أخطأت بلا شك! ماذا تقول النسوة؟ .. ماذا تظن حبيبتي؟ .. آه يا له من موقف! .. لو عرفت هذا من قبل ما فكرت في الزواج أبدا ! .. الموسيقى تعزف، والزغاريد تجلجل، وأريج الروائح الزكية يتطاير في الجو. الموت أهون من الزواج! هل أظل الدهر ضحية للمنصات؟ بالأمس قضت منصة الخطابة بكلية الحقوق على مستقبلي، والليلة تكاد تقضي منصة العروس على حياتي! ترى ماذا يقلن عن عيني اللتين لم تزايلا الأرض؟! وذكرت بغتة أمي، ترى أين تجلس؟ إنها تراني في هذه اللحظة بلا ريب، وتضاعف حيائي، وتولاني شعور من يضبط وهو يقترف عيبا. ووجدت إحساسا لا قبل لي بمقاومته يدفعني إلى البحث عن موضعها، وارتفعت عيناي في رفق وحذر، ولكنها كانت أقرب مما أتصور .. كانت تجلس في الصف الأول الذي يحدق بالمنصة، فالتقت عينانا، وتبادلنا ابتسامة رقيقة. وطار خيالي إلى صورة من الماضي البعيد، فرأيتني أقف وراء سور المدرسة الأولية وهي بموقفها على الطوار المقابل للسور، ترنو إلي بعين التشجيع والتوديع، فشعرت بغمز على قلبي.
وتنفست الصعداء حين أقبلت نازلي هانم نحونا وقالت مبتسمة: الآن إلى بيتكما مصحوبين بالسلامة.
ثم خاطبتني هامسة: ستذهب الجارية صباح مع سيدتها الصغيرة؛ لأنها لا تحتمل مفارقتها .. وإني أوصيك بها خيرا، وستجد فيها خير طاهية.
وتنحت المرأة جانبا مغرورقة العينين، ونهضنا من مجلسنا، وأخذت بيد عروسي وغادرنا المكان في سير وئيد، والزغاريد والأنغام تودعنا حتى باب العمارة. وكان أحد أصدقاء جبر بك قد وضع سيارته تحت تصرفنا حتى نبلغ دارنا. واحتوتنا السيارة معا، ثم انطلقت بنا. والتفت نحوها متنهدا فكأني أراها لأول مرة، وقلت بارتياح: يا له من موقف قاس! - يا لك من خجول! .. ألهذا الحد؟!
فندت عني ضحكة أداري بها ارتباكي، وجعلت أتملى غبطة تملأ القلب والعين والروح.
40
أغلقت باب المخدع بيد مضطربة. كان هذا الجناح من الشقة خاليا صامتا، تفصله صالتان صغيرتان متداخلتان عن الجناح الآخر حيث توجد حجرتا أمي والاستقبال ... وكان مخدعنا مربعا يتوسطه الفراش، وعلى يمين الداخل مباشرة مقعد طويل ذو لون وردي، وفي الجدار المقابل التواليت والمشجب. مضت رباب إلى آخر الحجرة وجلست على مقعد التواليت بين صورها المعكوسة على مراياه التي ترسم حولها نصف دائرة، وراحت تنزع إكليل الفل والياسمين؛ بينما وقفت في وسط الحجرة مرتفقا حافة الفراش الخشبية، مرددا بصري بين ظهرها الرشيق وصورها المتنافسة في الحسن. هذه الحجرة هي دنياي، وحسبي بها من دنيا، وهذه الفتاة هي نصيبي من الكون وحسبي بها من نصيب، هي حبي وسعادتي وأملي، ولن أسأل الدنيا مطمعا بعد اليوم.
انتهت حبيبتي من نزع إكليلها، وأخذت تسوي ما بعثر من خصلات شعرها الكستنائي في تمهل من يرغب في اكتساب أقصى ما يسعه من وقت. ولكن ستنتهي حتما فترة الانتظار، فما العمل؟
رباه إن قلبي يقظ متوثب، وإني لأجد رعدة ترعش ركبتي، وإني لأتساءل في حيرة عن الخطة التالية بنفس هيابة وحياء شديد يدور مع دمي. وأدركت رغم اضطرابي أنه ينبغي أن نبدل ملابسنا، ولكني لم أدر كيف يتم هذا وكلانا في حجرة واحدة مغلقة! وبدت لي وكأنها تنتظر مني شيئا، فقد انتهت من تسوية خصلاتها وإن تظاهرت بالعكس، ولاح في وجهها الارتباك والحرج. وإني أعلم أمورا ولكن فاتتني التفاصيل، وأعوزتني الحيلة والعزيمة. ليتني استخبرت أخي مدحت، أو ليته كان لي أصدقاء أرجع إليهم في أمثال هذه الأسرار، ولكن قاتل الله الحياء الذي يقيم بيني وبين أخي والناس سدا، تبا له! لماذا لا يزايلني وقد صرنا وحدنا؟!
وبلغ ضيقي بصمتي وجمودي منتهاه، وثار بي الغضب على نفسي، فصممت لأتكلمن - وهو أضعف الإيمان - وقلت بصوت غريب أنكرته أذناي: ما أجملك!
Unknown page