أما الكنيسة فكانت مملوءة بالمصلين ولم يخل في مقاعدها إلا مكان واحد جثوت عنده قرب الكاهن الراكع أمام المذبح يتلو المسبحة باللاتينية فيرد عليه الجمهور بلهجة الخاشع المتهيب.
لا أعرف شيئا أجمل وأسمى من الصلاة في أي دين من الأديان؛ لأنها ترفع النفس إلى أعلى درجات الارتقاء ومحاولة الدنو من روح الحياة الكبرى. هي مناجاة العابد للمعبود، هي شكر المخلوق للخالق واستعطافه لاستنزال عطاياه. وما أعذب هذا الاعتقاد أن في السماء، هناك وراء جمع القوى والعجائب الكونية، إلها قديرا لا يقضى دونه أمر، لديه النعم يفيضها على الحاجة البشرية، وعزة يتلاشى حيالها ضعف الإنسان، وجود يعم البرايا فتموج وتتنوع وتنبض بالحياة والقول والتحول.
إلا أني لا أستحسن الصلاة الآلية المستطردة على وتيرة واحدة دون أن يشترك فيها العقل والقلب؛ الصلاة المتعاقبة ألفاظها بين الشفاه والأصابع تعد منها أرقاما معينة؛ لأنها أبعث إلى التنويم المغناطيسي منها إلى الإيقاظ الروحي. قد يكون هذا التأثير من تفنن الشيطان في التجربة والخداع - قاتله الله - لقد وسوس في صدري حتى شتت أفكاري وحملني على إحصاء الحاضرين. وكانت النتيجة أنى جزمت بأن النساء أسبق إلى دخول السماء نسبة إلى عددهن في الكنيسة؛ إذ لم يكن بين مائتي امرأة إلا رجلان وخمسة أرباع. أما الرجلان فرجلان، وأما الخمسة الأرباع فصبيان صغار خمسة جاءوا مع أمهاتهم. وكم كنت ظالمة في الإحصاء والحكم! ذلك أني عند الخروج وجدت جمهور الرجال في مدخل الكنيسة، يقفون هناك مراعاة للسيدات وتكرما لهن بالمقاعد.
وظل الخناس الوسواس يجربني فحسن لي تفحص المعبد فتفحصت جدرانه وما قام عليها من صور وتماثيل، وهندسته وما ميزها من نقوش ورموز، وهياكله وما تناسق عليها من صلبان وطاقات أزهار، تلك الأزهار ذات الانحناء السري، تتخللها شموع كأن لهيبها تذكارات لاذعة في شفق الغيبوبة والنسيان.
لكل شيء في العالم نهاية. صمتت الأصوات فمشى الكاهن إلى الدرابزين أمام المذبح الكبير وبدأ موعظته الإيطالية. وكان يقول أشياء عادية بصوت المثبت، وإشارته مرتبكة كإشارات التلاميذ في حفلة توزيع الجوائز، ولكن لم يلبث أن ارتفع صوته وركزت هيئته، واتسعت إشارته، ولمعت عيناه وهو يقول:
إلى مريم ربة هذا الشهر الجميل يجب أن تلتجئ النساء جميعا؛ فالأمهات يتعلمن منها التجمل بالصفات التي أحاطت بها ابنها يسوع: وهي الحنان والحصافة والمحبة الصادقة التي لا زهو فيها ولا تهور. لقد كانت، وما زالت، وستبقى أبدا أسمى مثال للأمومة القدسية، تسير الأمهات وراءها مستوحيات أساليب التربية والتهذيب.
إليها يلتجئ اليتامى الذين لا أم لهم فيجدون في حضنها الراحة والعطف والمساعدة. إليها تلتجئ العذارى؛ لأنها أبهى مظهر للطهر والحشمة والوداعة.
اسمعن يا أخواتي يا نساء القاهرة! إليكن أوجه هذه الكلمات فاقبلنها؛ لأنها خلاصة اعتقادي. تعلمن الحشمة من مريم، أنتن بنات اليوم الناسيات. ما وقار المرأة واحترام الناس لها إلا نتيجة حشمتها وعفتها. قد تكن عفيفات طاهرات في قلوبكن، ولكن كيف يصدقكن الرائي ويحسن الظن بكن وأنتن تسرن في الشوارع بهذه الأزياء الحديثة التي تعري منكن العنق والنحر والذراعين، هذه الأزياء الشريرة بأقمشتها الشفافة، الشريرة بقصرها وضيقها، التي تعدم لابستها كل هيبة وجلال؟
أللحب تتزين؟ أللحب تتهن في هذا التهتك؟ ألا فاعلمن إذن أن حب الرجل لا يكتسب بالتهتك بل بالتكتم. الرجل محارب من طبعه يهوى الفتوحات ويستميت في الإخضاع، بينما هو يعرض عن كل ما لا يكلفه ألما وكدا.
أم أنتن تتزين للجمال؟ ولكن هل الجمال في الزينة والأناقة وملاحة الوجه وتناسب الأعضاء؟ كلا! كم من امرأة تحسب آية تناسب وملاحة، وهي مع ذلك غير جميلة، إذا سر امرؤ بمشاهدتها مرة أو مرات فهو لا يتمنى مجالستها ويمل كلامها وسخافتها بعد أن يعرفها قليلا؛ إذ يرى أن أحسن ما فيها هو هذا الشيء الخارجي الذي لا يكفي لامتلاك القلوب واكتساب الأرواح.
Unknown page