بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله الذي بين الأحكام، وهدى بشرعه الإسلام، وأوجب على الكافة الاهتداء بقوله رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، فقال تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر:7]، وقال تعالى: { وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى } [النجم:3،4].
أما بعد؛ فإن القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري أنشأ رسالة في تعجبه من علماء الزيدية، حيث كان منهم من يعتمد على الأحاديث النبوية في كتب حفاظ السنة الشرعية، فتوجه الجواب عليه بالحق الذي لا مزيد فيه، وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما
تعملون } [المائدة:8].
* * *
قال: " فإني أكثر التعجب ... " إلى آخره .
أقول: التعجب إنما يكون من الغريب النادر الشاذ، وأنت خالفت علماء الإسلام، فالتعجب من قولك أجدر.
قوله: " ما ذاك إلا لإرادة الله تعالى ".
أقول: وافق القاضي في الإرادة السلف.
Page 1
قوله:" فإذا كان المقصود هو الاعتقاد، مقتضى تلك الأدلة والعلم به زاغ عنها، وتبرى منها، ونسي ما كان فيها، وأعانهم على ذلك كثير من أصحابنا، بتكثير سوادهم، واعتقاد اعتقادهم، وما يتوهمه كثير منهم من أن صناعة علم الحديث وقوانينه وقواعده إنما عنى بها محدثوا الفقهاء دون أهل البيت -رضي الله عنهم أجمعين وشيعتهم- حين رأوا من المحدثين قعقعة من غير مطر، وجعجعة من دون / طحن، من غير تأمل لتلك القواعد، وشدة الخلاف من شيوخهم.
ومن أعظم ما يتطاولون به القدح بالإرسال، أو عدم نقد الرجال؛ فإن علوم الحديث التي هي عندهم أصوله، وكتب الجرح والتعديل التي هي قاعدته لا يرى فيها من المشايخ في تلك المقالات-التي يزعمونها-مسند إلا الشاذ الشارد، والقليل البارد.
وما لزم غيرهم فيما أصلت له لزم فيها لا اختصاص لبعض - بالشرط دون بعض...
حتى قال: ولم ينصف الفقيه العلامة محمد بن يحيى بهران بما ذكر في ديباجة كتابه تخريج " البحر" الذي سماه: "جواهر الأخبار" من قوله: "وقد آثرت رواية الكتب الستة على غيرها من كتب الأحاديث كجامع الأصول" .
ثم قال: وما شأن "جامع الأصول" إلا مثل "الانتصار"، و"الشفا"، وما التفرقة بين ذلك إلا أنهم يقولون: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وهؤلاء يقولون: " قال البخاري " !
فإن قالوا: قد عرف أن لها طرقا مسندة. قلنا: كذلك " أصول الأحكام"، و"الشفا" و"الانتصار" إليها طرق مسنده، وهم قد أسندوا.
وأما "أصول الأحكام"، فقد ذكر أصولها كلها بأسانيد "شرح التجريد"، وهو مختصر منه، فهذا أشد شرطا من البخاري ومسلم.
وأما "الشفا"، فقد صرح بأنه ما روى إلا ما صحت أسانيدها، وأما "الانتصار" فصرح الإمام شرف الدين بطرقه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام-.
ومع ذلك فإن معلقات البخاري معروفة.
Page 2
ثم قال: وإن كان المرجع إلى الرجال؛ ففي كل من رجال الفريقين أقوال منها الحق ومنها الباطل، فقال يحيى بن معين في الشافعي: ليس بثقة، وأن أبا زرعه ضعف البخاري، وقالوا في مالك: روى عن جماعة يتكلم فيهم، وأن صاحب "الميزان" وغيره قد ضعف كثيرا من رجال البخاري ومسلم.
ثم قال: وهم لا يرتابون في القبول ولا الرد؛ لصحة المعنى وبطلانه، ولذلك صححوا أحاديث الجبر والتشبيه ونحوها مما يصادم كتاب الله تعالى في صريح القول.
أقول: إن في هذا ما لا يخفى من التساهل؛ إذ أهل الحديث من المسلمين وليس ما رووه يحل رده جميعا، إذ الواجب على كل مكلف الإنصاف من نفسه، ولا يحابي في دينه، بل الواجب قبول ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل حال، قال الله تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ويقول: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [النور:63].
ولا شك ولا ريب أن أكثر السنة في الأحكام وغيرها دائرة على المحدثين بالضرورة، ولو قلنا بمقالة القاضي بن سعد الدين للزم تعطيل الأحكام الشرعية بالمرة -والعياذ بالله- ولأدى ذلك إلى رد الأخبار الصحيحة المشهورة والمتواترة، وهذا لا يقول به من له أدنى بصيرة وإنصاف من نفسه، فالحق أحق أن يتبع، والله عند لسان كل قائل.
إن قيل: إن قد نقم السيد الهادي ابن إبراهيم الوزير بأشياء توافق القاضي صاحب هذه الرسالة، وذلك في كتاب السيد: " إزهاق التمويه" حيث قال، أول كتابه:
ومجتهد في ذم قوم أكارم
وقال: يقولون لا فضل لعلي فوق غيره.
وقال:
وإن ذكروا يوم الغدير تأولوا
وقال: وهم أنكروا حصر الإمامة في بني البتول.
وقال: وهم أبطلوا الإجماع من آل محمد.
وقال: وهم أنكروا لعن ابن هند وسبه.
وقال: وهم أنكروا إسناد يحيى وقاسم.
Page 3
هذا مضمون ما اشتملت عليه رسالته فشرح هذا وبين أقواله وليس هذا لجميع العلماء بل هم مختلفون وأكثر الزيدية، وبعض المعتزلة، وبعض أهل الحديث، والسلف يفضلون عليا من غير رفض للمشايخ، وبعضهم يتوقف في التفضيل، وأما تأويل حديث الغدير فهو ظاهر عند جميع العلماء من المعتزلة والأشعرية والأكثر من الزيدية، ولكن دلالته خفية غير جلية، لأن لفظ "المولى" له وجوه كثيرة نحو ستة عشر وجها، فالمعتزلة، والأشعرية بنو على مقتضى التأويل، والزيدية بنو على أنه يقتضي أن النص خفي لاحتماله فلا قطع في دلالته كما حققه الإمام المهدي في "الغايات" وغيره وأما إنكار حصر الإمامة، فهو للمعتزلة والصالحية، والحرورية، والأشعرية، فهؤلاء قالوا: الإمامة في جميع قريش، وإن أهل البيت أولى وأحق، واستند الصالحية، والحروية، من الزيدية وغيرهم إلى نص لزيد بن علي في مجموعه الكبير بمثل ذلك لما سأله أبو خالد الواسطي عن منصب الإمامة؟ فقال: هي في جميع قريش إذا كان برا تقيا عالما فلا شك أن المسألة خلافية بين الناس، وأما إبطال إجماع آل محمد فالخلاف -أيضا- والإمام يحيى والإمام المهدي بنو أن دلالة الإجماع من حيث هي ظنية لإحتمال أدلته وأن الحجة إنما هي في الكتاب والسنة وهو ظاهر قول الهادي أيضا أول المنتخب.
وأما لعن ابن هند فعند العلماء كافة أنه لا يجب اللعن ولا تعبد المسلمون به، وعند كثير من العلماء أنه لا يجوز لعن المسلم المعين لمعصية لجواز حسن خاتمته بالتوبة أو نحوها، واللعن إنما هو لغير المعين كما قال تعالى: { ألا لعنة الله على الظالمين } [هود:18]، ومما يدل على ذلك قوله تعالى:
Page 4
{ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } [آل عمران:128]، فإنها نزلت في الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلعنهم في قنوت الصلاة فامتنع - صلى الله عليه وسلم - وتركه فإذا كان هذا في الكفار فأولى في المسلمين. وقال تعالى: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } [البقرة:134].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموه). وأما إنكار إسناد يحيى وقاسم فلم ينكره أحد أصلا بل إذا جاء مسندا من طريقهم عمل به على الرأس والعين، وإنما أنكر المنكر المقاطيع والمراسيل بغير إسناد؛ إذ شرط الحديث الإسناد كما قرره المؤيد بالله وغيره من أهل الحديث لتزول الجهالة عن الراوي؛ لأن رواية المجهول لا تصح، وقد رجع السيد الهادي عن ذلك فإنه بعد أن رحل إلى مكة المشرفة فأسمع "جامع الأصول" على أن ضهيره وغيره، فلما عرف الحديث وطرقه وشروطه وعلومه رجع عن هذه الرسالة وحسن ظنه بالصحابة كما صرح به في كتاب آخر له.
وقوله: أعانه على ذلك كثير من أصحابنا.. إلى آخره .
أقول: ذلك منهم كان تبعا للدليل، ومراعاة للإنصاف، وعدم العصبية، وليس من اتبع السنة والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبتدعا إنما المبتدع الذي رد السنة النبوية فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي قوله: كثير من أصحابنا حجة عليه بأن أكثر الزيدية متبعون للسنة والحديث من الكتب المرونة، وأنه خالف أكثرهم، وخالف علماء الإسلام أجمع، وإنما يمنع الاحتجاج بالسنة النبوية الخوارج.
وقوله: وما يتوهمه كثير منهم من أن صناعة الحديث وقوانينه إنما عنى به محدثو الفقهاء ومن أهل البيت إلى آخره.
Page 5