46

وكان في المنزل عشير قديم يعلم أين ذهب ومن أين عاد، فلما طال سكوت همام وعزوفه قال له صاحبه يمازحه ويسليه: علام أنت آسف يا صاح؟ هل تركت فيها من بقية وطر تشتهيها؟ هل عندها من متعة لم تستوف شبعك منها؟ فما بالك تأسى وتكتئب وقد أراحك الله من رفاتها بعد أن نعمت بروحها ولبابها؟

عزاء حسن حين تكون المرأة التي تفقدها مائدة تفرغ منها وقد أتيت على آخر لقمة منها، أما حين تكون جزءا من الحياة لا تنفصل إلا فصلت معها من لحمها ودمها وظاهرها وباطنها، فذلك أضعف العزاء، بل هو نقيض العزاء.

إنما يعزيك الزميل الذي تحسه قريبا بشعور مثل شعورك، ولقد يغنيك من عزائه إحساسك بقربه ساعتئذ وهو صامت واجم، دون كلام ولا إيماء.

أما الكلام الذي سمعه همام من صاحبه وهو في جواره فقد تركه يصغي إليه كأنه يتسمع ألفاظا مغلقة من هاتف لا يراه.

من هي؟

من هي سارة؟

من هي الفتاة التي مشينا معها هذا الشوط ولا نعرفها، والتي رأينا منها خطوطا ولم نر منها صورة، والتي قرأنا عنها كلمات كثيرة ولكنها كلمات بينها كثير من الفواصل، وحروفا كثيرة ولكنها يعوزها كثير من الإعجام؟

هي شيء يعرف ولا يعرف ...

أنتكلم بلسان الصوفية؟ كلا، بل بلسان العرف المقرر والمشاهدات اليومية، فإن سارة بنت من بنات الواقع الحي الملموس ... وبنات الواقع هن اللواتي نعرفهن جيدا ولا نعرفهن جيدا، ولو كانت من بنات الخيال لما بقي منها شيء مجهول .

وليس بالنافع أن نصفها كما كان يراها همام في أيام صفوه وهيامه، أو نصفها كما كان يراها في أيام نفوره واشمئزازه، أو نصفها كما كان يراها وهو على القرب سائم، أو كما يراها وهو على البعد مشوق، ولكننا قد نصفها مزيجا من جميع هؤلاء فنخلص من وصفها إلى صورة تشبه «سارة» التي خلقها الله، وتشبه سارة التي يذكرها همام بعد زوال الغاشية وانقضاء السنوات.

Unknown page