هنالك كائن بلا جسم، قابض بيده القوية على جميع الموجودات، يسمى «السكوت»، وهو في الحقيقة صدى الفضاء ولسان حاله.
وهذا الكائن المسمى سكوتا مملوء بالخواطر النفيسة والتذكارات العزيزة التي تخلب العقل الإنساني بلسانها السحري، مملوء بأسرار الماضي وأشجانه وشكاويه، تلك التي يذوب لها القلب حسرة وأسى كلما ردد الأثير صداها.
ولهذا السكوت الناشئ عن اللاشيء والمستولي على العالم بأجمعه السلطان المطلق والنفوذ التام في كل زمان ومكان، فهو موجود في وسط الزحام حيث الضجيج والضوضاء، وفي أطراف كل جلبة ولجب ومع كل طنطنة ودبدبة.
ذروة كل علو صمت وسكوت، وفي قرارة كل عمق لا تجد سوى السكوت، وكما أن مبدأ كل عاصفة سكوت ومنتهى كل جلبة وعويل سكوت؛ كذلك لا تجد في أشد حالات الدهشة والتأثر برهانا أبلغ من الصمت والسكوت.
إن الصفير الناشئ عن شفافة الأثير ورقته ليس إلا نغمة موسيقية تردد كل زاوية مهجورة في العالم صداها بلا انقطاع، إلا أن وقعها لا يحلو إلا في النفوس المكروبة المتعطشة للسكون والراحة؛ لأنها تسكن ثائرتها وتبعث فيها روح النشاط والقوة.
ومع ذلك فهنالك صمت مريع لا تطيقه النفس، مملوء بأنواع النقمة والغدر والتهديد، فمثل هذا الصمت الرهيب الذي ترتعش أمام قسوته كل الموجودات ينشأ أيضا من صميم الفضاء، إلا أنه في هذه الحالة لا يعد نغمة حلوة، بل يكون صيحة العدم المفزعة.
كل صمت هو حي متكلم؛ لأنه يحوي بين جنبيه تاريخ العالم وحوادثه أجمع؛ ولذا ففي مقدوره أن يعيد لزوايا النسيان والهجران بهجتها الأولى ورواءها السابق بما يستعرضه أمامها من مناظر الأيام السالفة وخواطر الساعات الماضية.
الفصل العاشر
الألم مخلوق من الألم فقط، فلا توجد في عنصره مادة أخرى؛ ولذلك كان من أصح الإحساسات البشرية وأصدقها، فكل حالة روحية قد يكون لها مظهر داخلي، وكل تأثر قلبي قد يكون له ماهية أخرى، أما الألم فلا يخالطه جوهر آخر، وبهذه المزية عد من أصفى التأثرات وأنقاها.
انظر إلى الألم من أي وجهة أردت فلا تجد له غير لون واحد ومظهر واحد.
Unknown page