وفي صباح الغد - وكنا في مطلع الخريف - ألبسوني بدلة وطربوشا وحذاء جديدا، فعاودتني ذكريات العيد السعيد، ومضى بي جدي إلى عطفة قاسم غير بعيد من بيتنا، ودخلنا ثاني بناء صادفنا إلى اليسار؛ مدرسة الروضة الأولية الأهلية، وقد وقع عليها الاختيار لقربها من البيت. كانت تتكون من فناء متوسط ودور واحد من ثلاث حجرات؛ فصلين وحجرة الناظر. وقد استقبل الناظر - وهو صاحب المدرسة أيضا - جدي بالاحترام والإجلال، ولاطفني في محضره برقة، وأطرى نظافتي وجدة ثيابي، فآنست إليه واستبشرت به خيرا. وتم إثباتي بين تلاميذ المدرسة في دقائق، ودفع جدي المصروفات، وعدنا وهو يقول لي: أنت الآن تلميذ عظيم، وستفتح المدرسة يوم السبت القادم ...
وأعلنت أمي عن ارتياحها، ولكنها لم تستطع مداراة ما اعتراها من كآبة، حتى برم بها جدي، وقال لها بشيء من الحدة: ماذا تفعلين غدا إذا بلغ السابعة وأخذه أبوه؟!
فرمقت جدي بنظرة فزع وألم وهتفت قائلة: لن يكون هذا وأنا على قيد الحياة.
وفي يوم السبت المنتظر أوصلني جدي إلى المدرسة وعاد من حيث أتى. وقد تعلقت بيده وهو يغادرني، واستشعرت خوفا مباغتا أنساني طول اشتياقي إلى تلك الساعة، واقترحت عليه أن يعود بي! ولكنه ضحك ضحكته الرنانة وقال وهو يومئ بأصبعه إلى التلاميذ: إليك أهلك الجدد!
وقفت على كثب من الباب في ارتباك لم أعان مثله من قبل، وتولاني الندم، ونظرت إلى التلاميذ المتفرقين في الفناء بخوف وحياء، وتمنيت ألا تقع عين علي. ولكن أناقتي وجدة ثيابي لفتتا إلي الأنظار فغضضت بصري في خجل شديد، وتساءلت: حتام يطول ذاك العذاب؟ بيد أن غلاما اقترب مني وحياني، ووقف معي كأننا أصدقاء، ثم سألني بغير مناسبة: هل أبوك الذي جاء بك؟
وكنت أعد جدي جدا وأبا، فحنيت رأسي دلالة الإيجاب، فعاد يسألني: ما مهنته؟ .. وما اسمه؟
ولئن كان الحديث ضايقني، إلا أني رحبت بذاك السؤال خاصة، فقلت بفخار: الأميرالاي عبد الله بك حسن.
وقال لي الغلام إن أباه فلان بك كذلك، وقد نسيته. ولعله ضاق بصمتي وجمودي فغادرني وانضم إلى غيري من الرفاق. اشتدت بي الوحشة وتساءلت: ترى أأستطيع أن أندمج في أولئك الغلمان؟ هل يمكنني حقا أن ألاعبهم أم تتكرر المأساة التي وقعت لي في فناء بيتنا؟ وتقبض قلبي خوفا، ولو واتتني الشجاعة على الانسحاب من موقفي والعودة إلى البيت لفعلت. ثم دق الجرس فأنقذني من أفكاري، وأوقفونا صفا، وأدخلونا الفصل. لم أكن أتصور حتى ذلك الوقت إلا أنني التحقت بملعب كبير، فلما أن جلست إلى قمطر، وراح المدرس الشيخ يفتتح العام الدراسي بالإرشادات التقليدية الخاصة بالنظام وعدم الحركة والكلام، أيقنت أني دخلت سجنا .. وتولتني الدهشة والانزعاج، ترى أأخطأ جدي أم خدعوه؟ وطار خيالي إلى البيت فتمثلت لي أمي في جلستها وحيدة، وتساءلت: ترى هل نسيتني؟ إنها الآن تراقب أم زينب وهي تكنس الحجرات وتنفض الأثاث، ألم تفكر في؟ .. هل تطيق فراقي طول اليوم كله؟! وانتهت الحصة الأولى دون أن ألتفت لحظة واحدة إلى كلام الشيخ، ولا عجب، فقد قررت أن يكون ذلك اليوم الأول والأخير. وفي دقائق الاستراحة رأيت الناظر يمر بباب الفصل، فتنفست الصعداء، ومضيت نحوه بلا تردد؛ إذ لم أكن نسيت لطفه ورقته، واقتربت منه في حياء، فالتفت نحوي في دهشة، ورمقني بعينين جامدتين متسائلتين، فظننته قد نسيني، وقلت بصوت لا يكاد يسمع: أنا ابن الأميرالاي عبد الله بك حسن.
فسألني بدهشة: وماذا تريد؟
فلممت أطراف شجاعتي وقلت: أريد أن أعود إلى البيت.
Unknown page