء على خاصته في المغاير، أن يكون «في بيته» وهو في المغاير - تلك هي الحركة الأساسية للروح؛ الروح التي يتألف وجودها من العودة إلى نفسها مما هو آخر.»
يؤكد هيجل على أن الثقافة ليست حيزا عيانيا كالمنزل، وإنما هي بقعة أكثر تجريدا كالبيت. ويذهب أيضا إلى أن المرء لا يتأتى له أن يميز ثقافة ما ويقدرها - حتى ثقافته الأم - إلا بالتأمل في الثقافات الأخرى والانعكاس عليها. والحق أن ما يقوله هيجل هو أكثر من مجرد مصاداة لفكرة التعرف الذاتي التي يتضمنها تصور هيدجر عن الثقافة كطريق أو مسلك، والتي تقول بأن ليس لدينا معالم نحدد بها مسار طريقنا سوى النظر إلى الطرق الأخرى. أن أميز نفسي في الغريب ليست مسألة نظر أو حتى حركة جسدية؛ فالتقاء الثقافات الذي يتطلبه وعي أن أي ثقافة بذاتها لا يشبه تغيير المنازل، إنما هو عند هيجل مهمة أصعب من ذلك بكثير: مهمة أن أجعل بيتا لنفسي في الغريب - أن نتخذ ثقافات بديلة بأن نجد بيوتا هناك - في تلك الثقافة الجديدة - وأن نعود إلى أنفسنا إذ ذاك!
وبعد:
ليست السكنى في الغريب واتخاذ بيت في المغاير شيئا ثانويا أو ترفا زائدا يمكن أن يتم الأمر بدونه، بل إن «روح الثقافة نفسها تتألف حصرا من العودة إلى ذاتها مما هو آخر.» فأن نكون في بيتنا حقا في مكان ما يتطلب منا أن نكون في بيتنا في أماكن عديدة!
د. عادل مصطفى
الكويت في 23 / 1 / 2004م
الفصل الأول
بين العلم والتعالم
حجرة اللغة الصينية
Unknown page